1
تحليلُ الأنساق الثقافية الحاكمة على العلاقات الاجتماعية ينبغي أن ينطلق مِن صَيرورة التاريخ النابع مِن التُّرَاث الفكري ، بِوَصْفِه حَلْقَة الوَصْل بين المعنى الجَوهري للوُجود ، وشخصيةِ الفرد بكل تَحَوُّلاتها الذهنية وانعكاساتها الواقعية . والتُّرَاثُ الفكري لَيس تَرَاكُمًا آلِيًّا لمصادر المعرفة الخاضعة لِتَقَلُّبَاتِ الزَّمَن ، واتِّجاهاتِ السُّلطة ، والقناعاتِ المُنبعثة مِن العَقْل الجَمْعي، وإنَّما هُوَ تَجميع واعٍ وقَصْدِي لقوانين التفكير العقلاني ، يُوازن بين التاريخِ كَكَائن حَيٍّ ، والثقافةِ كَكِيَان حضاري . والتُّراثُ الفكري لَيْسَ نظامًا اجتماعيًّا يُؤَسِّس لسيطرةِ التاريخ على العقل، أوْ هَيمنةِ الثقافة على التاريخ ، وإنَّما هو نظامٌ معرفي عابر للثَّغَرَاتِ في حركةِ التاريخ ، والتَّشَظِّيَاتِ في الهُوِيَّة الثقافية ، وهكذا يُصبح المُجتمعُ الإنساني فضاءً مِن التفكير ، يَرْمِي إلى تحريرِ الفرد مِن الخَوف ، وجَعْلِه مَالِكًا لِمَسَاره وقراراته ، ومُبَشِّرًا بولادة فلسفة جديدة ، تُعيد الفردَ إلى الواقع ، ولا تَجعله يَهرُب مِن الواقع.وكُلُّ فلسفة جديدة تُؤَدِّي بالضَّرورة إلى صناعة زَمَن جديد، لا يَستغل شرعيةَ الثقافة لتدجينها، ولا يُؤَسِّس بالتاريخ لإلغاء التاريخ ، وإنَّما يَنقُل الوَعْيَ إلى الماضي ، ويَجعل الماضي وَعْيًا قائمًا بذاته ، وطريقًا إلى شرعية الحاضر والمستقبل . وكما أنَّ شرعية المراحل التاريخية لا تَنفصل عن ماضي الوَعْي والوَعْي بالماضي ، كذلك شرعية التُّرَاث الفكري لا تَنفصل عن نَقْد الثقافة وثقافة النَّقْد .

يطرح علينا عنوان هذا المقال مناقشة التساؤل التالي: كيف نمارس حرفة علم الاجتماع بعد مضي أكثر من قرن يفصلنا عن المحاولات الأولية لتحديد المسار العلمي والاجتماعي لعلم الاجتماع؟ فلا يزال لغاية اليوم تطرح قضية التزام عالِم الاجتماع المثيرة للجدل تساؤلات عديدة حول ممارسته لعلم الاجتماع وغاياتها. فعلى سبيل المثال يقف معظم علماء الاجتماع على تخوم السياسيين، وعلى مقربة أشدّ مما يظنون من أصحاب القرار. أليس ذلك ينذر بوقوع عالِم الاجتماع ذاته في الشَّرَكِ فيجبر على اتخاذ موقف ما؟ ، وبالتالي تسييس نتائج وتوصيات بحثه حول دراسة الواقع الاجتماعي.

وفي المقابل نجد أنه ما من عالِم اجتماع إلا وتساءل ولو لمرة واحدة حول نفع أعماله، وهَمَّ في لحظة ما، ربما، بالتدخل شخصياً في مناقشات عصره الاجتماعية واتخاذ موقف ما. وهذا يعني أنه ليس بمستطاع عالِم الاجتماع في هذا المعنى أن يبقى مختبئً في برجه العاجي والإمساك عن مناقشة المسائل الاجتماعية والسياسية خاصةً إذا ما كانت تتعلق مباشرةً بالأعمال التي أنجزها([1]).

 إن المدقق لواقع علم الاجتماع المعاصر، يجد أن معظم علماء الاجتماع يدفنون أنفسهم في شقوق المعرفة الضيقة، إلا أن علم الاجتماع النقدي* Critical Sociology  ([2]) يحاول وبكل جرأة وشجاعة أن يتحمل الإجابة عن الأسئلة الكبيرة المسكوت عنها من قبل علماء اجتماع السلطة الذين يحاولون مراراً وتكراراً أن يطفئوا الشعلة النقدية لعلم الاجتماع المدافع عن حقوق ومصالح السواد الأعظم من أفراد المجتمع .

