بيداغوجيا الإدماج بين الطموحات والإكراهات - الدكتور عبد الرحيم الخلادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

education11تمـهيد:
فتح المغرب في السنوات الأخيرة العديد من أوراش الإصلاح على مستوى المنظومة التعليمية، بل صنف قضية إصلاح التعليم في المرتبة الثانية على سلم أولويات سياسته الحكومية، مستندا إلى آليات عديدة، حددها كل من "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" مع مطلع الألفية الثالثة، والمخطط الاستعجالي 2009/2012. ولعل أقوى المحاور التي تم التركيز عليها، إصلاح المناهج الدراسية، ليتم الاتجاه بوضوح نحو المقاربة بالكفايات عبر وسيلة إجرائية هي بيداغوجيا الإدماج.
لقد أتى هذا الاتجاه في سياق الاهتمام الدولي بهذه البيداغوجيا، والذي عبرت عنه العديد من الجهات، منها مشروع "أهداف الألفية للتنمية" الذي سطرته الأمم المتحدة، والهادف إلى الاهتمام بالإنسان، وتنمية قدراته، وتكوينه بجودة عالية، وجعله مواطنا كونيا... من هنا سيسعى المغرب –عبر محطات الإصلاح- إلى جعل المتعلم في قلب المنظومة التربوية ومحور الإصلاح؛ وهو ما تتيحه بيداغوجيا الإدماج وتساعد على الوصول إليه، باعتبارها قادرة على أجرأة التصورات المرتبطة بتكوين المواطن الصالح، المعبر عن مواهبه وقدراته، والمرتبط بمحيطه، والمنفتح على الثقافات والحضارات الأخرى.


