في عملها البارز، "الظهور الجندري في المجتمع الملاوي الساحلي الشرقي"، تسبر الأنثروبولوجيا إنغريد رودي أغوار التحولات الجندرية في ماليزيا، مع التركيز على تأثيرها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للنساء في الساحل الشرقي. تعود رودي إلى ماليزيا بعد مرور عشرين عاماً على دراستها الأولية لتلقي الضوء على الثبات والتغير في الأدوار الجندرية، مما يسلط الضوء على كيفية تأثير العمليات التاريخية الكبرى والأحداث الشخصية في تكوين الهويات الجندرية.
وتعتبر إنغريد رودي أول امرأة عالمة أنثروبولوجيا في النرويج، تمثل شخصية رائدة وملهمة في مجال علم الأنثروبولوجيا. لا تقتصر أهميتها على كونها امرأة في ميدان غالبًا ما كان يهيمن عليه الرجال، بل تتعدى ذلك إلى إسهاماتها العلمية والأكاديمية التي أثرت بشكل كبير في فهم الثقافات والمجتمعات المختلفة. تميزت رودي بأبحاثها المعمقة وميدانية العمل، حيث غالبًا ما كانت تغوص في الثقافات التي تدرسها لفهمها من الداخل. هذا النهج لا يوفر فقط فهمًا أعمق للثقافات المختلفة، ولكنه يبرز أيضًا أهمية النظرة الأنثروبولوجية التي تقدر الاختلافات الثقافية وتحتفي بها. تغطي الدراسة طيفاً واسعاً من الجوانب الحياتية كالأسرة، التعليم، الاقتصاد والطقوس، مستخدمة مناهج أنثروبولوجية لرسم صورة مفصلة للحياة اليومية للنساء، وتكشف عن قدرة النساء على التأثير في أدوارهن الجندرية رغم القيود المفروضة عليهن. في فترة الستينيات والثمانينيات، شهد الساحل الشرقي الماليزي تغيرات كبيرة في مكانة المرأة، حيث تمتعن بأدوار متنوعة كزوجات، أمهات، ورائدات أعمال، مسيطرات على الأسواق ومؤثرات في الاقتصاد الأسري والسياسات العائلية. تلك الحقبة كانت محورية في تاريخ ماليزيا، حيث بدأت مكانة المرأة تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية في المجتمع. من الستينيات إلى الثمانينيات، دفع النمو الاقتصادي والتحديث في البنية التحتية والخدمات العامة نحو توسيع الفرص الاقتصادية للنساء، مما ساهم في تمكينهن من تولي أدوار متنوعة في المجتمع. تغيرات أدوار النساء داخل الأسرة ومشاركتهن الاقتصادية المتزايدة كان لها تأثير بارز في الاقتصاد المحلي والأسري.

عتبة:

لابد للمهتم بالسوسيولوجيا في المغرب أن يسجل الحضور الفكري المتميزالذي حققه عالم الاجتماع المغربي د.عبد الصمد الديالمي سواء بإنتاجاته المكتوبة أومقابلاته الصحفية المثيرة بسجالياتها القوية، أوباستراتيجية  تفكيره، والكيفيات اللامهادنة التي يَطْرق بها القضايا اللاهبة المُرْبِكَة حقا للمؤسسة التقليدية؛ والمزعجة إلى أبعد الحدود للعقل  الاتباعي الاجتراري في مجتمعنا .

فغير خاف أن مدار اشتغالات الدكتورعبد الصمد الديالمي يتمحور بالأساس حول الجنس والجنسانية الموضوعتين اللتين قادتاه رأسا إلى الاقتراب أكثر من طبيعة المجتمع المغربي وتعميق النظر فيه سَبْراً لأغواره بالاعتماد على أَسْلاب العمل السوسيولوجي الاختباري المصغي جيدا  للواقع في أدق  تفاصيله. فقد سمحت له دراسته التأسيسية التي  وقَّعَها بعنوان "المرأة والجنس في المغرب" 1 من بناء سؤالاته الاستفهامية التي ستشكل حجر الزاوية في مشروعه العلمي وهي: ما موقف الشباب من الجنس؟ ما موقف السلطة من الإشكالية الجنسية؟ أضف إلى ذلك ماهو منظورالإسلام للجنس؟ وكيف يتعاطى الفقه مع القضايا المستجدة حول هذه الموضوعة في مجتمع داهمه التحول على كافة المستويات والصُّعد؟

إنها السؤالات ذاتها المحركة لإسهامنا الذي يروم، جهد المستطاع، النظر في المنجز السوسيولوجي لعبد الصمد الديالمي من أجل إعادة بناء طروحاته الأساسية ومحاوره الكبرى.   

