1
الفِعْلُ الاجتماعي _ على الصعيدَيْن التاريخي والرمزي _ يُمثِّل توليدًا مُستمرًّا للفِكْرِ والشُّعورِ ، وهذا يُؤَدِّي إلى صناعةِ إطار مرجعي يَشتملُ على تفاعلات اللغة معَ شخصية الفرد الإنسانية ، ويُسَاهِمُ في تكوين فهم عميق للعلاقة التبادلية بين مَضامينِ الوَعْي الواقعي وتَراكيبِ العوالم الذهنية ، التي يَبتكرها الفردُ لإيجاد بناء اجتماعي خيالي يُوَازِي الواقعَ المادي ، ويتعالى عليه. والانفصالُ بين الواقعِ الذي يعيش فيه الفردُ ، والواقعِ الذي يعيش في الفردِ ، هو نتيجة طبيعية لضغط الأنساق الاستهلاكية الخشنة على السُّلوكِ الفردي والطُّموحِ الجماعي.وهذا الضغطُ يَدفع الفردَ والجماعةَ إلى إنشاء تفسيراتٍ مُتَنَوِّعَة للحياة، وتأويلاتٍ مُتَعَدِّدَة لِبُنية اللغة، ضِمْن السِّيَاق الاجتماعي ، بحثًا عن مَعنى لِمَركزية الفِكْر وجَوهرِ الشُّعور . وإذا كانَ الدافعُ الإنساني _ فرديًّا وجماعيًّا_ يُعيد تشكيلَ الواقع المادي استنادًا إلى رمزيةِ اللغة وخصائصِ الفِعْل الاجتماعي ، فإنَّ العقل الجَمْعِي يُعيد تَكوينَ مصادر المعرفة اعتمادًا على المصالح الشخصية والمنافع العَامَّة ، أي إنَّ المُجتمع _ بِكُلِّ هياكله الوجودية وآلِيَّاته اللغوية وأدواته الاجتماعية _ يُطَوِّر المعرفةَ كَي تَخدِم شرعيةَ النسقِ الحياتي الذي يَقُوم على البُنيةِ اللغوية والفِعْلِ الاجتماعي . وهذا يَعْني انتقالَ المعرفة مِن القُوَّة الذاتية المُكتمِلة بِنَفْسِها إلى الفاعليَّة المركزية في العلاقات الاجتماعية، وَتَحَوُّلَ هُوِيَّة اللغة ( وَسِيط تواصلي ) إلى سُلطة اجتماعية ( وَسَط إبداعي ).

يهدف هذا المقال إلى توضيح العلاقة الجدلية بين الهوية واللغة وكيف تساهم اللغة في إيجاد تلك العلاقة بينهما على اعتبار أنه لا هوية بدون لغة وإنتاج فكري ولا ثقافة بدون هوية، ولا حضارة بدون هوية ثقافية كونها ينبوع الحضارات (إن جاز لنا التعبير). بذلك ستنحصر مناقشتنا للأفكار المطروحة أعلاه من خلال تناول المفاهيم التالية والعلاقة القائمة بينها بالدراسة والتحليل، وهي كالآتي:

عرف مفهوم الهوية انتشاراً واسعاً، حيث اكتسح في وقت قصير العلوم الإنسانية وخاصةً الاجتماعية، وفرض نفسه في تحليل حقائق متنوعة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب أن تجد تعريفاً متوافقاً عليه لمفهوم الهوية. وقد أثبتت الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو أمة ما مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية، والنفسية، والمعيشية، والتاريخية المتماثلة، التي تعبّر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم.

وفي حقيقة الأمر يعاني مفهوم الهوية من مشاكل عديدة، فمن صعوبة الحديث عن الهوية مثلاً، أنه حديث الذات عن نفسها. لذا فإن مشاعر الهوية مشاعر دفاعية ضد إرادة السحق التي يبديها الآخر، كذلك لا يمكن فصل الهوية عن الحركية الاجتماعية، وما يجري فيها من تدافع وصراع. وهنا تتداخل حدود الهوية والسلطة والإيديولوجيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الهوية ؟

في البداية يجب أن نشير أن المقصود في هذا العنصر هو الهوية الثقافية لجماعة بشرية معينة، ذلك أن جوهر الهوية الجماعية هو الثقافة بذلك فإن الهوية الجماعية تستمد ملامح مقوماتها من ثقافة المجتمع على اعتبار أن الثقافة تشكل المجموع المنسجم والمستمر للمعاني والرموز المكتسبة المشتركة التي تعمل الجماعة على توصيلها وإعادة إنتاجها من خلال مختلف القنوات التي تنسجها من أجل هذه الغاية. أما عن مفهوم الهوية فهو لفظ تراثي قديم، معناه أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، أي ليس له مقابل مما يدل على ثبات الهوية. وهو قائم على التطابق أو الاتساق في المنطق. وهو نقيض الغيرية وقد تكون الغيرية نسبية وليست كلية لتحدد انحراف الهوية. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة.

