"الثقافة مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية وهي أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه"
الفيلسوف الألماني عمانويل كانط

1- مقدمة:

تشكل الثقافة العمق الوجداني في حياة الشعوب والأمم، وإذا كانت التنمية في جوهرها تعمل على تعزيز مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبدا أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجمتع. فالثقافة تؤدي دورا محوريا في العملية التنموية، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان من المفكرين أو الباحثين في الميدان التنموي المعاصر.

ومن البداهة بمكان أن الباحثين يدركون اليوم - أكثر من أي وقت مضى - القوة الهائلة للثقافة بوصفها حاضنا طبيعيا للرموز والقيم والشعور بالانتماء والهوية، وقد برهنوا في كثير من الدراسات والأبحاث على قدرة الثقافة على إضافة أبعاد جديدة مميزة وفعالة في مجال الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات المعاصرة. وهذا ما أكدته المؤتمرات العالمية في العقود الأخيرة ولا سيما مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة الذي عقد في جوهانسبرغ في عام 2002، وكذلك ما أسفرت عنه فعاليات مؤتمر ريو +20من تأكيد كبير على أهمية الثقافة التنموية في عملية النهوض الحضاري بالمجتمعات الإنسانية.

وإذا كان تحقيق الاستدامة يتمثل جوهريا في عملية الاستخدام الملائم لموارد الكوكب، فإن الثقافة يجب أن تكون فاعلة في صلب الاستراتيجيات الإنمائية، لأن الثقافة تشكل الحاضن الأساسي للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، كما تشكل الناظم الحيوي السلوكي لعلاقاتهم بالبيئة والموارد الطبيعية التي تحيط بهم. ومن المؤكد اليوم عبر التجارب العالمية أن المبادرات والنهج الإنمائية التي تأخذ الثقافات المحلية في الحسبان تحقق مزيدا من النجاح والتفوق في تحقيق الأهداف التنموية المرجوة. وهذا يعني في النهاية ضرورة إدماج الثقافة في السياسات والبرامج التنموية من أجل تحقيق الاستدامة التنموية والنهوض الحضاري بالمجتمع.

           يتحدد المرمى الذي يحرك هذه المقالة في التفكير، باقتضاب ، في المعالم الأساسية للمنجز السوسيولوجي لبول باسكون ( 1932 – 1985 ) من خلال النظر في منطلقاته النظرية والمنهجية؛ والتطرق للحيثيات التي انبنى عليها مفهومه عن " المجتمع المركب ".

  من الملاحظ أنه لا يتخلف اثنان البتة في القول إن باسكون يمثل علامة فارقة في ما يرتهن بالإنتاج السوسيولوجي المغربي؛ بحثا وتنظيرا ، أهلته للانتماء ، بحق ، إلى سلالة الأساتذة الكبار الذين ساهموا في تأطير أجيال من الشباب  كانوا قد انفتحوا على كتاباته بشغف كبير فأفادوا منها بالإصغاء إلى أدق تفاصيلها و تضاريسها، أو تلك حالفها الحظ فاشتغلت معه غداة الإعداد للأوراش الكبر ى التي تطلبتها لحظة الاستقلال ومشروع بناء الدولة الوطنية في مستهل عقد ستينات القرن المنصرم .

كانت الأرياف المغربية بؤرة اهتمام باسكون طيلة حياته العلمية ؛وضمن هذا السياق طفق يعتبر السوسيولوجيا القروية نبيلة الوظائف لأن مهمتها  لا تتحدد  في تفسير اختلاف العادات ،والأنماط السلوكية وأساليب العيش فحسب وإنما أيضا في محاولة فهم الأنساق الثقافية للآخرين وتبين مصادر الاختلاف ومدى مساهمتها في الثقافة الوطنية ... بهذا المعنى انشغل باسكون بالتاريخ الاجتماعي للقرى وبالمسألة الفلاَّحِية  ennpaysa ؛ وبكل ما يرتبط بها من  قضايا محورية مثل الأرض والهجرة والديمغرافيا والمعتقدات وهي كلها  مشاكل ترتهن  في العمق ،سلبا أوإيجابا، بعملية التنمية وسيرورة التغير محليا ووطنيا...

