- تمهيد:
يسعى هذا المقال إلى توضيح كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية من خلال التعرّف على الدور الهام الذي يلعبه في حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية بعد أن نجح العلماء في تطوير ذكاء اصطناعي يحاكي الذكاء البشري من حيث المبدأ. في حقيقة الأمر، يعتبر هذا التطور أكبر حدث في تاريخ البشرية جمعاء بعد أن أصبح موجوداً في كل مكان ليغزو كل مفاصل حياتنا اليومية، ويتسلل إلى بيوتنا وسياراتنا وهواتفنا وأجهزة الحاسوب وأنظمة النقل، كما بات يتطور بوتيرة سريعة ملفتة للنظر ليمتلك القدرة على تغيير عاداتنا اليومية ونظرتنا للواقع الاجتماعي مع عدم قدرتنا على مقاومته. لذلك يجب علينا أن نجعله حليفاً لنا لتحقيق أقصى استفادة منه في مستقبلنا من خلال الاستعداد لاكتساب المهارات اللازمة لمعرفة كيفية استخدامه والعمل معه بأمان. لكن السؤال المفصلي الذي يطرح نفسه علينا ما هو مصطلح الذكاء الاصطناعي؟ وما هي مميزاته؟ وكيف سيؤثر على مستقبل حياتنا الاجتماعية؟

1- مفهوم الذكاء الاصطناعي: ظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence) إلى الساحة الأكاديمية في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وبالتحديد في عام 1950، عندما قام العالم آلان ماتيسون تورينج· بتقديم اختبار تورينج الذي يقوم بتقييم الذكاء لجهاز الحاسب (الكمبيوتر)، ويقوم بتصنيفه ذكياً في حال قدرته على محاكاة العقل البشري.  إلا أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ رسمياً كنظام علمي في عام 1956 في كلية دارتموث  في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها أربعة باحثين أمريكيين: جون مكارثي، مارفن مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون. ومنذ ذلك الحين، نجح مصطلح      " الذكاء الاصطناعي " - الذي من المحتمل أن يكون قد اخترع في البداية لإثارة انتباه الجمهور - بما أنه أصبح شائعاً لدرجة أن لا أحد يجهله اليوم، وأن هذا الفرع من المعلوماتية أخذ في الانتشار أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبما أن التقنيات التي انبثقت عنه ساهمت  بقدر كبير في تغيير العالم على مدى الستين سنة الماضية.

 " إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين, مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة"
كار ل ماركس

1- مقدمة:

تشكل نظرية ماركس في المادية التاريخية والجدلية مدخلا منهجا أصيلا في فهم فيبر ونظرياته المثالية. ويحق إذ يكفي للمرء أن يقلب نظرية ماركس ليجد نفسه في فضاء نظرية فيبر، وذلك لأن نظرية فيبر تشكل النظرية المثالية النقيضة لنظرية كارل ماركس المادية. وفي جدل التضاد والتناقض بين مثالية فيبر ومادية ماركس تنفتح آفاق فسيحة لفهم مختلف التجليات الفكرية الخصيبة في الفكر والفلسفة والمناهج الاجتماعية. وحال هذا التناقض بين النظريتين يمتثل واضحا في التشبيه الشعري الذي يقول: ضِدّانِ لمّا اسْتَجْمَعا حَسُنــــــــــا والضدّ يُظْهِرُ حُسْنَـــه الضِــــــدُّ. وقد يجد الباحث في هذه المقاربة بين النظريتين أن كلا منهما تشكل محكا منهجيا لفهم الأخرى ورصد حركتها الفكرية لأن سماء فيبر تنعكس على الصفحات المائية في البحر الماركسي المتلاطم الأمواج. وقد يتجلى التناقض القائم بينهما على صورة تناقض جدلي ديالكتيكي يتخاصب فيه التناقض بين الطرفين على صورة توليد ذهني فكري يتجاوزهما كلاهما في حركة من الفهم والتوالد لا تتوقف أبدا.