أولا: ملاحظات حول السوسيولوجيا الوطنية: 

إلى الجيل الجامعي المغربي الذي تتلمذ للرواد المغاربة 2 واضعي اللبنات الأساسية للسوسيولوجية الوطنية؛ تنظيرا  وممارسة، ينتمي الأستاذ عبد الصمد الديالمي بكل تأكيد.

 انٰهَمَمَ هؤلاء الرواد بعيد لحظة الاستقلال السياسي بتشييد  معرفة سوسيولوجية حَرَّكها حذر فكري من المعرفة  الغربية؛ ويقظة  إبستيمولوجية من التراث العربي الإسلامي الجاثم على ذاتنا المطمئنة إلى وهم الوحدة وميتافيزيقا  الكلية 3 عوض منطق التكرار التوَّاق للاختلاف الذي يشغل حاضرنا، ويهم مستقبلنا 4 .بهذا المعنى سينصب نظر المدرسة السوسيولوجية المغربية على الإشكاليات ذات الارتباط بمرحلة تصفية الاستعمار؛و مشروع بناء الدولة الوطنية وماواكب ذلك من نقاشات وتحليلات، ومنظورات  كانت، بمعنى ما، صدًى لما كان يعتمل في الساحة الدولية من صراعات فكرية قوية وتوجهات سياسية متصادمة تراوحت بين الغَرْبَنَة  والتحديث ذِي المنزع الاشتراكي أو الليبرالي(=الاغتراب)؛ أوالموصول بالمشروع القومي  العروبي بكل أطيافه(=الاعْتِراب)؛ أو ذاك المرتبط  بحركة القارات الثلاث المنافحة عن" الإبداع الذاتي" و"الخصوصانية "؛ المقولتان المركزيتان في التحليلات الفكرية  لدى منظري ما سمي آنئذ بالأمم الجديدة 5 .

في خضم هذا المخاض الفكري والسياسي خلقت المدرسة السوسيولوجية الوطنية المغربية التي تفاعلت، في الوقت  نفسه، مع رؤى وتيارات فكرية وفلسفية مَوَّارة، شكلت على نحو ما الخلفية النظرية، والقاعدة الثقافية للنقاشات وأثناء مطارحة القضايا الهامة في ذلك المنعطف الدقيق التي شهدها عالمنا؛ على اعتبار أنها انصبت بشكل جوهري على سؤالات التنمية التي ستجنح بالأبحاث المختلفة صوب  توصيف طبيعة التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية المغربية؛ وفحص بنياتها وانتظاماتها الداخلية في أفق إنتاج معرفة حقة تشمل كل مفاصل المجتمع؛ وتسعف في إمعان النظر مليا  في معاطب التطور؛ وللإشارة بأصبع مستقيمة إلى معرقلات التغير.


و اعتبارا لهذا اقتضى الأمر درأ المناولات الماكروسوسيولوجية لفائدة المونوغرافيات والبحوث، القطاعية الرامية إلى تفهم دقائق الظواهرالاجتماعية وكيفيات تشكلها في الزمان والمكان 6 .

و تبعا لهذا تطارح الباحثون مواضيع لها وصل بإشكالية التقليد والتحديث والبنى المخزنية ثم بمكونات الطبقة  السياسية، وآليات الارتقاء الاجتماعي والسياسي بالإضافة  إلى علاقة الدولة بالإدارة والمجتمع، وبطبيعة التشكيلة  الاجتماعية والاقتصادية المغربية، إلى جانب الثقافة الشعبية  بما هي حقل خصيب لتشابك الرموز وتداخل العلامات  7 التي تسائلنا من أجل الحفرعميقا في الذاكرة الجماعية  للوقوف على جروح مجتمعنا المطمورة في تمثلاتنا وأفكارنا  8 ؛ فضلا عن قضية المرأة في التراث الإسلامي الموضوعة الرئيسية في أعمال العالمة الاجتماعية المغربية الأستاذة فاطمة المرنيسي.