 1
الرَّمزيةُ اللغوية في العلاقاتِ الاجتماعية تُمثِّل شبكةً مِن الأفكارِ الإبداعية والتجاربِ الوجودية والظواهرِ الثقافية،وهذه الشبكةُ تُسَاهِم في إعادةِ تعريف مصادر الوَعْي في حقول المعرفة، ونقلِ شخصية الفرد مِن البَرَاءة إلى الخِبرة،وتحويلِ التفاعل الاجتماعي مِن تراكيب الفِطْرَة الإنسانية إلى عناصرِ المَنهج العِلْمِي والعَمَلِي، الذي يقوم على تحليل دَور المُجتمع في فلسفةِ حركة التاريخ ومَنطقِ العقل الجَمْعي . وكُلُّ مَنهجٍ فَعَّال هو بالضَّرورة ثَورةٌ لُغوية تُغيِّر طريقةَ تفكير الفرد،بِحَيث يَندمج الوَعْي معَ الأحداث اليومية، ولا يَتَعالى عليها،ولا يَنفصل عن السِّيَاقات الحضارية الموجودة في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الوظيفية للواقع المُعَاش. والثَّورةُ اللغويةُ غَير مَحصورة في نِطَاقِ طبيعةِ الألفاظ ومركزيةِ المَعَاني، وغَير مَحدودة في إطارِ إشاراتِ التفاهم وَدَلالاتِ التواصل . إنَّ الثَّورةَ اللغوية حياةٌ قائمة بذاتها ، ومُكتملة بِنَفْسِها، وهي هَيكلٌ مَعرفي عابر للحواجز الزمنية ، ونظامٌ اجتماعي مُتجاوز للحُدود المَكَانية. والمُجتمعُ القائمُ على ثنائية ( الرَّمزية اللغوية / الثَّورة اللغوية ) لا يُولَد في الفَرَاغ ، ولا يُؤَسِّس للعَدَم، لأنَّ اللغةَ هي القُوَّةُ الدافعة للعلاقات الاجتماعية، والمُحَرِّكُ الأساسي للفِكْرِ والإبداعِ ، والرافعةُ الحقيقية للمعايير الأخلاقية.وهذه الحركةُ الدَّؤُوبةُ_اجتماعيًّا وفِكريًّا وأخلاقيًّا_ تَجعل هُوِيَّةَ المُجتمعِ مُتماسكةً ، ولا تُحِيل إلى غائب ، وإنَّما تستعيد التجاربَ الحياتية مِن الغِيَاب ، وتسترجع أحلامَ الفردِ مِن الاستلاب .

" إن أكل لحوم البشر يعتبر وصمة عار في جبين المجتمعات البدائية المتأخّرة، ولكنّ بعض الشّعوب الحديثة لا تقلّ افتراسا وأكلا للحوم البشر عن هذه المجتمعات القديمة المتوحّشة (...). إنّ بعض الأمم الحديثة تستعبد وتبتلع شعوباً بأسرها. ومالم تحظر الحروب وتُحرّم بين الأمم، فستبقى المدنيّة تتأرجح من كارثة لأخرى" ول ديورانت من قصة الفلسفة[1].

" لقد أصبح من التقاليد الراسخة الآن أنّ أيّ نقاش حول سبنسر، إذا لم يبدأ بنقد دوركهايم الشّهير، يجب أن يبدأ بسؤال تالكوت بارسونز الخطابي: "من يقرأ الآن سبنسر؟"