لقد أقرّ ماكس فيبر بداية بأنه ولد في عالم فكري هو في جزء كبير منه من صنع كارل ماركس وفريدريش نيتشه"[1]، في عالم فكري وأيديولوجي إما أن يكون فيه المرء مع ماركس أو ضده ولا وسط بين الحدين. وقد شكل هذا الضغط الفكري الماركسي كابوس ماكس فيبر الذي لازمه كظله. ومع ذلك لم يستكن فيبر في البحث عن منهجية جديدة تخرجه من وهج ماركس وعن قوة هائلة تضعه خارج المدار الماركسي الذي استقطب الفكر والمعرفة والفلسفة في القرن التاسع عشر ولم يزل. وقد شكل هذا التحدي الماركسي قوة حافزة لماكس فيبر الذي استلهم ماركس وعمل على تجاوزه بطريقة انعكاسية على صورة انقلاب شامل ضد بركان ماركس وطوفانه الجاذبي. ومع ذلك لم يستطع ماكس فيبر الانفلات من قبضة ماركس نهائيا وكأن الماركسية كانت له قدرا ومصيرا حدد له مصيره على نحو انعكاسي.

1
العلاقاتُ الاجتماعية لا تَرفض التاريخَ ، وإنَّما تُعيد صِيَاغَتَه وَفْق أشكال ثقافية تتلاءم معَ مصادر المعرفة المُتجددة في الوَعْي والواقعِ،وُصولًا إلى قاعدة البناء الاجتماعي التي يتمُّ تأسيسها باستمرار على الوَعْي بالواقع، كنظام فلسفي تَوحيدي للأحلامِ الإنسانية ، والأفعالِ المنطقية ، والأشياءِ المُهَمَّشَةِ ، والذكرياتِ المَنْسِيَّة . وكُلُّ نظامٍ فلسفي هو بالضَّرورة منظومةٌ لُغَوية رمزية تُحَدِّد الأدوارَ الاجتماعية التي يَقُوم بها العَقْلُ الجَمْعي ، بِوَصْفِه شرعيةً أخلاقيَّةً وسُلطةً ثقافيَّةً تُمثِّلان مُحاولةً لتفكيكِ عناصر الزمن الحَاضِن لِمَسَارَاتِ الفرد الوجودية ، وإنجازاتِ المُجتمع الحضارية ، مِن أجل الربط بين فلسفةِ التاريخِ والأحداثِ اليوميةِ ، واعتبارِ طريقة التنقيب عن مَعْنى للحياة طريقًا للخَلاص ، ولَيس عِبئًا على كَاهِلِ اللغة ، أوْ أداةَ اضطهاد للأفكار الإبداعية ، أوْ آلِيَّةَ قَمْع للتفاعلات الاجتماعية . والبحثُ عن الحياة في تفاصيل المُجتمع الاستهلاكي يُمثِّل حياةً جديدةً ، وهذا يَعْني أن شخصية الفرد الإنسانية لَيْسَتْ خَطًّا أُحاديًّا ، وإنَّما هي شبكة مُعقَّدة تنتشر في عملية الانتقال مِن طبيعة الهُوِيَّة إلى ماهيَّة المَرجعية الحاكمة على الهُوِيَّة. وإذا كانت المعرفةُ لا تُوجَد بِمَعْزِل عن السُّلطة المُسيطرة عليها ، فإنَّ الهُوِيَّة لا تُوجَد بِمَعْزِل عن المَرجعية الحاكمة عليها .

