الكتابة والمعنى ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ecri-abstrلماذا يكتب الإنسان؟ وهل الكتابة فعل بريء أم أن لها من الأغراض الخفية ما لا تظهره؟ وهل يمكن حصر الكتابة فقط كوسيلة للتعبير، أم أنها هي التي تعبر عن نفسها عن طريق الإنسان؟ الحال أن الوقوف على فعل الكتابة ليس من الجانب الأدبي وإنما من نظرة فلسفية محضة، يجعلنا نعيد ترتيب رأينا حول فعل الكتابة، بما هي قوة وليست مجرد أداة، وذلك من خلال وضعها أمام منطق المعنى، أي هل تلعب الكتابة دور الوسيط لتبليغ المعنى، أم أنها قوة تحاول تكريس معنى على حساب آخر؟
    عندما نعود لتاريخ الكتابة نجد أنها ارتبطت بداية بالسحر عن طريق خطِّ رموز كطلاسيم  للتخلص من الأرواح الشريرة، لتنتقل بعدئذ تطوريا إلى المجال الديني ثم القانوني فيما بعد، وهنا أول لقاء حقيقي بين الكتابة والمعنى، أن تكتب من هذا المنطلق معناه أنك تضع أثرا يفتت بنية الزمن، أي أن فعل الكتابة يحوي في طياته خاصية الحضور، حضور الأحكام والقوانين والعِبَر، وإبقاء سلطة قوية للنص الديني، والحضور من هذا المنطلق يجعل من الماضي حاضرا، كما يحول المستقبل إلى قوة دائمة الحضور بناء على ما نفكر فيه في الحاضر، فلنتخيل دينا دون نص مقدس مكتوب سلفا، سيبدو لنا الأمر صعبا إن لم نقل مستحيلا، من خلاله سوف يسقط النص الديني في منطق الشفهي، هذا الشفهي الذي ما إن ينتقل من شخص لآخر حتى يعرف تغييرات كبيرة في المعنى، من ثمة فإن أول شيء نستخلصه في هذا الأمر هو أن الكتابة حفظ للمعنى وتكريس لقوّته وضمان لحضوره الأبدي، وإبعاده عن بؤرة النسيان.
 

   الكتابة التي تريد أن تحفظ المعنى رغما عن الزمن، هي جُبن وخوف من التبخر والاندثار، إنها آلة تعيد عجن الإنسان من جديد وعلى نفس الطريقة السابقة، كما أنها تؤمن بالنظرة الأحادية للوجود والإنسان بصفة عامة، إنها تضرب منطق الاختلاف لصالح الهوية، إنها تكرار للتكرار ومحاكاة للمحاكاة، هكذا فإن فعل الكتابة وبناء على هذا الشأن، يرتبط تمام الارتباط بالنص الميتافيزيقي الذي يجد في الكتابة وسيلة للتعبير، كما يرى فيها طريقة مثلى لحفظ المعنى، هذا المعنى الذي تحاول الكتابة تكريسه يتحول مع مرور الوقت إلى قوة مسيطرة على الإنسان، إلى أيقونة تقف في وجه كل المتغيرات، بالتالي الحفاظ دوما على المعنى الأصلي ودرء للاختلاف وتغيير المعنى.
    فعل الكتابة عندما يأخذ هذا الشكل الميتافيزيقي الذي يرنو دوما للحفاظ على المعنى الواحد، يلبس من حيث يدري أو لا يدري معطف طرد منطق الاختلاف وتعدد المعاني، كما أنه يحصر أي تأويل من شأنه تعنيف النص المكتوب، من هنا جاءت تلك القداسة التي نعطيها لأول النصوص المكتوبة والتي تنحصر أولا في النص القانوني ثم الديني فالتأريخي، والحال أن فعل الكتابة من هنا يجعلنا نحكم بأنه ليس بفعل بريء، فلا الإنسان يعلم حقيقته ولا هذا الفعل نفسه يعلم ذلك.
    إن من غريب الصدف أن بعض الذين فطنو لعدم براءة فعل الكتابة، قرروا الابداع اعتمادا على ما هو شفهي فقط، وحده التاريخ يحفظ كتاباتهم، لكن ليس من أجل حفظها وإنما من أجل إعادة تأويلها والبحث عن المعاني المتوارية والمختبئة بين تضاعيفها، والحق أنه لنا في ذلك أمثلة عدة يبقى من أهمها الفيتاغوريون الذين قالوا كل شيء في العالم والفكر، بل إنهم قاموا ببناء نظام الكون بشكل دقيق دون الاعتماد على الكتابة، ومع ذلك فإن ما جاؤوا به لا زال محفوظا خارج منطق النص المكتوب، وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى مصداقية ما قاله المؤرخون حول نظرياتهم، أي أن التفكير في هذا الباب يضعنا أمام عدم التسليم المطلق بما كتبوه، وإنما يجبرنا على طرح السؤال على النص نفسه، هاته الأسئلة هي التي تساعدنا نهاية المطاف على التحاور مرة أخرى مع زمن ليس بزمننا بشيء، هي التي تشجعنا على إنتاج معاني أخرى، بل إنها هي التي تقوض التأويل الواحد وتعوضه بالتأويل المفتوح الذي كلما انتهى إلا وبدأ من جديد.
    يمكن إجمال عيب الكتابة في شيء واحد، وهو الخوف من النسيان والاندثار، أي أن فعل الكتابة كان دوما مهووسا باستمرار المعنى الوحيد، إنه يقتل الإبن لصالح الأب، فيجعل من الإنسان وعاء يملأه بالمعاني التي يريدها هو وليس التي يسعى إليها الفرد، إن الكتابة من هذا المنطلق لا يمكنها إلا أن تعيش بمنطق التقليد، أما النسيان بالنسبة لها فإنه داء لا بد من محوه عن طريق الحفاظ على المعنى، والحال أن الكتابة من هذا المنطلق دخلت في حرب لا هوادة فيها مع النسيان، هذا الأخير الذي ما إن وجد نفسه منهزما بسبب قوة حضورها باسم منطق الأثر حتى أبدع شيئا جديدا يقوض الكتابة ويفتتها، يزرع فيها تأويلات لا متناهية بدل التأويل الوحيد، إنها القراءة والتي بواسطتها أمكننا الحديث عن موت المؤلِف، أن تكتب شيئا لغرض حفظه وإبعاده من منطق النسيان، هو سقوط في النسيان ذاته بفضل فعل القراءة، هذا الفعل الذي يرى في النص المكتوب منبعا لمعاني متعددة وليس لمعنى واحد، حيث لم يقتصر على النصوص الفكرية والأدبية، وإنما أيضا على النصوص المقدسة والقانونية، بالتالي فإن قوة الكتابة وإن وجدت في الحرف حفاظا على المعنى الوحيد فإن القراءة وضعتنا أمام منطق تعدد المعاني دون تفوق أي معنى على حساب الآخر.   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