نورث وايتهيد والفلسفة الواقعية المحدثة - علي محمد اليوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تمهيد:
الفلسفة الواقعية المحدثة حركة فلسفية ظهرت متزامنة في كل من انكلترا وامريكا في الثلث الاول من القرن العشرين. وهي  توازت حضوريا ايضا مع انبثاق فلسفة التحول اللغوي ونظرية المعنى لدى رائدها الاول الفيلسوف البنيوي دي سوسيرمطلع القرن العشرين 1905. وكلتا الفلسفتين تقاطعتا اختلافيا في جوانب عدة.

الفلسفة الواقعية المحدثة كانت ردة فعل ضد شتى النزعات المثالية والهيجلية، كما سعت خلق جيل متمرد على الهيجلية الجديدة ممثلة بشخصيتي الفيلسوفين برادلي وبوزانكت. ومن اشهر فلاسفة الواقعية المحدثة  صوموئيل الكسندر 1859 -1938، وكذلك عالم الرياضيات  نورث وايتهيد 1866-1947.

وايتهيد العالم الفيلسوف

ولد وايتهيد عام 1866 باحدى المدن الصغيرة من مقاطعة (كنت( Kent البريطانية شمال لندن. عالم رياضيات واستاذ بالفلسفة عمل في جامعة كامبريدج في انكلترا عشرة سنوات تقريبا ثم تلقى دعوة من جامعة هارفارد الامريكية التي بقي استاذا للفلسفة فيها اكثر من 14 عاما.

اصدر وايتهيد عدة مؤلفات اشهرها (الصيرورة والواقع) ثم كتابه المشترك الاهم الذي شاركه التاليف به بيرتراند راسل (اصول او مباديء الرياضيات) ومن غير الوقوف عنده الاشارة الى ان كل من راسل ووايتهيد عالما رياضيات الى جانب ميولهما الفلسفية كفيلسوفين محترفين.

بحكم الزمالة الفلسفية التي جمعتهما والاهتمام المشترك كعالمين بالرياضيات  تكاملت رغبتيهما تاسيس الفلسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد ضمت الى جانبهما جورج مور وكارناب، ومتاخرا انضم لهم فينجشتين الفيلسوف قبل وفاته بعد افلاته من قبضة راسل كتلميذ نال شهادة الدكتوراه تحت اشرافه. وكانت الوضعية التحليلية الانجليزية وريثة انحلال حلقة فيّنا النمساوية التي كان يتزعمها شليك.

ربما يتبادر للذهن ان هؤلاء النخبة من الفلاسفة الانجليز المميزين جمعهتم الاهداف الفلسفية المشتركة والمنهج الموحد لكن الحقيقة تشير عكس ذالك فهم يتوزعون على اتجاهات مختلفة واحيانا متضادة نوجزها:

  • لقد كان تاثير ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي والقراءة الجديدة ونظرية فائض المعنى في فرنسا (الفلسفة البنيوية والتاولية والتفكيكية) مطلع القرن العشرين طاغيا جدا على مباحث فلسفية اخرى. وكان من العبث الوقوف بوجه تياراتها المتعددة التي كانت تمجد مباحث فلسفة مابعد الحداثة، وانتقال راية فلسفة اللغة ونظرية المعنى من فرنسا الى الفلاسفة الامريكان الذين ادخلوا فلسفة اللغة والعقل وتطوير علوم اللسانيات اللغوية مرحلة متقدمة ومتطورة فلسفيا وعلميا لا زالت مواجهتها ضربا من العبث.

البنيوية لم تتمكن فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات تحجيمها والسيطرة عليها. فقد برز فيها عمالقة من الفلاسفة الذين تناولوا مباحث فلسفية جديدة في تاريخ الفلسفة منهم شتراوس، فوكو، التوسير، رولان بارت، وجيل ديلوز، جان لاكان. هؤلاء الفلاسفة البنيويون الفرنسيون وغيرهم تناولوا الماركسية بنقد متحامل وجريء غير موضوعي ولا منصف كما فعل ذلك شتراوس وفوكو والتوسير. وبعضهم هاجم علم النفس الفرويدي مثلما فعل لاكان، واخرين اهتموا بقضايا الادب كما فعل رولان بارت وجيل ديلوز.

لهذا عمد التيار الاول من الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية (راسل – وايتهيد) وبتاثير من الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة الذي اقترح عليهما وجوب تطويع فلسفة اللغة والمنطق في (علم الرياضيات ) كي ينقذوا الفلسفة من التجريد اللغوي الطلسمي المعقد الذي اعتبروه حشوا زائدا متعدد المتاهات التاويلية التي تحمله تضاربات الافكارالعقيمة قبل تهمة خيانة اللغة. وبعد مرحلة طويلة صعبة من العمل الفلسفي لتحقيق هذا الهدف باءت المحاولة بالفشل الذي كانت نتيجته كسر العمود الفقري للوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية بعد فشل راسل ووايتهيد تطويع الفلسفة لمنطق الرياضيات.