1- مقدمة

يُعرف الفيلسوف وعالم الاجتماع الإنكليزي هربرت سنسر (Herbert spencer- 1820-1903) بأنّه أحد أبرز المفكّرين الإنكليز وأهمّهم في القرن التّاسع عشر. وقد أحدث صعوده إلى القمّة الفكريّة الفلسفية في العصر الفيكتوريّ ضجّة كبيرة بين المفكّرين، وأثار صخبا شديدا بين النقّاد والباحثين على مدى القرنين التّاسع عشر والعشرين، وما تزال أفكاره وتصوّراته التطوّرية في المجتمع والتاريخ تثير جدلا واسعا بين المفكرين، وقد انقسم المفكّرون وأهل الثّقافة في شأنه بين محبٍّ غالٍ وكاره قالٍ، أي: بين فئة تطرّفت في رفض نظريّاته رفضا تامّا، وأخرى اتّخذته منارة تهتدي بها في تشكيل نظريّاتها وبناء تصوّراتها الأيديولوجيّة. وقد بدا سبنسر الندّ البريطاني العنيد لأقطاب الفكر الألمانيّ في مستوى التّأثير الفلسفّي العميق والحضور السّوسيولوجي الطّاغي لكلّ من كارل ماركس وهيغل وفيبر، مثلما بدا منافسا لامعا لروّاد السّوسيولوجيا الفرنسيّة المشاهير أمثال أوغست كونت ودوركهايم الذين تألّقوا في القرن التاسع عشر، وأشعّوا بقوة في القرن العشرين بوصفهم الوجه المشرق للفكر والفلسفة وعلم الاجتماع منذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا. وباختصار يُنظر إلى سبنسر على أنّه المشرّع الأوّل لتعاليم المدرسة الإنجليزيّة في علم الاجتماع المناظر لتطوّر علم الاجتماع في فرنسا وألمانيا.

ويسجّل النقّاد اليوم أنّ سوسيولوجيا سبنسر التي بلغت ذروة قوّتها وقمّة عظمتها في القرن التاسع عشر، قد خبت أنوارها، وتراجعت سطوتها، وخفتت أهمّيتها، وانحسر حضورها إلى حدّ التّلاشي في النّصف الأول من القرن العشرين. وقد ورد هذا التّراجع في الأهميّة والحضور على لسان تالكوت بارسونز الذي قال متسائلا: من يقرأ سبنسر اليوم؟ وكان من جوابه: لا أحد! وهذا يرمز، من وجهة نظر بارسونز، إلى أنّ نظريات سبنسر قد فقدت أهمّيتها العلميّة. وقد يبدو لنا في قول بارسونز هذا نوع من التجنّي والتّحامل الأيديولوجيّ العنيف ضدّ أفكار سبنسر وتصوّراته، ولو أخذنا قوله مأخذ الجدّ لحقّ لنا أن نتساءل اليوم: من يقرأ أرسطو أو أفلاطون أو ابن خلدون أو حتى شكسبير وفولتير وروسو؟! فأفكارهم وتصوّراتهم اليوم لم تعد ذات قيمة معرفيّة بمقياس العصر. فأرسطو لم يكن يعرف قانون دوران الأرض حول الشّمس، ولم تعد مثاليّة أفلاطون صالحة في هذا الزّمان، ومع ذلك ما زلنا نُقبل عليها كقيمة أدبيّة تاريخية خلاّقة.

يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860) في كتابه (فن العيش الحكيم – تأملات في الحياة والناس) " إن الإنسان يجد في العزلة عزاءه الأخير بعد معاشرته الطويلة للناس، عامة الناس. فبقدر ما يمتلك الإنسان أشياء كثيرة بداخله، بقدر ما يشتد استغناؤه عن الناس وعن العالم الخارجي. على هذا النحو، يكون المتفوق فكرياً، حتماً إنساناً لا اجتماعياً. فلو كان الكم مساوياً للكيف في القيمة، لجاز تجشُّم عناء العيش مع الناس ومخالطتهم، لكن هيهات! فمئة مخبول لا تعادل ولن تعادل أبدا صاحب عقل راجح واحد. فذو العقل الصغير، ما أن يفرغ من إشباع حاجاته الأساسية، وينعم بقليل من الراحة حتى يندفع بحثاً عن تمضية الوقت كيفما اتفق ومخالطة الناس دون تمييز، فهو ينسجم مع الناس ولا يفر إلا من نفسه. فالغبي في عزلته يئن تحت وطأة بؤسه الشخصي، بينما الألمعي الموهوب يؤثث عالمه الخاص والصغير حتى ولو كان في أكثر الأماكن المقفرة لتدب الحيوية والنشاط فيها. ففي العزلة، يختزل كل واحد منا في ما عنده وفي ما يجده بداخله، أي في موارده الذاتية ولا شيء غيرها. وقد صدق "  لوكيوس أنايوس سينيكا " حين قال: الغباء يضجر حتى من نفسه " وعبّر اليسوع عن المعنى نفسه بقوله: " حياة الأحمق أسوأ من الموت " .