1
التحولاتُ التاريخية في البُنى الاجتماعية لا تنفصل عن التغيُّرات في السلوك الإنساني ، الذي يتداخل معَ الأحداثِ اليومية ، والظواهرِ الثقافية . وهذا التداخلُ يُؤَسِّس رُؤيةً فلسفيةً تَكشِف مصادرَ المعرفة داخل طبيعة اللغة التي تنعكس على علاقة الفرد بالجماعة ، وتَكشِف أبعادَ السُّلطة الحياتية في تاريخ المجتمع ، باعتباره وَعْيًا يتجسَّد في سياسة البناء الحضاري . وإذا كانت السِّياساتُ تُولَد مِن رَحِم السُّلطة ، فإنَّ العلاقات تُولَد مِن رَحِم اللغة . والوجودُ الإنساني هو القادر على دَمْجِ السُّلطة باللغة ، وإنتاجِ الأفكار التي تَعمل على توليدِ السِّياسات والعلاقات بشكل مُستمر ، وتحديدِ المسار الفاصل بين جَوهر الذات وماهيَّة الصِّفَات ، أي : بَين الكِيَان الإنساني وحالاته المُختلفة في الوَعْي والشُّعور والإدراك ، وهذا يعني أنَّ الكِيَان الإنساني لَيس شيئًا ثابتًا لا يتغيَّر ولا يتبدَّل ، وإنَّما هو كِيَانات مُتَعَدِّدَة تشتمل على هُوِيَّات اجتماعية مُتَنَوِّعَة . وكُلُّ فِكرةٍ تُنتِج هُوِيَّتَها الوجودية الخاصَّة بها ، وكُلُّ حالةٍ تَصنع إطارَها المعرفي المُتَعَلِّق بها . وينبغي أن يكون الحُكْمُ على الفرد والمجتمع قائمًا على اللحظة الزمنية الآنِيَّة ، والشرطِ التاريخي الحالي . فلا يُحكَم على الماضي بمقاييس الحاضر ، ولا يُحكَم على الحاضر بمعايير المُستقبل . والفردُ ابنُ وقته وبيئته ( الطبيعة الزمنية والمكانية ) ، والمُجتمعُ نَتَاجُ تاريخه ( الطبيعة الوجودية والشرعية ) .

1
أهميةُ العلاقات الاجتماعية لا تتجلَّى في قُدرتها على تَوليد أنساق حياتية للفرد والجماعة فَحَسْب ، بَلْ أيضًا تتجلَّى في قُدرتها على تكوين سُلطة معرفية تُوازن بين الأبعاد الروحية والنَّزَعَات المادية ، وتُوَائِم بين أعماق اللغة وقواعد التاريخ الاجتماعي . وكما أنَّ العَالَمَ سريعُ التغيُّر ، ويُغيِّر الحراكَ الاجتماعي ، وحركةَ المشاعر، واتجاهَ الأحداث اليومية، وطبيعةَ الوقائع التاريخية ، فكذلك النظام الثقافي في المجتمع ، فهو سريع التغيُّر، ويُغيِّر صَيرورةَ التاريخ، وماهيةَ الظروفِ المُعَاشة، ومسارَ المنظومة الأخلاقية ، ومضمونَ الذات الإنسانية. وكما أنَّ الإنسان بناء اجتماعي، فكذلك اللغة بناء اجتماعي . ولكنَّ الفرق هو أنَّ الإنسان يَبحث عن الحقيقة في البُنى الوظيفية في المُجتمع ، في حِين أنَّ اللغة تُنتج الحقيقةَ باعتبارها بُنيةً تاريخيةً ، وجَوهرًا اجتماعيًّا ، وصُورةً للإنسان في مِرْآة التاريخ الوجودية . إنَّ الإنسان يَذهب إلى الحقيقة لأنها بُنية مُستقلة عنه ، أمَّا اللغة فهي أساس الحقيقة ، وهُما مُتَّحِدَتان شكلًا ومَضمونًا ، لذلك فإنَّ اللغة لا تذهب إلى الحقيقة ، وإنَّما تُولِّدها في سِياق الالتزام الأخلاقي ، لمنع التبرير الفلسفي لعجز الإنسان عن مواجهة المُسلَّمات الافتراضية ، التي تَفرضها السُّلطةُ الاجتماعية لِمُحَاصَرَةِ أحلام الإنسان ، ومُصَادَرَةِ حُرِّية أفكاره ، وتَطويقِ حركةِ الوَعْي التي تَهدف إلى صناعة بُنية فكرية تنطلق من الزمن ، كَي تتجاوزه ، ولا تغرق فيه .

