تجارب الترجمة أو رحلة الفكر ـ عبد الحفيظ أيت ناصر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن المدخل لأي نهضة حقيقة بهذا الاسم لا يمكن ان يكون غير الترجمة. وليس يعيينا أن نقيم هذه الفكرة إذ نحن نظرنا الى الطريقة التي يكشف بها الفكر عن نفسه، وكيف في رحلته تتأسس الحضارة او يتم ابداعها.
ان الفكر الذي ابدع الحضارة البشرية عبر عن نفسه دائما من خلال رحلة، وبذلك فإن الذي ابدع المدينة اليونانية  هو رحلة التعاليم السرية ونزولها الى الساحة، وحاجتها الى الترجمة لكي يتم لها بلوغ مجموع العنصر اليوناني الذي يتفاعل في الساحة العامة.
كشف هذا الفكر عن نفسه عن طريق هذا النوع من الترجمة – البلوغ – التي استلزمها نزول التعاليم، من حيث الترجمة – نقل المعطى – هي التي عملت على ردم الهوة الحاصلة بين مجموع العناصر، هذا الردم انبرى لملئه كائن نسميه فيلسوفا، من حيث هو الذي يحوز القدرة على السباحة بين معطى علوي تمثله التعاليم في اصلها المساري، ومعطى الناس في الساحة العامة وفي النقاش العام، وفي تنقله بين هذين المعطيين ثم ابداع الفلسفة وثم ابداع المدينة اليونانية.

هذا في جغرافيا اليونان، كشف الفكر الاصيل عن نفسه بهذا الكيف، وقد اقتدرت مدرسة بيت الحكمة للترجمة ان تسمح لهذا الفكر ان يمر من خلالها، وهذا ما ابدع لحظة ازدهار جغرافيا العرب، هذه التجربة بحق هي نهضة أصيلة تمظهرت فيها حصافة العقل وقدرته الفذة على ابداع الحضارة.
نرى في رؤيا المأمون الرمزية، التي رأى فيها ارسطو، انها العامل الأساس الذي أسس للمشروع الفكري الضخم الذي مثلته بيت الحكمة، فقد كان العقل مذهب الدولة
المأمونية، هذه الرؤيا نأخذها في جانبها الرمزي على انها ما أسس فعلا لنهضة بيت الحكمة، ويورد صاحب الفهرست نصها على هذا الشكل، من حيث الإجابة عن سؤال، لماذا كثرت الفلسفة في عهد المأمون، يكتب؛
« إن المأمون رأى في منامه رجلا أبيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب اصلع الرأس أشهل العينين، حسن الشمائل جالس على سريره. قال المأمون وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة، فقلت من انت؟ قال انا أرسطوطاليس! فسررت به وقلت: أيها الحكيم اسألك؟ قال سل. قلت مالحسن ؟ قال ما حسن في العقل! قلت ثم ماذا ؟ قال ما حسن في الشرع قلت ثم ماذا ؟ قال ما حسن عند الجمهور، قلت ثم ماذا؟ قال ثم لا ثم. وفي رواية أخرى. قلت زدني، قال من نصحك في الذهب فليكن عندك كالذهب وعليك بالتوحيد»[1]
ولقد إقتدر المأمون (تولى 198هـ - 813م) على بناء مشروع بهذا الحجم، ففي عهده تأسس مناخ فكري، وعلى أعمدة صلدة من الشخصيات، يمكن ان يكون الكندي ابرزها وادق تعبير على خصوصية المرحلة/التجربة فقد كان بجانب انه فيلسوف، مترجما وناظرا في تراجم غيره ومنقحا، وكان على رأس فريق من المترجمين والنساخ والمجلدين، فقد جاء في عيون الانباء انه « كان من تلامذة الكندي و وراقيه: حسنويه ونفطويه وسلمويه واخر على هذا الوزن، ومن تلامذته أحمد الطيب واخذ عنه أبو معشر ايضا»[2]
وكان أبو الهذيل الغلاف ( ت 840م) شخصية مهمة كذلك، فقد كان من شيوخ المأمون، وعلى فكره تم الانتقال بالمذهب الاعتزالي الذي كان مذهب الدولة الى ذلك العهد، الى مذهب فلسفي قائم على أسس منهجية ثابتة.
إن الذي يؤكد اصالة هذه المدرسة هو قيامها على منهج، فالعمل فيها يتم عن طريق فريق عمل على رأس كل فريق استاذ كبير كالكندي  و حنين بن اسحق ( 810م – 873م) فقد كان يجيد اربع لغات: الفارسية واليونانية والعربية والسريانية  ويترجم ويشرف على جماعات تعمل بإرشاده[3]
داخل هذه التجربة الفذة تم نقل ذخائر الفكر البشري من لغات اخرى الى لسان العرب، وحقيق بالذكر أن العنصر الذي شارك في هذا الابداع كان عنصرا مختلفا ومتنوعا، هذا التنوع الذي طبع التجربة جزء مهم من أصالتها، وقد تم على سبيل التمثيل لا الحصر نقل جميع كتب ارسطو غير كتابا الكون والفساد والمقالتين الاخيرتين من كتاب ما بعد الطبيعة[4]
عبر الفكر عن نفسه من خلال هذه التجربة الأصيلة التي كانت بحق حقيقة بأن تدعى لحظة ابداع حضارة، إذ الفكر يعيش دائما في رحلة، بدءً برحلة الأيونيون الى باقي جزر جغرافيا اليونان الى رحلته مدرسة بيت الحكمة في بغداد الى الرحلة الاخرى عبر مدرسة طليطلة في الغرب الإسلامي.
لتكون موضوعة ان الترجمة هي المدخل الحقيقي لأي نهوض حضاري قائمة، وليستلزم منا ذلك بالضرورة اهتماما جادا بالترجمة، والتفكير من جديد في هذه التجارب او رحلات الفكر هذه، مراودةً للمكن، واستشرافا لأي أفق ممكن.

 

[1] ابن النديم، الفهرست، دار المعرفة بيروت لبنان، ص.339

[2] ابن ابي أصيبعة، عيون الانباء في طبقات الاطباء، شرح وتحقيق، د. نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت، ص.276

[3] انظر في المسألة؛ الفارابي، كتاب الجمع بين رأي الحكيمين، قدم له وعلق عليه الدكتور البير نصري نادر، دار المشرق 2001، ص. 57، 58

[4] انظر، عبد الرحمان بدوي، ضمن اعمال ندوة الفكر العربي والثقافة اليونانية، منشورات كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط 7- 10 ماي 1980، ص. 20

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