ويذهب أيضاً الفيلسوف وعالم النفس الألماني – النقدي إريك فروم (1900-1980) في كتابه (المجتمع السوي) إلى أن " الشخص السوي يعاني من العزلة في المجتمع غير السوي، وقد يؤدي عجزه عن التواصل إلى إمراضه نفسياً، فالمجتمع المريض لا يتسامح مع الأصحاء ". ويحذر فروم المجتمعات بعامة بأنها المسؤولة عن اغتراب أفرادها، وقد يكون الشخص سليما معافى، إلا أن المجتمع نفسه إذا لم يكن صحياً بالقدر الكافي فإنه يصبح مجتمعاً مريضاً والطبيعي عندئذ أن يصبح أفراده مرضى، ولذلك ينصح بعلاج المجتمع أكثر من اهتمامه بعلاج الأفراد إذ المجتمع الصحي يفرز أفراد أصحاء.

كتاب صدرت طبعته السادسة في العام 1994 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، من تأليف محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، الفيلسوف والمفكر المغربي، صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، والذي تناول في مؤلفه هذا النتاج الفكري لأحد أهم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، ألا وهو ابن خلدون (1332 – 1406)، المؤرخ ومؤسس "علم العمران". ويضيء الجابري في الصفحات الأولى من مؤلفه على الحقبة التاريخية التي عايشها صاحب كتاب "المقدمة" في القرن الرابع عشر (م)، والموسوم ببداية أفول شمس الحضارة الإسلامية (من مظاهر ذلك الانحطاط يمكن أن نشير إلى الاضطرابات السياسية، والجمود الفكري، فضلا عن انتشار التفكير الخرافي... إلخ)، حيث انكب ابن خلدون على سبر أغوار وخلفيات ذلك التقهقر الحضاري انطلاقًا من منهجه التاريخي المميز، والذي لا يقتصر على رصد ظاهر الأحداث، بمقدار ما ينصرف إلى التنقيب في بواطنها، ومن ثم الكشف عن العوامل المستترة والخفية التي تؤثر في تعاقب الدول وأحوال العمران، طبقا لنظريته الشهيرة حول "العصبية". فما الذي يعنيه ابن خلدون بمفهوم العصبية؟ وكيف يفسر تعاقب الدول وتطورها استنادا إلى تصوره لذلك المفهوم؟

مفهوم العصبية من منظور ابن خلدون

إن العصبية كلفظ كان شائعا ومتداولا قبل أن يبدع ابن خلدون نظريته الشهيرة، لا سيما في أعقاب مجيء الإسلام، والذي أضفى عليها معنى خاصا، إذ أضحت تحيل إلى "الفرقة والتنازع والاعتداد المفرط بالأنساب" (وهو ما تجسمه أقوال مأثورة في الثقافة الشعبية، مثل "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، أو "أنا وأخي على ابن عمي...").                         

وفي رأي صاحب "المقدمة"، فإن العصبية تتعرف أساسًا في كونها "رابطة دفاع"، إذ لا يَبرز دورها إلا حين يتعرض أهل البدو خصوصًا لعدوان خارجي، فتنتصب كمحرك أساسي لرد ومدافعة ذلك الهجوم، على عكس العدوان الذي يتعرض له أهل المدن والحواضر، بحيث تتكفل الدولة بصده بما تحوزه من قوة عسكرية (أسوار، حامية... إلخ)، مما جعل ابن خلدون يخلص إلى أن العصبية ظاهرة بدوية قَبَلية بامتياز، وأن العمران البدوي هو أساس العمران الحضري.