 1
وظيفةُ رمزيةِ اللغةِ هي إيجادُ الهُوِيَّات المُتَشَظِّيَة في العلاقات الاجتماعية ، وتحويلُ التجاربِ الشخصية إلى مفاهيم ثقافية مركزية في البناءِ الشُّعوري للفرد،والسُّلطةِ الاعتبارية للجماعة، والمَنهجِ النَّقْدِي للشرعية التاريخية، والمِعيارِ الإنساني للمشروعية الحضارية. ووظيفةُ رمزيةِ اللغة لا تَنفصل عَن مُهِمَّة الظواهر الثقافية في المجتمع ، وهي إيجادُ نِظام أخلاقي مُتكامل يَعْمَل على تطويرِ الأفكار الإبداعية ، وتعزيزِ تَأقْلُم الفردِ والجماعةِ معَ تَقَلُّبَاتِ الواقعِ وأَزَمَاتِه، وتفكيكِها معنويًّا وماديًّا، وتأويلِها شكلًا ومَضمونًا، مِن أجل تحديد تأثيراتها على العقل الجَمْعي ، الذي يُمثِّل خَلاصًا معرفيًّا قائمًا بذاته ، ومُسَيْطِرًا على البُنية الوظيفية للهُوِيَّة الاجتماعية بِوَصْفِهَا مُحاولةً لِتَحَرُّرِ شخصية الفرد الإنسانية مِن قُيودِ البيئة وضُغوطاتِ الطبيعة ، ومُهَيْمِنًا على مركزية الوَعْي في الواقع بِوَصْفِهَا صَيرورةً تاريخيةً تَكشِف الأنساقَ الكامنةَ والعناصرَ المَكبوتةَ في الحياة اليومية ، على المُسْتَوَيَيْن الفَرْدي والمُجتمعي. وإذا كانت صَيرورةُ التاريخِ تتجسَّد في رمزية اللغة وعيًا وإدراكًا وإرادةً ، فإنَّ الحياة اليومية تتجسَّد في بُنية الفِعْل الاجتماعي فِكْرًا ومُمَارَسَةً وتطبيقًا ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيل الظواهر الثقافية كنظامٍ عقلاني مُتَجَاوِز لِسِيَاقَاتِ التفكير الاستبدادية ، وكمنظومةٍ حضارية حاملة لِمَاهِيَّة الإنسانية . واتِّحَادُ النظامِ العقلاني والمنظومةِ الحضارية يَمنع فَصْلَ الوَعْي عن الواقع ، ويَرْدِم الفَجْوَةَ بين صِناعةِ الثقافة وتعقيداتِ الحياة اليومية . وكُلُّ نظام عقلاني يَحتاج إلى أدواتِ تنقيبٍ عن آثار سُلطة المعرفة في العلاقات الاجتماعية ، وكُلُّ مَنظومة حضارية تحتاج إلى آلِيَّاتِ تفسيرٍ لرمزية اللغة في التجاربِ الشخصية والثقافةِ المُتَجَانِسَة .

" إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء " [1]
كارل ماركس “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”

1- مقدمة:

يُعدّ الفيلسوف الاقتصادي الألماني كارل ماركس (Karl Heinrich Marx: 1918-1883) [2]- مؤسس النزعة الماركسية - واحداً من الآباء الخمسة الأوائل لعلم الاجتماع، ويصنف على أنه أكثرهم نفوذاً وتأثيراً في الفكر السوسيولوجي المعاصر كما هو الحال في الفلسفة الحديثة، ولا غرو أنه ترك بصمته المميزة في مجال الفلسفة الاجتماعية الحديثة، وقد قدر له أن يؤسس لنظرية المادية التاريخية التي تشكل الإطار المنهجي والتاريخي لعلم الاجتماع الماركسي الذي استطاع أن يسجل حضوره في التاريخ بتدفق كبير من الأعمال والدراسات الهامة في تاريخ السوسيولوجيا العالمية.

ومع أن كثيراً من الباحثين يصنفون كارل ماركس من بين الفلاسفة أو الاقتصاديين فإنهم ينظرون بعين الاعتبار إلى الجوانب السوسيولوجية لفكره، ويقدرون عالياً إسهاماته في مجال علم الاجتماع. ويمكننا القول في هذا السياق: إن معظم أعمال ماركس وكتاباته العبقرية ة تبحث في المجتمع وفي ظواهره وقوانينه الاقتصادية والفكرية والسياسية، وقد لا نبالغ إذا قلنا: إن ماركس كان قد أراد للعلوم الإنسانية جميعاً أن تنحو نحواً اجتماعياً لتباشر المجتمع بالدراسة والتحليل والاستكشاف. ومن هنا جاءت دعوته التاريخية إلى تحويل الفلسفة من فكر يجول في الآفاق العادية إلى علمٍ اجتماعي مهيباً بها ألّا تقف عند حدود التفسير متطلعاً لها أن تسعى إلى التغيير ومن صلب هذا التوجه يقول: "كل ما فعله الفلاسفة حتى الآن هو تفسير العالم بطرائق مختلفة - لكن المهم هو تغييره".

ولد كارل ماركس عام 1818 في مدينة ترير (Treves) -التابعة يومئذ لمملكة بروسيا- حالياً لأب يعمل في سلك المحاماة. درس في جامعتي بون وبرلين في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية وفي رحاب هاتين الجامعتين درس كلاسيكيات الفلسفة الألمانية المثالية والمادية، وحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة، وكانت أطروحته تتناول مقارنة بين رؤى كل من ديمقريطس وأبيقور.. وقد سجن بسبب أفكاره وكتاباته الصحفية الثورية وطرد من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وانتقل إلى لندن ليعيش بقية حياته متخفيا متنكرا تحت أسماء مستعارة كثيرة، وأهم ما يميز حياته الشخصية والعلمية صداقته الأبدية مع فريدريك أنجلز الاشتراكي الألماني، التي بدأت في عام 1844 واستمرت بعد موت ماركس، إذ بقي إنجلز وفيا لماركس وعائلته حتى أنه ترك ثروته الكبيرة لأسرة ماركس بعد وفاته، وقد شاركه تأليف عديد الكتب ومنها: الأسرة المقدسة (Th Holly Family )، والأيديولوجيا الألمانية، والبيان الشيوعي.