يقول إميل سيوران (Emil Cioran) [1]: لا أحيَا إلاّ لأنّ في وسعي الموت متى شئت، ولولا فكرة الانتحار نفسها لقتلتُ نفسي منذ البداية". 
تبيّن الإحصائيّات العالميّة الرسميّة اليوم أنّ 703000 شخصاً ينتحرون سنويّاً، هذا عداك عن مئات الألوف من المحاولات الانتحاريّة الفاشلة. ومن المؤكّد أنّ كلّ حالة انتحار تشكّل بذاتها مأساة إنسانيّة في المجتمع. وقد صنّف الانتحار بوصفه رابع أهمّ سبب للوفاة بين الأفراد الّذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً على الصعيد العالميّ، والواقع أنّ أكثر من 79% من حالات الانتحار العالميّة  تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل
.

1- مقدّمة:

احتلّت ظاهرة الانتحار مكاناً استراتيجيّاً في سوسيولوجيا دوركهايم، وشكّلت محوراً أساسيّاً من محاور اهتمامه. وقد عُرف دوركهايم بدراسته التاريخيّة الّتي أجراها عن الانتحار في أوروبا، وهي الدراسة الشهيرة الّتي كرّسها للبحث في ماهيّة الانتحار، وفي عوامل نشأته، ومظاهر حركته وانتشاره، ساعيا إلى استكشاف القانونيّات السوسيولوجيّة الّتي تحكمه. وقد نشر نتائج دراسته هذه في كتابه المشهور الانتحار (Le Suicide)([2]) عام 1897. ويشكّل بحث دوركهايم حول الانتحار عملاً سوسيولوجيا كلاسيكيّاً فذّاً، يتميّز ببراعته المنهجيّة، وعمقه المعرفيّ وقدرته الخلّاقة على توليد الإلهام السوسيولوجيّ للمفكرين والباحثين على مدى أجيال متعاقبة. وقد شكّلت دراسته هذه أحد أكثر الأعمال وضوحاً وأهمّيّة في علم الاجتماعيّ الكلاسيكيّ التأسيسيّ، وارتقى هذا العمل إلى صورة نموذج علميًّ سوسيولوجي فريد في بنيته وتكوينه استلهمه علماء الاجتماع وغيرهم من المفكّرين والباحثين في مجال العلوم الإنسانيّة على امتداد القرن الماضي وما يزالون ([3]). ويعترف معظم النقّاد في مجال علم الاجتماع بأنّ مبحث دوركهايم عن "الانتحار" يتّسم بأهمّيّة تاريخيّة فائقة في مجال علم الاجتماع وذلك لاعتبارات ثلاثة أساسيّة:

يتمثّل الأوّل في أنّ دوركهايم اعتمد في بحثه عن الانتحار- ولأوّل مرّة في تاريخ علم الاجتماع- المنهجيّة العلميّة الّتي أسّسها ورسّخها في كتابه قواعد المنهج (Les regles de la methode en sociologie)، إذ قام بتطبيق المنهج السوسيولوجيّ (قواعد المنهج) بصورة واضحة ورصينة في هذا العمل، وقد أعطى هذا الأمر أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة لهذا العمل، إذ إليه يشار اليوم بوصفه البحث السوسيولوجيّ الأوّل الّذي أخذ صورة طابع بحث ميدانيّ أكاديميّ منهجيّ إمبيريقيّ، وقد اعتمد دوركهايم في هذه الدراسة على معطيات اجتماعيّة إحصائيّة، وانتهج التحليل الإحصائيّ، واعتمد الملاحظات العلميّة الرصينة ليجسّد بذلك المنهج السوسيولوجيّ الرصين الذي نادى به في هذه الدراسة على أكمل وجه ممكن.