و لأن الباحثين المغاربة يضعون هاته القضايا أمام السؤال السوسيولوجي؛ ويشرحونها بمبضع وتقنيات البحث العلمي، فقد نظر إلى السوسيولوجيا-ومايزال هكذا الأمر-كتخصص مزعج، وإلى ممارسيها كمشاغبين بحسبانهم يمارسون  الشك  الباعث على السؤال والموقِظ لشعلة التفكير.

ألا  يرى الحس المشترك إلى السوسيولوجيا-والفكر الفلسفي - النظري-كفرع معرفي مزعج؟ أوَلَيْسَ التساؤل  السوسيولوجي علامة على حيوية الذهن؛ ودلالة على يقظة  الوعي المخلخل للعادة، وللتمَثُّلات المتجذرة في الأذهان؟

إن فضح الانخداع الذي يرعاه الجميع ويَحُضُّ عليه هو يقينا  مهمة من المهام الصميمية للسوسيولوجيا كممارسة نقدية 9 ، وعلم للإرادة الحرة. 10 وتأسيسا على هذا ليس غريبا أن تُوَقِّعَ الطبقة القيادية بالمغرب، بالنظر إلى عدم تثبتها ؛ في  تبين الفرق بين السوسيولوجيا و"السُّوسْيالِيزْم"على قرار وَصْدِ أبواب معهد علم الاجتماع بالرباط  في وجوه مرتاديه وأساتذته سنة 1970  11 معللة إجراءها الإداري بزعم مغرض وواهٍ  مؤداه "أن السوسيولوجيا لاتنتج إلا جَهًلَة  ومشاغبين 12  " و"ليتوزع دم قبيلة السوسيولوجيا بين قبائل العلوم الإنسانية بكلية الآداب 13 "

 هذا،بلاغرو، هوالمناخ الذي تشكلت فيه البوادر الأولى للمدرسة السوسيولوجية الوطنية والمَسَاق الذي تبرعم  في  خضمه الجيل الذي ينتسب إليه الأستاذ عبد الصمد الديالمي  فكريا، وثقافيا، وسياسيا، وانْوَسَمت به مرحلة دقيقة جدا  من  تاريخ المغرب الراهن على، إثر إنعاش سياسة التَّقْلَدة التي  انتهجتها الدولة المخزنية  14 ؛ واحتداد الاصطراع بين القوى المتعارضة داخل المجتمع بحيث انتهجت فيما بينها أسلوب العنف والعنف المضاد على مدار المرحلة  الزمنية التي امتدت من الستينيات إلى مطالع سبعينيات القرن  المنصرم.   

ثانيا: المجتمع المغربي من خلال جِنْسَانِيَتِه:

بمجرد  التحاقه جامعة فاس سنة 1977 أستاذا  للسوسيولوجيا سينهمك عبد الصمد الديالمي برسم مساره كعالم  اجتماع ؛ وسينكب في الوقت عينه على إنجاز   مشروعه العلمي حول الجنس والمجتمع؛ وهوالمشروع الذي" كان مزعجا لزملائه ولكثير من مناضلي الاتحاد الوطني لطلبة  المغرب آنذاك، لا لشيء سوى لأن موضوع  بحثه وكيفيات اشتغاله عليه وتدريسه لم يكن لأن يهضم بسهولة "  15  إلى حد أن" الدْيَالْمِيَات ظل النعت الذي يصف به أساتذة وطلبة  كثر أي اقتراب من أطروحة وأنماط  تحليل عبد الصمد الديالمي " 16 خصوصا أولئك الذين لم يكن لهم نصيب من الاطلاع على كتابات "فاطمة المرنيسي" التي  تمحورت حول المسكوت عنه في تاريخ الإسلام والتأويل  الذكوري  القبلي لأصحاب السير والتفاسير. من ثم فالقول بأن عبد الصمد الديالمي"سيرحل بالسوسيولوجيا الوطنية بعيدا عن إشكالات المؤسسين وسؤالهم الأساسي حول  كيفيات التعاطي النقدي مع السوسيولوجيا الكولونيالية  17 وموضوعاتها " 18 هو في تقديري كلام مجانب تماما للصواب لأنه غاب عن كاتبه ارتباط عبد الصمد الديالمي بالمدرسة السوسيولوجية الوطنية. ومصداق هذا الكلام اعتراف  الديالمي  نفسه بفضل أساتذته العلمي عليه حينما يقول:"بفضل قراءة "رايش"، خرجت بالخصوص بمشروع علمي هائل، ضخم... بدأته تحت إشراف أستاذي الدكتور محمد جسوس سنة 1975 . كانت أول أطروحة جامعية في المغرب حول المرأة  والجنس. بهذه المناسبة، لن أنسى ذكر أستاذي الآخر الذي جعلني أحتفظ دائما بنكهة سيكولوجية  في أعمالي، أقصد الدكتورعبد الواحد الراضي، الأستاذ الأول الذي جعلني أكتشف وأحب علم النفس. الآن وبعد  ثلاثين سنة بالضبط من قراءة "الثورة الجنسية"كبر المشروع وأصبح يتمحور حول مفهومين أساسيين، الإسلام والجنس ..." 19