  • الاتجاه الثاني الذي تزعمه في الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية جورج مور وهو فيلسوف لغوي وجد ضالته ان يعلن عن فلسفته اللغوية انها يجب ان تكون لغة الناس العاديين الواضحة بعد ان وجد تراجع فينجشتين عن كل ماذكره في كتيبه الصغير (رسائل فلسفية) وضمنه كتيبه الثاني الصغير ايضا ( قضايا فلسفية ) وقال انه لا توجد لغة تستمد صيرورتها الحيوية وتتجدد وهي خارج مجرى الحياة والمجتمع. واللغة تنتعش وتتطور في حيوية الحياة لاخارجها. وكذلك مقولته اذا عجزنا عن التعبير بوضوح فالصمت يلزمنا.
  • بالتاكيد كان منحى تراجع فرانجشتين قبل وفاته في فلسفة اللغة معارضا عنيدا لفلاسفة البنيوية الفرنسيين وبالذات لكل من بول ريكور وجاك دريدا.

ونادى مور من جانبه متماهيا مع طرح فينجشتين المتزّن بقوله علينا اخراج فلسفة اللغة من مأزقها ليس في التفتيش عن تراكم الاخطاء الفلسفية التاريخية  بسبب تضليل تعبير اللغة لنا في اعطائها المخاتلة الكاذبة بدلا عن صدقية المعنى. وكان هذا الطرح مخاتلة زائفة لم تحتفظ ببريقها الاول لا تقل زيفا عن تيار فلسفة ادانة اللغة في تضليل المعنى الفلسفي. تغييب ماسمي خيانة اللغة للمعنى بخاصة في تفكيكية دريدا كان بسبب تركيزها على ان اللغة هي الفكر في تراتيبية لم تكن موجودة.

 من طروحات وايتهيد الفلسفية

دعا وايتهيد الى استبعاد تعبير التجريد الفلسفي عن مبحث الميتافيزيقا. وكان جليّا تاثير خلفيته الاكاديمية كعالم رياضيات وفيلسوف لغوي معاصر تاثيرا قويا على طرحه التطويعي لكل مباحث الفلسفة وصهره في منطق العلم خاصة القريب من التجربة الواقعية والرياضيات بما فيها فلسفة اللغة رغم تصنيف وايتهيد فيلسوف ميتافيزيقي يؤسس لواقعية محدثة. الا انه سعى الباس علم الرياضيات جلباب فلسفة اللغة والمنطق فوجد مع راسل بالنهاية الشق العميق الذي يفصل بينهما..

يعزو وايتهيد سبب دعوته هذه الى ان شرح الخبرة بالتجريد اللغوي يقود الى متاهات وتفاصيل تاويلية لا علاقة لها بالنتيجة باصل المبحث الذي هو الميتافيزيقا وليس عالم الطبيعة والاشياء في وجودها الواقعي. الذي هو ادراك وجودي مستقل يعبّر عنه الوعي اللغوي التجريدي حصرا ولا مجال لعزل تجريد التعبير عنه...  ما يقصده وايتهيد عن معنى الخبرة ليس هو تراكم المعرفة بكل صنوفها المتعددة الطبيعية والتجريبية بل هي التعبير اللغوي عن مدركات الحس والعقل المباشربالمعرفة القبلية.

الميتافيزيقا مفهوم يتسم باللانهائية والمطلق يتفرع الى مفاهيم لا حصر لها هي ذاتها حمولة تجريدية تأبى احاطتها بالفكر وتعبير اللغة. لذا في حال استبعادنا التجريد عن الميتافيزيقا يصبح الحال معنا عدم وجود ميتافيزيقا تكون موضوعا افتراضيا يدركها العقل بأية وسيلة تعبير عنها من ضمنها تجريد وسيلة التعبيراللغوي المتاحة لنا عنها اليوم. الميتافيزيقا هي ذلك المفهوم المطلق الذي تعجز اللغة الاحاطة به والتعبير عنه. كما يعجز تفكير العقل الاحاطة به والخروج بنتيجة منه.