 1
     التداخلُ بين الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية يُؤَدِّي إلى تكوين مصادر جديدة للمعرفة ، وهذه المصادرُ تُمثِّل تأسيسًا للنَّزعة النَّقْدِيَّة للأنماط الاستهلاكية في المُجتمع ، وتُجسِّد وَعْيًا بالصِّراع الدائر بين تفاصيل حياة الإنسان المُتَشَظِّيَة ( الحنين إلى المَاضِي الذي لا يَمْضِي، والغرق في الحَاضِر الذي يتمُّ تفريغُه مِن مَعْنَاه وَجَدْوَاه ، والخَوف مِن المُستقبَل الذي تتمُّ أدلجته كَمَنفى للرُّوحِ والجسدِ ) . ولا يُمكن للإنسان أن يَكُون هُوِيَّةً للوَعْي التاريخي إلا بالتخلُّصِ مِن الخَوْفِ الزمني والقَلَقِ المَكَاني ، ولا يُمكن للمُجتمع أن يَكُون سُلْطَةً للمَعْنى الحضاري إلا بالتخلُّصِ مِن اغترابِ الكِيَان واستلابِ الكَينونة . وإذا كانَ الإنسانُ يَستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على الانعتاق مِن حُطَامِ الرُّوحِ وأنقاضِ الجسد ، فإنَّ المُجتمع يستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على التَّحَرُّر مِن انكسارِ الذات وغُربةِ الشُّعور.وهذا يَعْني أنَّ الإنسانَ والمُجتمعَ يُكوِّنان معًا تاريخًا للأحلام المُشترَكة يَمنع تَحَوُّلَ المَنطِق إلى ضِدِّه ، ويَمنع انتقالَ العقلانية إلى نقيضها ، تحت ضَغْط تضارُب المصالح الفردية والجماعية ، وإفرازاتِ البيئة الحياتيَّة تاريخيًّا وحضاريًّا ، وتأثيراتِ الطبيعة الوُجودية للأشياء والعناصر . والخطرُ الحقيقي الذي يُهدِّد البناءَ الاجتماعي هو تَحَوُّلُ مَنطِق التاريخ إلى نَمَط استهلاكي غَير مَنطقي ، وتَحَوُّلُ عقلانيَّةِ الحضارة إلى غَريزة شَهَوَانِيَّة غَير عقلانية . والتاريخُ والحضارةُ يُشكِّلان منظومةً فلسفيةً مُوَحَّدَةً في الشُّعور والإدراك الحِسِّي ، ومُوَحِّدَةً للانعكاسات الاجتماعية القَصْدِيَّة والعَفْوِيَّة في الزمانِ والمكانِ . وكُلُّ تَوليدٍ للوَعْي الخَلاصِي في التاريخِ والحضارةِ هو بالضَّرورة تأسيسٌ للمَعنى الإنساني في الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية . والثقافةُ هي إعادةُ مُمارَسة التاريخ الإبداعي مِن مَنظور أخلاقي ، والمُجتمعُ هو إعادةُ تَكوين الجَوْهَر الوجودي في بُنية العقل الجَمْعي المُسيطِر على تحوُّلات الفِعْل الاجتماعي .