1
اكتشافُ المعنى الوجودي في العلاقات الاجتماعية يحتاج إلى تكوين آلِيَّات لُغوية لتحليلِ بُنية التاريخ ، ونَقْلِها مِن الإطار الزمني التجريدي إلى المنهج المعرفي التوليدي، لأنَّ الزمن لَيس مَقصودًا لذاته ، بَلْ هو جِسْر نَحْو الحقائقِ الشُّعورية ، والتفاعلاتِ الرمزية ، والثقافةِ الواعية ، ومصادرِ المعرفة . والزمنُ _ كَجَوْهَرٍ فِكري وجِسْرٍ حياتي _ هو التَّجَلِّي الحقيقي لعلاقة الإنسانِ بِنَفْسِه العميقة ، والانعكاسُ المنطقي لعناصر المكان التي تتجدَّد في صَيرورة التاريخ ، لِتُصبح زمنًا داخلَ الزمن . وهذا التداخلُ ضروري لِجَعْلِ المعنى الوجودي حاضرًا في كِيَانِ الإنسان ، وكَينونة المُجتمعِ ، وجسدِ التاريخِ ، ورُوحِ الحضارة . وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ هي الحاجزَ الفلسفي بين الذاكرةِ الإبداعيةِ والتجربةِ الواقعيةِ ، فإنَّ الآلِيَّات اللغوية هي الوَعْي المركزي الذي يَستعيد الإنسانَ مِن مَتاهة الغِيَاب، ويَمْنَع فَصْلَ هُوِيَّةِ المُجتمع عن ماهيَّة الثقافة . وغِيَابُ الإنسانِ تَغييبٌ لمفهوم الحُرِّية عن الذات والموضوع، لأنَّ الإنسانَ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأ، وحياةُ الإنسانِ لا تَنفصل عن مفهوم الحُرِّية وقيمةِ التَّحَرُّر ، ومصادرُ المعرفة لا تَنفصل عن شروطها الواقعية وخصائصها الوجودية ، وإذا ثَبَتَ الشيءُ ثَبَتَتْ لوازمُه .

" لم يقرأ ماكس ڤيبر أبداً لذاته: جرت قراءته لفترة طويلة بصفته نقيضاً لدوركهايم (Durkheim) تارة أو خصما لماركس ((Marx تارة أخرى أو بوصفه نقيضاً لهيغل (Hegel) حينا، أو نداً لبوبر (Popper) حينا آخر .... وقد شكلت هذه الوضعية معضلة معرفية حقيقة حجبت كثيراً من الزوايا القضايا المهمة في تفكير ڤيبر وفي نظرياته السوسيولوجية المهمة" لوران فلوي

1-مقدمة:

يعدّ المفكر الألماني ماكس ڤيبر (1864-1920) أحد أهم رواد علم الاجتماع المثيرين للجدل وأحد أبرز مؤسسيه الميامين، وقد أثار حضوره السوسيولوجي في بداية القرن العشرين جدلاً عنيفاً في الأوساط الفكرية واهتزازاً كبيراً في مجال التفكير السوسيولوجي والاقتصادي بين معاصريه، إذ تحولت السوسيولوجيا التي أبدعها إلى ظاهرة فكرية يَجِدُّ الدارسون في رصدها واستكناه مضامينها المستجدة.

ولد ماكس ڤيبر (Max Weber) (ماكسيميليان كارل إميل فيبر) في مدينة ايرفيرت (Erfert) بألمانيا في 21 إبريل عام 1864، لأسرة برجوازية ميسورة معروفة اجتماعياً وسياسياً، ولأب امتهن المحاماة وبرع في اعتلاء مناصب سياسية وحزبية فائقة أبرزها عضويته في البرلمان الألماني، وقد شكل الوسط الاجتماعي البرجوازي المميز الذي ترعرع فيه ڤيبر الحاضن الأساسي لنشأته ڤيبر وإبداعه الفكري وانبثاق عبقريته التي اتسمت إلى حد كبير بالطابع الموسوعي [1]. وقد عرف عن ڤيبر وفيتش شغفه الكبير بالمطالعة في مجالات الاقتصاد والتاريخ والإدارة والدين والسياسة وعلم الاجتماع، واستطاع في نهاية تحصيله العلمي أن يبدأ سيرة أكاديمية مفعمة بالعطاء إلى أن أصبح واحداً من كبار علماء الاقتصاد والتاريخ والمجتمع، ويصنف على أنه أحد كبار مؤسسي علم الاجتماع، ولا سيما علم الاجتماع الإداري وعلم الاجتماع الديني. ومن اللافت أيضاً أن ماكس ڤيبر مارس العمل السياسي ببراعة، وتسنم مناصب حزبية عالية المقام في ألمانيا. كما عرف بالنباهة والنبوغ منذ نعومة أظفاره، وترافق ذلك بحصوله على تعليم متميز في الاقتصاد والتاريخ والقانون والفلسفة واللاهوت. وقد تأثر كثيراً بالفلسفة المثالية الألمانية عند هيغل، وكانط، وفيتشة، وشلنج، ونيتشة، كما تأثر بجدليات ماركس واقتصاديات آدم سميث واتخذ منهما موقفاً نقدياً.