احتلت فكرة المجتمع الجديد مكاناً مركزياً في المنظومة الفكرية والفلسفية لمعظم فلاسفة ورواد الفكر الاجتماعي على التاريخ الإنساني، الذين سعوا إلى تقديم تصورات جديدة لمجتمع مثالي تكون بديلة عن تصورات المجتمع القائم، مجتمع تنتفي فيه كافة أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتختفي منه شرور الواقع، ويتحرر الإنسان فيه من مختلف أشكال القلق، من الشكل الميتافيزيقي إلى الشكل الاجتماعي، ويتم فيه أيضاً وضع حد نهائي للبواعث والقوى اللاعقلانية التي تسيطر عليه والتي يعجز عن ضبطها أو حتى إدراكها، وبذلك تتحقق أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا... .

” هل اليوتوبيا هروب من الواقع أم إعادة صياغة لواقع مؤلم؟ منذ أن سطر" أفلاطون " أول يوتوبيا في التاريخ الإنساني في كتابه " الجمهورية "، مروراً بـ " الفارابي " الذي بشر في مدينته الفاضلة - وإن كان مصطلح يوتوبيا لم يظهر إلا مع " توماس مور " - وحتى العصرِ الحديث، يطرح الفلاسفة اليوتوبيا بشروط ومقومات مختلفة، غير أن العنصر المشترك فيها جميعاً أنها كلها وليدة عصرها، فهي انعكاس للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تجلت اليوتوبيا في الشرق كما في الغرب، لكن تحت اسم " المدينة الفاضلة ". ولطالما تساءل الإنسان: هل اليوتوبيا فكر يمكن تحقيقه، أم أنه واقع افتراضي يحاول فيه الفلاسفة الإطلال علينا من فوق برج عاجي لا يمت إلى الواقع بصلة؟ “. (ماريا لويزا برنيري، المدينة الفاضلة عبر التاريخ، (1950.

- تمهيد:

جاء الإسلام كشريعة ودين وسطي له فكر اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي مميز، وهذه السمة المميزة للأديان السماوية التي تهدف إلى تغيير نمط الفكر البشري لما فيه الخير والصلاح. فلقد ركز الإسلام كدين سماوي على ضرورة تغيير العادات والتقاليد والنظم الجاهلية البالية، ويطرح للعقل البشري البدائل الممهدة لطريق تخلص هذا العقل من الشرور والآثام، وهذا بالفعل ما ظهر بوضوح في طبيعة الدين الإسلامي وتركيزه على وضع أسس جديدة للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تقوم على المساواة والتكافل والعدالة، تحديد الحقوق والواجبات، ووضع نظم محددة لأساليب العقاب والجزاء.

 كما ناقش قضايا هامة تشغل اهتمامات العقل البشري حتى يأتي يوم القيامة مثل، الفقر، والمساواة والعدالة، والتكافل الاجتماعي، والملكية العامة والخاصة، والعمل والإنتاج، وتوزيع الثروة، والحرية وغيرها من القضايا الهامة. وعلى العموم يمكن إرجاع الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى الجذور التالية:

1. الموروث الاجتماعي، وما كان عليه المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام من بنية اجتماعية.

2. التعاليم التي جاء بها الدين الإسلامي، لا سيما ما يخص منها الجانب الاجتماعي من حياة أفراد المجتمع.

3. ما ترجم إلى اللغة العربية من تراث أجنبي (يوناني) خاصة خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (الثاني والثالث الهجريين).