إلى جانب ذلك خصص الدكتورعبد الصمد الديالمي الكثير من  كتاباته للنسوية الكولونيالية القائمة على التمييز  التفاضلي بين المرأة الأمازيغية والمرأة العربية، فقام بنقدها  ليتخلص من خلفياتها العرقية والدينية 20 .

 إن رهان الاقتراب من حقل ملعون كهذا يحف به الكبت/ التهميش21 ، وتعريته من منظور سوسيولوجي، هو"ضرب  من الإيمان الموضوعي بالفلسفة الوضعية، ومساهمة في إرساء سيادة خطاب علمي وعقلاني"22  بصدد القضية  الجنسية باعتبارها إشكالية تقبل الدراسة والتنظير. ذلك أن القضية الجنسية إن كانت خصبة فهي بالغة التعقيد  والخطورة لاندراجها ضمن علاقة الرجل بالمرأة؛ وبكل ما يرتهن بهاته العلاقة كالحق في التعليم، والعمل، والاقتراع، والسلطة، وبالحق في المتعة أي بالبناء الديموقراطي  23، وبكل ما يمكن  من:

1– طرح مسألة التنمية كمقصد للعلوم الاجتماعية. وقد حدده عبد الصمد الديالمي في هذه الموجهات: كيف يمكن أن تتحقق التنمية دون الانتقال من الجنسانية الممزقة بين الدين والعلمنة إلى الجنسانية المدنية المندمجة؟ وبأي معنى  يستطيع الفرد-المواطن أن ينتج في ظل القمع الجنسي، وفي ظل التحريم والتجريم؟ وهل بوسع المكبوت جنسيا أن يحب حقا ويعمل بوعي ويدرس بجد وأن يتواصل بشكل إيجابي مع الغير ويتعايش معه باتزان؟

يكتب عبد الصمد الديالمي في هذا الصدد: "إن التنمية (= البشرية) تنمية جنسية أيضا. وتقوم التنمية الجنسية على الحق في الجنس(=المستقل عن الزواج)إذ "لاتنمية مع العنف الجنسي بكل أشكاله وسياقاته ." 24

2 –    الاقتراب أكثر من الأفكار الاجتماعية والتصورات العفوية السائدة في مجتمع لايقدم نفسه بالسهولة التي نخالها.

فلئن كان"سيغموند فرويد" قد اعتبر الكبت الجنسي مكونا  أساسيا من مكونات الحضارة والثقافة  25 ؛ فإن"فلهلم رايش" استطاع بارتكازه على منظوره الراديكالي الثوري  في السِّيكْسبُول" 26 Sex – pol »