الكفايات وبيداغوجيا الإدماج:
لقد أتاحت المعطيات المشار إليها إحداث ثورة سلمية على بيداغوجيا الأهداف التي اعتبرت التلميذ وعاء فارغا، فدعت إلى شحنه وملئه باستمرار، وهذا ما جعل العلاقة بين المثيرات والاستجابات آلية، من جهة، ومنفصمة عن الحياة اليومية للمتلقي، من جهة أخرى. ورغم هذا، فإننا نجد في أدبيات الإدماج اعترافا ببعض إيجابيات "الأهداف"، والتي تحتاج إلى تجديد وإغناء، وذلك باستثمار ذكاء المتلقي، وحسن توجيهه. وفي هذا الإطار فإنه لايكفي أن يكون للتلميذ مكتسبات ومعارف، بل لا بد من شرط هام، ألا وهو قدرته على تعبئة تلك المكتسبات لحل ما يسمى "الوضعية-المشكلة"، سواء داخل القسم أو خارجه، إلى درجة يتم معها استثمار تلك الكفايات في الحياة الاجتماعية والمهنية، وهذا يصب في اتجاه أعم، هو التركيز على تنمية العنصر البشري.
إن الوعي بصعوبة الانتقال من وسائل بيداغوجية إلى أخرى، دعا الجهات المسؤولة إلى السهر على وضع الصيغ والخطط الملائمة لضمان سلاسة هذا الانتقال وجديته. فانطلق الاشتغال ببيداغوجيا الإدماج، ولو بصيغته التجريبية، منذ موسم 2008/2009، في بعض المدارس الابتدائية، في سياق ما سمي "مراجعة مناهج التربية والتكوين"، وهو اعتراف ضمني بما شاب إصلاح المناهج من شوائب عديدة. من هنا بدأت المراجعة، من خلال عمليات كثيرة، منها تجريب بيداغوجيا الإدماج تمهيدا لتعميمها التدريجي، وارتبطت هذه العمليات بإنتاج عدة التعلم والتكوين على مستويات شتى، وبتأطير الفاعلين التربويين المعنيين بالعملية، ثم تتبع تنفيذ عمليات التجريب في الميدان...
إن بيداغوجيا الإدماج تراهن على دور فعال للمدرسين، بتجاوز الصيغ التقليدية المتصلة بطبيعة منظومة "بيداغوجيا الأهداف"، والاجتهاد وخلق دينامية أكبر، لأن المدرس هو المسؤول عن تفعيل الإدماج، بإنجاز أنشطة ديداكتيكية تستهدف تحريك مكتسبات التلميذ، ومساعدته على تجميعها وحسن توظيفها في وضعيات متباينة. لكن قبل كل هذا، لا بد من دور فعال لبناء هذه المكتسبات بصورة سليمة على شكل تعلمات، تعطي الفرصة للتلميذ باعتباره فاعلا.
يقوم نشاط الإدماج بصفة عامة على تعبئة معارف التلميذ وموارده من أجل حل وضعية-مشكلة، بما يكفل تنمية الكفايات وتطويرها. كما أن بيداغوجيا الإدماج تراهن على العديد من اللحظات (بناء –تنمية –تطوير...) في سياق الممارسة اليومية، وإنجاز العديد من العمليات التعليمية التعلمية داخل الفصل الدراسي، من ذلك ترسيخ كفايات محددة عند الانتهاء من تلقين بعض التعلمات للتلاميذ. والأمثلة على ذلك كثيرة تستحضر مراحل إنجاز كل درس، بدءا من التذكير وتشخيص المكتسبات لربط سابق المعارف بلاحقها، مرورا بالعديد من المحطات، وصولا إلى مراحل التقويم والتطبيق والدعم والإنتاج على حسب خصوصية كل مكون من مكونات المادة الدراسية.
بعض الإكراهات والعراقيل:
الأكيد أن بيداغوجيا الإدماج أداة إجرائية هامة لتفعيل المقاربة بالكفايات، والتركيز على جعل التلميذ في قلب المنظومة التربوية... وقد جاءت هذه البيداغوجيا في سياق مسايرة التطورات الحاصلة في مناهج التعليم عل الصعيد العالمي، كما استجابت لرؤية داخلية وحاجات وطنية. لكنها تصطدم بالعديد من العراقيل والإكراهات والأخطاء، لعل أولها هذا التسرع في عملية تنزيلها، الذي هو وجه من أوجه التسرع المزمن الذي تعاني منه المنظومة التربوية، بحيث لا تعطى الفرصة لإنضاج شروط البناء من الأساس، مما حول التعليم ببلادنا إلى ثوب مرقع بألوان مثيرة للاشمئزاز.
يضاف إلى هذا مشاكل الاكتظاظ، وضغط المقرر، وضعف مستوى التلميذ، وعدم تحكمه في اللغات، وعلى رأسها اللغة العربية، إضافة إلى كون التلميذ يجد نفسه عادة أمام ما يسمى "عائلة الوضعيات"، وهي وضعيات متداخلة لا تبنى على الوجه الأكمل، نظرا لكثرة المواد واحتقان المقرر الدراسي.
لا يغرب عن بالنا أن الفصل الدراسي يضم أصلا عدة تناقضات أبرزها تلك المتعلقة بمستوى التلاميذ، الذي يتأرجح بين القوة والضعف، ودرجات الاستعداد والاجتهاد التي تعرف تفاوتا، ثم تخضع لمنطق المد والجزر... بحيث على الأستاذ أن يراعي كل هذه الفروق بدفع الجميع إلى التقدم، كل حسب الوتيرة الملائمة له، وهذا يتناغم مع معنى الإدماج الذي تتضافر فيه كل من التعلمات الاعتيادية والمنتظمة، وتعلمات الإدماج؛ وكل هذا يزيد من صعوبة الموقف إذا استحضرنا المشاكل المشار إليها سابقا.
في الثانوي التأهيلي –مثلا- هناك مظاهر متعددة لهذا الإشكال، ذلك أن التلميذ، لحد الآن، يصل إلى هذا المستوى الدراسي وهو يعاني عدة نواقص، مما يعني ضعف الموارد، فإذا أخذنا اللغة العربية، نجد لديه نقصا رهيبا على مستوى قواعد الإملاء والنحو والتركيب، وعدم القدرة على التعبير... فهل جاءت هذه البيداغوجيا الجديدة لتفادي الوصول إلى هذا المطب الخطير، خصوصا وأن تطبيقها يبدأ من القاعدة إلى القمة؟ إننا لا نعتقد ذلك إطلاقا، لأن ما يجري اليوم من تحكم في نسبة النجاح يتناقض مع تحكم التلميذ في المعارف الأساسية. فحين نقول إن نسبة النجاح في المستوى الأول ستصل إلى تسعين في المائة، فمعناه أننا سندفع الغث والسمين على السواء لتحقيق النسبة على حساب جودة التعلمات... والنتيجة هي: لا كفايات ولا إدماج، ثم العودة إلى هدر المزيد من الوقت لترميم وإصلاح أخطاء اليوم، وهكذا دواليك.
خاتـمة:
بيداغوجيا الإدماج من أرقى ما تم تأسيسه وتبنيه على مستوى المنظومة التربوية بالعديد من البلدان المتقدمة، ولا يمكن تفسير استيراد المغرب لها إلا بكونه تطلع نحو الأفضل، لضمان التواصل مع البلدان المتقدمة، وهذا منهج يعتمده المغرب في العديد من القطاعات، رغم كونه يتعارض في حالات مع طبيعة البنية الداخلية تربويا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا... لكن المشكل الأكبر يرتبط بقطاع التعليم نظرا لخصوصيته وكثرة مشاكله وصعوبة تدبيره، لذا فإن تنزيل هذه البيداغوجيا في ظل حضور مشاكل كتلك التي أشرنا إلى بعضها، سيجعل الجهة المعنية تواصل عادتها القديمة في الإشراف العملي على بذر وزراعة ما ستجنيه لاحقا من مظاهر الفشل والإخفاق.
عبدالرحيم الخلادي
أكادير

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