1
     وظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تُحدِّد تقاطعَ الماضي والحاضرِ في تاريخ الأفكار فَحَسْب ، بَلْ أيضًا تُحدِّد طبيعةَ تفكيرِ الفرد في المُجتمع ، وهذا يدلُّ على أنَّ المَسَارَ الحَيَاتي _ فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا _ هو خَلِيطٌ وُجودي مِن الفِعْلِ والزَّمَنِ والتفكيرِ . والعلاقةُ بين هذه العناصر تَبَادُلِيَّة لا تَرَاتُبِيَّة ، أي إنَّها دائمة التَّبَدُّل والتَّغَيُّر ، ويُعَاد تَشكيلُها وصِيَاغَتُهَا باستمرار ، وَلَيْسَتْ مَنظومةً جامدةً يَجِد كُلُّ عُنْصَرٍ نَفْسَه مُرتبطًا بالذي يَلِيه . وكما أنَّ الماء يَأخُذ شكلَ الإناءِ الذي يُوضَع فيه ، كذلك هذه العناصر تَأخُذ شكلَ البناءِ الاجتماعي الذي تُوضَع فيه ، وهذا يُسَاهِم في تحليلِ أبعاد شخصية الفرد عَلى الصَّعِيدَيْن الأخلاقي والقِيَمِي ، وتفسيرِ معالم هُوِيَّة المُجتمع عَلى المُسْتَوَيَيْن الإنساني واللغوي ، وإدراكِ الأهمية الفِكرية للفردِ والمُجتمعِ . وإذا كانت شخصيةُ الفردِ هي رِحلةَ البحثِ عن المَعنى لإيجاد أجوبة منطقية عن أسئلة الوُجود ، فَإنَّ هُوِيَّةَ المُجتمع هي مَركزيةُ المعرفة في طبيعة التاريخ التي تُفْرِز تأويلاتٍ جَديدة للواقع المُعَاش ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ بناء الوَعْي خارج حُدود البيئة الضَّيقة ، وإعادةِ تفسير الزَّمَن خارج إطار المصالح الشخصية العابرة . وإذا نَجَحَ الفِعْلُ الاجتماعي في تَحديدِ حَجْم الثَّغَرَات الوُجودية في الوَعْي ، وكَشْفِ مَسارات القطيعة المعرفية في الزَّمَن ، فَإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيُصبح فَاعِلِيَّةً حَيَاتِيَّةً تَمْنَع النظامَ الاستهلاكي القاسي مِن اقتلاعِ شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع مِن التاريخ . وكُلُّ فِعْلٍ لا يُصبح إرادةً للحياة سَيَتَحَوَّل إلى وَهْم ، وكُلُّ شَخصيةٍ لا تُصبح تَشخيصًا للمَعنى سَتَتَحَوَّل إلى قِنَاع ، وكُلُّ هُوِيَّةٍ لا تُصبح أُفُقًا نَقْدِيًّا سَتَتَحَوَّل إلى فَرَاغ.