أن يربط بين الكبت الجنسي وضعف قدرة الفرد على النقد والتمرد. فحينما تحظرالمجتمعات القمعية الجنس على الفرد فهي بهذا تساهم في إضعاف قواه الذهنية؛ وتعطيل ملكاته في النقد والتقييم والمحاججة؛ ومن ثم إلى شل كل قدراته على التمرد والمواجهة، والاحتجاج والثورة لأجل تغيير الأوضاع ؛ لتحل محلها سلوكات المحافظة، ومواقف سياسية سلبية تطبعها اللامبالاة بسبب الشعور بالنقص وتبكيت الضمير؛ ويغلب عليها منحى التسلط والنزوع إلى الديكتاتورية  27. لذلك يدين" فلهلم رايش"المجتمعات الطبقية مثلما يدين كل حضارة قمعية تراتبية مضادة الجنس لأنها "تخلق  بنية طبعية تمتنع باطنيا عن الجنس وتعجزعن بلوغ الأورجاسم الحقيقي" 28؛ المُخَلِّص الحقيقي من التوتر الجنسي، والمحرر الفعلي من الإعاقة  الباطنية 29، وبحسبانها عِلَّة أساسية مُفَجِّرة للأَعْصِبًة  

Névroses

التي تزيد من تفجيرها وتفاقمها الأوضاع المُتَرَدِّية  الموصولة بالسكن، ونمط التنشئة، والمرتبطة بالاستغلال، والقانون والإيديولوجيا المهيمنة..لأن داخل كل صراع  طبقي يَثْوي بالتأكيد صراع جنساني وكبت جنسي  30 يعرقل انفتاح الفرد، ويُعَثّر حريته وانطلاقته في الحياة  31؟ .  

ثالثا: الجنس في مجتمع متحول :

بالارتكاز على نتائج أبحاثه الميدانية التي استمرت لأزيد من خمس وثلاثين سنة؛ لاحظ عبد الصمد الديالمي حصول  انفجار جنسي هائل لدى المغاربة، ذكورا وإناثا، من مختلف الشرائح العمرية صاحبه تغيرلافت في مسلكياتهم ، وتصوراتهم وثقافتهم الجنسية  .

نستطيع رَدَّ هذا النشاط الجنسي المكثف إلى تداخل ديناميتين اثنتين: دينامية خارجية وأخرى داخلية .

الدينامية الخارجية :

تعيش المجتمعات الإنسانية اليوم طفرة كبرى همت العلوم،  والاقتصاد، وشملت السياسة، والاجتماع كما الثقافة دون أن  توفر باقي مناحي الحياة الأخرى كتمثل الذات، والنظرة إلى  العالم، ونظام الصيرروة .

 وليس من شك أن هذه الطفرة تؤشرعلى إقبال الإنسانية  على حضارة جديدة متغايرة جذريا عما درجنا عليه وعهدناه  من استمرارية تاريخية على مدار القرون الثلاثة الماضية  32 بالنظر إلى مايلي :

1 -  الفرص المهمة التي يحملها العلم بكشوفاته الجديدة و اختراعاته المثيرة ومناهجه الخارقة وتقنياته العجيبة التي  اكتسحت الإنتاج والإدارة؛ وكذا العلاقات الإنسانية حيث أحدثت شروخا عميقة في البنيات الاجتماعية والفكرية  للمجتمعات وخلخلة في الحيوات الشخصية للأفراد بسبب  قوة انتشار الثقافة الجماهيرية؛ وصدى وسائل الاتصال  الحديثة مما كان له انعكاس على وجدانيات الناس،  وحميمياتهم، وارتباطهم بأغيارهم، وعلاقاتهم بالزمان  والمكان، وعلى الشعور بالاستقلالية والحرية والمسئولية  الفردية جراء الانهيار التدريجي للأنساق التقليدية  التي  تؤطر؛ الأفراد والجماعات فكريا، ودينيا وأخلاقيا 33.

2 – انفجار: الانفتاح؛ الكوني؛ الذي: يَسَّر: تقارب: الإنسانية على؛ الكوكب؛ الأرضي بشكل غير مسبوق: عملا بما سماه  "هنري كيسنجر" قواعد القرن الواحد والعشرين"  34  التي  صَيَّرت العالم" قرية صغيرة "مشرعة الأبواب لانكسار متاريس الزمان وحدود المكان .  

3 – هيمنة قانون القوة والمنافسة على أوسع نطاق؛ واحتداد التزاحم بدون عراقيل أوقيود .