 1
     التمييزُ بين الوَعْي الثقافي والفِعْلِ الاجتماعي لا يَعْني إيجادَ فُروقات ظاهريَّة بَين طبيعتهما، أو اكتشافَ اختلافات سطحيَّة بين مسارهما ، وإنَّما يَعْني تكوينَ إطار معرفي يشتمل على مُكَوِّنَات السُّلوكِ الإنساني ، ويُحدِّد طريقَ الإنسانِ في المُجتمع ، وطريقةَ المُجتمعِ في التعامل مع تأويلِ الأحداث التاريخية، وكيفيةِ تَوظيفها في الواقعِ اليومي، والعناصرِ المَنبوذة ، والأحلامِ المنسيَّة ، والذكرياتِ المكبوتة ، والتفاصيلِ العابرة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى نقل الهَامِشِ والمُهَمَّشِ مِن الأطراف إلى مركز الوجود المُسيطِر على الوَعْي والفِعْل معًا . وثنائيةُ (التأويل/ التوظيف) في السياق التاريخي تَكشِف الفرقَ بين الوَعْي الثقافي والفِعْلِ الاجتماعي باستخدام آلِيَّات لُغوية تَدمُج الخِبراتِ معَ المعارف، وتبتكر أدواتٍ فكرية قادرة على التفاعل معَ جَوهر الأشياء إبداعيًّا لا ميكانيكيًّا . وإذا كانَ الوَعْيُ هو الأساسَ الفلسفي للفِعْل، فإنَّ الثقافةَ هي القاعدةُ الأساسيةُ للمُجتمع ، والهُوِيَّةُ المُتماسكةُ للإنسان الواعي الذي يُمارس وُجُودَه المعنوي والمادي لإكمالِ الثغرات في شخصيته المركزية، وتحقيقِ الكمال في سُلطته الاعتبارية ، بِوَصْفِهَا طريقًا لِخَلاصِ المعنى الحياتي مِن ضَغط اللحظة الآنِيَّة ، وتخليصِ الحضارة المادية من النزعة الاستهلاكية ، وانعتاقِ بُنية التفكير مِن المصلحة الضَّيقة ، وتحريرِ رمزية اللغة مِن التفسير الأُحَادي للتاريخ . إذْ إنَّ التاريخَ كِيَانٌ قائمٌ على التفاعلاتِ المعنوية والصراعاتِ المادية ، ومَفتوحٌ على احتماليَّةِ التأويلاتِ وتعدُّدِ التجارب الحياتية فرديًّا وجماعيًّا . والتاريخُ كَكِيَان يُعَاد بِنَاؤُه باستمرار في العلاقةِ المصيرية بين الوَعْي الثقافي والفِعْلِ الاجتماعي . ومِن أجل ضَمَان الاستمرارية في عملية بناء التاريخ ، يَنبغي تحويلُ كِيَانه السُّلطوي إلى كَينونة فلسفية تحتوي على القواعدِ السُّلوكية والتحليلاتِ اللغوية،لفهمِ تركيب المُجتمع ( الوُصول إلى الجُذور العميقة للعلاقات الاجتماعية ) ، وربطِ تفاصيل الحياة اليومية بالشُّعور الإنساني القائم على الخِبْرَةِ القَصْدِيَّة لا البَرَاءَةِ السَّاذَجَةِ .

- تمهيد:
يعتبر كونت (1798-1857) مؤسس علم الاجتماع الحديث، وهو أول من صاغ كلمة " سوسيولوجيا ". اكتسب علم الاجتماع على يده أبعاده الحقيقية، حينما حدد إطاره العام حيث اسماه " علم دراسة المجتمع "، وعرفه بأنه " علم دراسة قوانين ظواهر المجتمع ". سعياً منه لتوضيح العلاقات بين الظواهر الاجتماعية وضعياً بغية تحليلها وتفسيرها واستخلاص قوانينها العامة، فهو الشيء المهم لديه. حاول كونت من خلال مؤلفاته، صياغة أسس علمه الجديد الذي أطلق عليه في بادئ الأمر اسم " الفيزياء الاجتماعية " ثم أطلق عليه بعد ذلك اسم " علم الاجتماع "، وفي هذا الصدد يقول: " بما أن الفكر البشري الآن قد أسس الفيزياء السماوية، والفيزياء الأرضية سواء الميكانيكية أو الكيماوية والفيزياء العضوية سواء النباتية أو الحيوانية، يبقى عليه أن يتمم نظام علوم الملاحظة ببنائه للفيزياء الاجتماعية. هذا ما يبدو عليه اليوم في ضوء عدة علاقات رئيسية، أكبر وألح حاجة لعقلنا: مثل هذا الشيء، أقولها بجرأة، هو الهدف الأول لهذه المحاضرة، هدفها المميز "([1]). من أهم كتبه، ما يلي:

- " دروس في الفلسفة الوضعية " يتألف من ستة مجلدات نشر في الفترة الواقعة ما بين (1830-1842).
- " أحاديث عن مجمل الوضعية " (1848)
- " مذهب السياسة الوضعية " يتألف من أربعة مجلدات نشر في الفترة الواقعة ما بين (1851-1854)([2]).