 1
التَّنَوُّعُ الثقافي في العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر انعكاسًا طبيعيًّا للنَّزعة الإنسانية ، وتَجسيدًا للمنهج النَّقْدِي في بُنيةِ الواقعِ المُعَاشِ وبِنَاءِ السُّلوك المَعرفي ، وتَحريرًا لتاريخ الأفكار مِن الوَعْيِ الزائف ومَنطِقِ القُوَّة . والتَّنَوُّعُ الثقافي لَيْسَ روابطَ حياتية مُتعارضة ، أوْ أنظمةً مادية مُتضاربة ، أوْ مصالحَ شخصية مُتناقضة ، وإنَّما هو كِيَان وُجودي مُنفتح على سِيَاقَاتِ حُرِّية التَّفكير، ومُتفاعِل معَ القِيَم الأخلاقية التي تُخَلِّص الإنسانَ مِن قُيُودِ المصالح الشخصية الضَّيقة.وكُلُّ تَنَوُّعٍ في مَرجعية الثقافة هو بالضَّرورة تَحريرٌ لمركزية الإنسان في الواقعِ المُعَاش والوُجودِ الحياتي.واندماجُ مَرجعية الثقافة معَ مركزية الإنسان يُوَلِّد أنساقَ الفِعْل الاجتماعي،ويُوظِّفها في الأحداث اليومية، ويَربطها معَ إفرازات العقل الجَمْعِي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى التَّوفيقِ بَين هُوِيَّةِ الإنسان وسُلطةِ الثقافة ، وانسجامِ الفِعْل الواقعي معَ التَّصَوُّرِ الذهني ، وَمَنْعِ الصِّدَام بين إرادةِ المَعرفة والوَعْيِ الفَعَّال . وإذا كانت هُوِيَّةُ الإنسانِ مُتَجَذِّرَةً في الفِكْر التاريخي حِسًّا وإدراكًا، فإنَّ سُلطةَ الثقافة مُتَرَسِّخَةٌ في كَينونة اللغة نَصًّا وَرُوحًا، وهذا النَّسيجُ العَقْلاني المُتشابِك مِن شأنه تحقيقُ التوازن بين المُجتمع كَجَسَدٍ وُجودي ، والمَعرفةِ كوظيفة حياتية . ولا يُمكِن للواقع المُعَاش أن يَنتقل مِن الوَهْمِ الاستهلاكي إلى الحُلْمِ الإبداعي ، إلا إذا انتقلَ المُجتمعُ مِن الجَسَدِ الوُجودي إلى تَجسيدِ العلاقات الاجتماعية في الوَعْي الفَعَّال وقُوَّةِ المَنطِق ، وانتقلت المعرفةُ مِن الوظيفة الحياتية إلى تَوظيف النَّزعة الإنسانية في مَرجعية الثقافة وحُرِّيةِ التَّفكير . وكُلُّ جَسَدٍ وُجودي لا يَتَحَوَّل إلى تَجسيدٍ للحقيقة سَيَنهار ، وكُلُّ وَظيفة حياتية لا تَتَحَوَّل إلى تَوظيفٍ للمَعنى سَتَسقط .

 1

     تَنْبُع أهميةُ فَلسفةِ الظواهر الاجتماعية مِن قُدرتها على تحليلِ طبيعة الأحداث اليومية ، وتفسيرِ ماهيَّة التقاطعات التاريخية معَ الواقع المُعَاش ، وهذه الفلسفةُ غَير مَحصورة في بُنيةِ المُجتمع التَّحتية وبِنَائِه الفَوْقِي ، بَلْ تَتَعَدَّى إلى دَلالات اللغة كإطارٍ مَعرفي ومَرجعيةٍ رمزية ، وهذا يدلُّ على الترابط بين المُجتمعِ واللغةِ ، بِوَصْفِهِمَا كِيَانَيْن مُنْدَمِجَيْن شُعوريًّا وإنسانيًّا ، ويُشكِّلان مَنظورًا وُجوديًّا لتأويلِ تاريخ الأفكار منهجيًّا ومنطقيًّا ، وتوضيحِ كَيفية تفاعله معَ رُؤيةِ الفرد لِذَاتِه ومُحِيطِه ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى استخراجِ الأحلام المَقموعة مِن مَسَارَات الزمن المُتشابكة ، واسترجاعِ الوَعْي الإبداعي مِن مَتَاهَات المَكَان العميقة . وهَاتَان العَمَلِيَّتَان تُسَاهِمَان في نَقْل الهُوِيَّة المعرفية مِن كَينونة الفرد الفاعلة إلى الفِعْل الاجتماعي ، وهذا يَضْمَن الانتقالَ السَّلِسَ لتاريخ الأفكار مِن الذِّهْنِ التَّجريدي إلى التطبيقِ العملي ، ومِن الدَّلالةِ اللغوية إلى السُّلوكِ الأخلاقي ، ومِن الجُمُودِ الحَضَاري إلى الحَرَاكِ الحَيَاتي . وإذا تَجَذَّرَ تاريخُ الأفكارِ في فلسفة الظواهر الاجتماعية رُوحًا ونَصًّا ، فَإنَّ الأنساق الثقافية سَيُعَاد تشكيلُها لإنقاذِ الفرد مِن المَأزق الوُجودي ، وإنهاءِ الصِّرَاع بَين مَصادرِ المَعرفة والتجاربِ الواقعية ، الأمر الذي يَدفَع باتِّجَاه تَحويل البناء الاجتماعي إلى جَوهَر إنساني على تماس مُباشر معَ العَقْلِ الجَمْعي ، والوَعْيِ الإبداعي . وإذا كانَ وُجودُ الإنسانية سابقًا على وُجود المُجتمع ، فَإنَّ الهُوِيَّة المَعرفية سابقة على سُلطة الظواهر الاجتماعية . واندماجُ الإنسانيةِ معَ المَعرفةِ يُؤَسِّس للتفاعلات الرمزية بين المُجتمعِ واللغةِ في صَيرورةِ التاريخ ، وتفاصيلِ الحياة اليومية ، وتَحَوُّلاتِ الشُّعورِ والإدراكِ .