 فلا مكان في عالم اليوم لمن لا يمتلك الفعالية، أو لمن   يفتقر للاقتدار العلمي، والتسلح بالمعرفة والاحتماء بالتكنولوجي. عالم اليوم هو عالم المفاجئات بامتيازلأنه فضاء مفتوح على الرجَّات المباغتة والهزات الفجائية. إنه عالم اللايقين، واللاثبات، وعالم اللااستقرار35.

 زمن  الكوكبية هو زمن المراجعات المنتظمة  لتصوراتنا، وإعادة تشكيل دؤوبة لمرجعياتنا، ونماذجنا الإرشادية التي درجنا عليها  في التربية والتعلم، وفي السياسة والثقافة، وردود الأفعال كما التطلعات والآفاق. إنه اختصارا زمن حضارة مستفزة تحملنا على إعمال التفكير في زادنا  الثقافي بصيغ جديدة بغاية إعداد مستقبل أضحى فيه اقتصاد السوق التبضيعي، والتشييئي يحتل الصدارة، وإله المال مرتكز ثقافة36 النيو-ليبرالية الأساس، وجيش الأوليغارشية العالمية 37 المتحكم في كل شيء  والعامل على تفكيك الدول وتمزيق كياناتها بزرع بذور الشقاق والفوضى والنزاعات المسلحة والسطوعلى البيئة وتشويهها على نحو ممنهج لاسابق له ..

الدينامية الداخلية :

مكنت مفعولات الكوكبية الشاملة من تكسير بنيات  المجتمعات التقليدية، وأنساقها الثقافية، وإحداث هزات قوية على مستوى الهويات جراء ضعف"متانة الأسوار التي تحمي الثقافات الوطنية المحلية، وهشاشة الحدود الفاصلة بين المنظومات الثقافية" 38. ومكنت، بالموازاة مع ذلك، من وقوع سلسلة من التطورات لها وصل متين باليومي نحو العلاقات الاجتماعية، والممارسات السلوكية والتصورات والذهنيات وبالقناعات الإيديولوجية الخاصة، يجدر بنا تصنيفها في هكذا نقط:

1 – تأزيم النهج التبعي للاقتصاد المغربي. فمن المعلوم  أن هذه الأزمة بلغت أوجها في مستهل عقد ثمانينيات القرن الفارط جراء التطبيق الصارم ل"برنامج التقويم الهيكلي"  الذي فرضته المؤسسات المالية الدولية على المغرب  فتحصل منه تغير في الوظائف الاقتصادية للدولة -العناية   كتحرير الأسعار وخفض النفقات العمومية في القطاعات  الاجتماعية، ولاسيما في قطاعي التعليم والصحة وتراجع  صارخ في فرص الشغل بالأساس تجميد المشاريع الكبرى التي سبق  للدولة تدشين انطلاقتها إبان الوفرة الاقتصادية على إثر تدفق عائدات البلاد من الفوسفاط؛ وانتعاش الصادرات المغربية في منتصف السبعينيات 39.

من ثمة كان لسياسة التقشف المنتهجة والتي عمقتها  حدة  الجفاف، انعكاسات سلبية على المجتمع والإنسان تمثلت في تسارع الهجرة القروية باتجاه المراكز الكبرى وتداعيات التمدن العنيف على المجال الحضري وما ارتبط به من مشاكل ترتهن بالشغل والسكن وبتراجع القدرة الشرائية  للمواطنين... نتج عنها انهيار المنظومة القيمية وتفكك البنى الأسرية فالتعاطي لمختلف أنواع المخدرات ناهيك عن تنامي الانحراف والجريمة...إنها الظواهر التي أذكت استياء  الطبقة الاجتماعية المعدمة والفئات غير المندمجة في الدورة الاقتصادية التي أشعلت فتيل انتفاضة يونيه 1981 وأحداث 1984  فغضب دجنبر 1990  40.