ينحصر تفكيرنا بالميتافيزيقا بوسيلتي العقل الخيالي وتعبير لغة التجريد الفلسفي الملازمة له وبخلافه ينتفي تفكير العقل الذي لا يقبل التفكير في اللا معنى غيرالادراكي اللغوي ولا الذي يعجز إحاطة خيال التفكيربه. وخاصية الميتافيزيقا الاولى انها عصيّة على الادراك الواقعي او المحدود.ومنطق توصيف الميتافيزيقا لا يكون غيرذلك المفهوم الغامض غير المتعيّن سوى في خاصية ملكة الخيال التجريدي والتفكير الصوري اللغوي اللاواقعي واللاتجريبي معا.

من المسائل التي لم تعد شائكة ولا تداخلها صعوبة تكتنف الاجابات الواضحة التي تضع حدا فاصلا ما بين العلم والفلسفة هي ان العلم محكوم باشتراطات ملزمة له الاخلال بها والحياد عنها يخرجه من خانة العلم مثل التجربة والنتيجة والفرض والمنطق الرياضي ورموز المعادلات الفيزيائية والكيميائية والرياضية وغير ذلك من فرعيات الشروط المتشابكة بها يجعل من استبعاد كل ما ليس له علاقة بالعلم يمكن ان تقبله الفلسفة كونها تجريدا مفتوحا لا تحكمها اشتراطات واقعية ملزمة كقواعد لها.

من جهة ثانية رغم وجود هذا التقاطع مابين الفلسفة والعلم الا انه توجد مساحات كبيرة يلتقيان عليها في تبادل التخارج المعرفي التكاملي مع الحذر الشديد خطورة الدمج بينهما على صعيد المبحث المتعيّن المحدود او اعطائهما قابلية الانابة التناوبية بينهما في ان تنوب احداهما عن الاخرى في التمثيل المطلوب في فهمنا العالم والطبيعة والوجود والحياة.

طريق العلم التجريبي التطبيقي لا يداخل اسلوب الفلسفة التجريدي التفسيري النظري ولا يوازيها بل يقاطعها وتبقى خصائص الافادة المتبادلة بينهما التي اشرنا لها قائمة. فالعلم يزوّد الفلسفة بمواضيع تشتغل عليها باستمرار وتعطي نتائجها للعلم فالعلاقة بينهما تكاملية. وكذا ترفد الفلسفة العلم بموضوعات تعجزها.

من نافلة التعقيب على ما سبق لنا المرور عليه ان تكون معاملة الميتافيزيقا حتى بمنطقها الفلسفي اذا ما توفر لنا مثل هذا المنطق غيراللغوي التجريدي يجعل منها مبحثا خارج العلم وخارج العقل وخارج الفلسفة ولغتها التجريدية. وهو محال امام حقيقة الميتافيزيقا هي المبحث الذي لا تستوعبه الفلسفة ولا تحيط به اللغة.

من الامور الفلسفية الشائكة العصيّة على الايضاح التي يطرحها وايتهيد التساؤل هل معيار نجاح الفكرة براجماتيتها اي منفعتها العملانية المشروطة بالتجربة ام الواقع الذي تعبر عنه الفكرة هو الذي يمنحها معيار نجاحها او فشلها؟

من الجدير ذكره ان هيجل يرى في صحة التطابق بين الفكرة والتعبير عنها كاف لتبيان منفعتها وقبول العقل بها يعني صوابها ومنفعتها قوله ان كل ما هو عقلي واقعي وكل ماهو واقعي عقلي.  اي يكون بالضرورة صحيحا وليس نافعا ملزما. على خلاف من البراجماتية التي ترى صدق الفكرة ليس في تطابقها مع الدلالة الواقعية بل صدقها بالمنفعة العملانية التي تؤكدها التجربة . وعبارة هيجل في سعيه صحة وصواب الافكار يكمن في مطابقة الدال مع المدلول ولم يكن في تصوره البحث عن اثبات براجماتية الفكرة بعلاقتها بكل من العقل والاشياء الواقعية..

طبعا واضح جدا هنا هيجل لا يتوخى من مطابقة المدركات مع الفكرة عنها ان الفكرة تكتسب براجماتيتها النفعية وانما يرغب تاكيد مقياس صواب الفكرة هو في تطابقها الواقعي مع الاشياء بدلالة التعبّير عنها فقط.. البراجماتية المنفعية الواقعية كما هو معلوم تبلورت كفلسفة اولى وحيدة بداية القرن العشرين على يد فلاسفتها الثلاث بيرس، وليم جيمس، وجون ديوي. ولم يكن حاضرا في قاموسها البراجماتي النفعي مقولة هيجل في تطابق الواقعي مع العقلي تناوبيا.

علي محمد اليوسف

المصدر:د.زكريا ابراهيم/ دراسات في الفلسفة المعاصرة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