"تتجلّى عبقريّة ميرتون في نهجه النقديّ الّذي تبنّاه في ترميم النظريّة الوظيفيّة وإعادة بنائها وصقل مفاهيمها وتدوير زواياها الحادّة وتأصيل مقولاتها على نحو نقديّ، وقد تجلّت قدرته في الأخذ بالمنهج النقديّ للنظريّة الّذي حرّره نسبيّاً من القيود الأيديولوجيّة الطاغية الّتي تظهر في مختلف المداخل الفكريّة للنظريّة الوظيفيّة منذ بداياتها الأولى".

1-مقدمة:

بلغت البنائيّة الوظيفيّة أوج نشاطها الفكريّ على يد تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) في سبعينيّات القرن الماضي، ولكن سرعان ما خبا وهجها وضعف تأثيرها في ثمانينيّاته تحت مضارب النقد الشديدة الّتي أوقعت بها، فأطاحت بتصوّراتها، وأسقطت كثيرا من مفاهيمها، كاشفةً فيض مثالبها، وعمق قصورها ومواطن ضعفها. وفي معترك هذا السقوط الكبير لنظريّة بارسونز، واهتزاز الراية الوظيفيّة، خرج روبرت ميرتون من بين الصفوف ليخطف الراية الوظيفيّة، وينهض بها من جديد على ركائز سوسيولوجيّة جديدة، تمتاز إلى حدّ كبير بالتوازن الفكريّ والتماسك المنهجيّ، وقد تمكّن، بما قيّض له من قدرات إبداعيّة ومهارات منهجيّة، أن يعيد للوظيفيّة بعضاً من ألقها الفكريّ ووميضها المنهجيّ الّذي عرفت به في ثمانينيّات القرن الماضي.

حلّق ميرتون في فضاء السوسيولوجيا الحديثة بأجنحة منهجيّة جديدة ، واستطاع أن يطوّر النظريّة الوظيفيّة، وأن يمنحها بعضاً من القوّة على الاستمرار والقدرة على الحضور مجدّداً بما قدّمه لها من عناصر فكريّة جديدة على أسس نقديّة متجدّدة،  ويرى كثير من النقّاد اليوم أنّ نظريّة روبرت ميرتون تشكّل الحلقة الأكثر نضجاً وعمقاً في النظريّة البنائيّة الوظيفيّة على وجه الإطلاق، ولا غرو في القول: إنّ الوظيفيّة بلغت أوج نضجها وتألّقها على يد ميرتون الّذي حمل رايتها المنتكسة، ونهض بها خفّاقة في عالم السوسيولوجيا الوظيفيّة المعاصرة.

ومن المعروف، أنّ الوظيفيّة الكلاسيكيّة قبل ميرتون ، كانت تحلّق في أبراجها النظريّة الشموليّة، دون أن تلامس الواقع الاجتماعيّ الحيويّ، أو أن تقترب من الحقل الأمبيريقيّ الواقعيّ للحياة الاجتماعيّة، ولذا كانت تتعرّض دائماً للاهتزاز والسقوط بين الحين والآخر، وذلك لأنّها كانت غالباً ما تحلّق بجناح التنظير التأمّليّ الوحيد، إلى أن جاء ميرتون فأصلح من شأنها ودفعها إلى التحلّيق بجناحي الواقع والنظريّة لتحقّق توازنها  المنهجي والفكري.