1
التحليلُ المنطقي للظواهر الثقافية مُرتبط بطبيعةِ السُّلوك الاجتماعي، وبُنيةِ السُّلطة المعرفية . وإذا كان السُّلُوكُ يَكشِف الفِعْلَ الإرادي للفرد ، فإنَّ السُّلطة تَكشِف الجانبَ الفكري للجماعة . وهذا الكَشْفُ المُزْدَوَجُ يُؤَسِّس مَجَالًا اجتماعيًّا حيويًّا ، يَشتمل على البُنى الوظيفية المُسيطرة على الأحداث اليومية ، ويُؤَدِّي إلى إيجاد روابط منطقية بَين الوَعْي كَنَسَقٍ حاكم، والواقعِ كَنَسَقٍ مَحكوم . وإذا كانت مُعطياتُ الواقع المادي تَدفع الأفرادَ إلى الخُضُوع للعقل الجَمْعي ، بِوَصْفِه القُوَّة المُنظِّمة للأعراف والعادات والتقاليد ، فإنَّ إفرازات الوَعْي تدفع الظواهرَ الثقافية إلى الالتزام بقوانين السُّلطة المعرفية ، بِوَصْفِها القُوَّة المُنظِّمة للمعايير الأخلاقية والعوامل العاطفية . وعندما تَقترن ماهيَّةُ القُوَّة بمنظومة الحقوق والواجبات ، تتكرَّس هُوِيَّةُ المُجتمع كمسؤولية مُشتركة وغاية وجودية . والسُّلطةُ والمسؤوليةُ مُتلازمتان ومُتكاملتان ، وتُوجَدان معًا ، وتغيبان معًا. والمُجتمعُ في صَيرورة تاريخية مُستمرة ودائمة، مِن أجل توليد أنماط معرفية مُستندةٍ إلى شرعية الكِيَان الإنساني ، ومُعتمدةٍ على قواعد البناء الاجتماعي ، وهذا يَدفع باتجاه تَوثيق العلاقة بين السُّلطة والمسؤولية كَهَمٍّ وُجودي غَير قابل للانفصال عن الواقع . وكما أنَّ الفرد لَن يَجِدَ نَفْسَه إلا بالتخلُّص مِن العُقَد النفسية المتجذرة في داخله ، كذلك المُجتمع لَن يَجِدَ نَفْسَه إلا بالتَّحَرُّر مِن العُقَد التاريخية الساكنة في أعماقه .

يرى ماركيوز أن المجتمع الصناعي المتقدم قد استطاع " أن يكسب كثيراً من الأرض التي كان على الحرية الجديدة أن تزدهر عليها. لقد امتلك هذا المجتمع أبعاد الوعي والطبيعة التي لم تتلوث في الماضي إلا نسبياً. لقد صاغ بدائل تاريخية في صورته، وليّن من التناقض الذي أصبح يتحمله بهذه الصورة. وخلال هذا الغزو الديمقراطي- الشمولي للإنسان والطبيعة، أمكن غزو المسافة الذاتية والموضوعية المتاحة لعالم الحرية"([1]).

 سعى المجتمع الصناعي المتقدم جاهداً بكل قواه، إلى تفريغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته المتمثلة بالسيطرة والتسلط على الإنسان والطبيعة. فوسائل الاتصال الجماهيري المحصنة بالتكنولوجيا التي يمتلكها هذا المجتمع على سبيل المثال، لا تجد أي عناء يذكر في تحويل المصالح الخاصة إلى مصالح تهم كل أفراد المجتمع من ذوي الحس السليم. حيث يبدو أن كل شيء عقلاني ولا يشوبه أي التناقض أو الخلل.

ويشرح ماركيوز سبب هذه السيطرة أن طاقات المجتمع المعاصر (الفكرية والمادية) الحالية أعظم بكثير مما كانت عليه في السابق، وهذا معناه أن هيمنة المجتمع على الفرد أكثر بكثير من السنوات الماضية، لقدرة هذا المجتمع على استخدام التكنولوجيا وترشيدها في سبيل السيطرة على أفراده من خلال تحسين مستوى معيشتهم وجعلهم أسيرين لها بكل ممارستهم اليومية([2]).

 1
     كيفيةُ تشكيل البُنى الوظيفية في المجتمع لا يُمكن تفسيرُها بِمَعْزِل عن الأنظمةِ الثقافية ، والأنماطِ المعيشية، والتياراتِ الفكرية ، وشبكةِ العلاقات الإنسانية . وعمليةُ التفسير مُرتبطة بالبناء اللغوي كإطارٍ رمزي وهَيكلٍ اجتماعي ، وهذا يعني أنَّها عملية إبداعية ، تبتكر مَسَارَها ، وتُؤَسِّس مصيرَها ، وتُولَد مِن ذاتها ، ولَيْسَتْ انعكاسًا آلِيًّا عن الظروف المادية التي تُحَاصِر الهُويةَ الإنسانيةَ للفرد ضِمن صَيرورة التاريخ، الذي ينتقل _ باستمرار وبشكل دائم _ مِن النَّسَق الاجتماعي إلى الدَّوْر الوظيفي . وإذا كان النسقُ الاجتماعي يَنبع مِن الظَّرْفِ المادي ، والشَّرْطِ التاريخي ، فإنَّ الدَّوْر الوظيفي يَنبع مِن الضَّغْطِ المصلحي ، والفاعليَّةِ الأخلاقية . وهذا النشاط في مصادر المعرفة وقواعد المنهج الاجتماعي ، يُحَوِّل الرابطةَ التفاعلية بين المُجتمع كَدَليل والإنسانية كَدَلالة ، إلى علاقة أخلاقية تُسَاهِم في إعادة تشكيل الظروف الحياتية كَأنوية معرفية إبداعية في مجالاتِ الوَعْي باللغة ، وحُقولِ إدراك الرموز الثقافية . وكما أنَّ مَسَار التاريخ يتحكَّم بالمَعايير الوجودية التي تُنتج الفِعْلَ الاجتماعي ، فإنَّ طبيعة البيئة تتحكَّم بالمَوضوعات الفكرية التي تُكَوِّن الشخصيةَ الفرديةَ والسُّلطةَ الاعتباريةَ .

 1
التراكيبُ الاجتماعية في الظواهر الثقافية تُمثِّل أنظمةً جَوهريةً إنسانيةً ، تستطيع تفسيرَ الطبيعة الرمزية لمصادر المعرفة ، وتَقْدِر على تحليل الإدراك والوَعْي ، ورَبْطهما بالتجارب الحياتية التي تقوم على التَّأمُّل في ماهيَّةِ الأشياء، وطبيعةِ النَّفْس البشرية، مِن أجل اكتشافِ المعاني المجهولة في الأشياء ، والتنقيبِ عن الأحلام المدفونة في الذات. وإذا كان الفردُ يكتسب خِبرته الوجودية من الواقع المُتَشَكِّل شُعوريًّا وماديًّا ، ويُعبِّر عن فلسفته الشخصية مِن خلال تاريخه المُتَشَكِّل زمنيًّا ومكانيًّا، فإنَّ المجتمع يكتسب شرعيته الحضارية مِن قُدرته على صياغة المعرفة ، وبناءِ مسار منطقي يَصِل بين الذات والموضوع مِن جِهة ، وبين مُكوَّنات الوَعْي ومُعطيات الشُّعور مِن جِهة أُخرى ، وهذا يَمنح المجتمعَ القُدرةَ على التعبيرِ عن السلوك الإنساني ، واشتقاقِ القوانين التي تتحكَّم بطبيعته اعتمادًا على الظواهر الثقافية والتجارب الوجدانية والدَّلالات اللغوية . وفي هذا السياق ، يجب التفريق بين قواعد المنهج الاجتماعي التي تُوضِّح الروابطَ القائمة بين الظواهر الثقافية وأسبابها، وبين قواعد السلوك الإنساني التي تُبيِّن طريقةَ التفكير في الظواهر الثقافية ، وضرورةَ التَّأمُّل في أسبابها الباطنية . وهذا التفريق مِن شأنه تسهيل عملية توظيف الأنساق الثقافية في البناء الاجتماعي ، وتحديد أبعاد المكانة الأخلاقية المركزية للفرد في الفلسفة الحياتية ، لَيس باعتبارها محاولة لمعرفة العَالَم وتفسير المجتمع فَحَسْب ، بَلْ أيضًا باعتبارها آلِيَّةً لتفكيك انعكاسات المعرفة من أجل فَهْمها ، وأداةً لإعادة صَهْر العناصر الإبداعية المنسية في نسيج المجتمع مِن أجل النهوض به .