2 – فعندما بات العثورعلى عمل قار إشكالا حقيقيا حتى   بالنسبة للفئات المتعلمة نظرا لفقدان الشهادات والاستحقاق  لكل قيمة اعتبارية في سوق الشغل؛ وابتغاء مواجهة شبح  العطالة المضني لم يجد الشباب بجنسيه مناصا من اللجوء  إلى الحلول الفردية الذاتية كالبحث عن النجومية السريعة في مجالات الرياضة والفن أوالاختيار القسري للهجرة الدولية  أو في تجر شبح عالم الكحول والمخدرات أو الانخراط  في أعمال السمسرة أو بتجريب أسلوب"النضالية الاحتيالية " للحصول على تزكية حزبية لخوض غمار لاستحقاقات الانتخابية؛ أوالارتماء في أحضان التأسلم طلبا لاندماج  اجتماعي؛ أو بحثا عن توازن مفقود لتضميد جراح نفس مكلومة ودفاعا عن هوية لاتطمئن لشيء قدر اطمئنانها لتطابقها وثباتها  41. .  

3 – و في السياق نفسه لاحظ عبد الصمد الديالمي إقبالا لا نظير له على العمل الجنسي بديلا للعمل القار إذ صار أمرا واقعا زادت من تعاظمه سيرورة التفقير التي سرعت  الانتقال من البغاء الهامشي إلى العمل الجنسي غير المهيكل وغير المنظم 42.

عوامل متعددة ومتداخلة ساهمت في تفجير هذا النشاط الجنسي المتنامي نذكر منها:

 أ – تطورالمستوى التعليمي وتمديد فترته وولوج المرأة  عالم الشغل المأجور .

فقد لاحظ عبد الصمد الديالمي أن معدل سن الزواج  بالمغرب ارتفع بالنسبة للنساء(وهوما يلاحظ في صفوف الرجال أيضا)من 17.3 سنة 1960 إلى 26.4 سنة 1997 43 لينجم عن ذلك  تأخر سن الزواج وارتفاع مطرد في نسبة العزاب .

ب – الدور الهام الذي لعبته بعض الوسائط الثقافية  في  الرفع من درجة الوعي الصحي للوقاية من الأمراض  المنقولة  جنسيا؛ أو درءا لحمل غير مرغوب فيه خارج  إطار الزواج.

 ج - تقدم علم  الجراحة الطبي الذي توصل إلى رتق غشاء  بكارة بعض الفتيات على إثر فقدها لسبب أولغيره؛ فمعلوم جدا ما للبكارة من رمزية قصوى في المجتمعات  البطريركية التي جعلت من أنثروبولوجيا الشرف، وعذرية  الفتيات تخصيصا، شأنا ذكوريا بالأساس وملكية عائلية  بامتياز 4.

د  -  انتشار إيديولوجيا الاستهلاك الجنسي عبر وسائل الإعلام المختلفة المسموعة؛ والمكتوبة والمرئية .

ه -  دافع البحث عن شريكات جنسيات لدى العديد من الذكور كتعبيرعن رغبة دفينة في امتلاك حريم مستحيل؛ أو لمصادفة متعة جنسية "غير محترمة" يعسر تحقيقها في إطار العلاقة الزوجية أو لاقتناص لذة عابرة مع عشيق 45؛

أو كنية مبيتة يرجح أن تكون انتقاما من زوج عنيف؛ أو خائن في بعض الأحايين .46

 مكن العمل الجنسي ممارسيه من تغيير أنماط سلوكهم؛ و مظاهرهم الخارجية المتمثلة في تسليع الجسد ومسرحته  بارتداء الألبسة الفاخرة واقتناء مجوهرات وسيارات فارهة  أسعفتهم في الحصول على خدمات وامتيازات"الرشوة الجنسية " 47  ومراكمة مكاسب مادية مهمة جدا؛ وأرصدة  بنكية معتبرة يسرت لهم السكن في شقق راقية وساعدتهم على فتح صالونات للحلاقة والانخراط في أسلوب حياة  المجتمع الاستهلاكي، والاستسلام لإغراءاته  اللاتقاوم وليغيروا أوضاعهم الطبقية ومراكزهم الاجتماعية  48 وليتحول العمل الجنسي بالنتيجة إلى اقتصاد حقيقي للبغاء وإن بشكل سري وغير مُمَأْسس ينشط القطاع السياحي وينعش الدورة الاقتصادية في أوج فتورها بجلب العملة الصعبة التي أفاد. من سيولتها العمال الجنسيون ومساعديهم  وبعض شركات الأسفار، ووسائل المواصلات وأرباب الفنادق والعلب الليلية وشركات الخمور ومروجو المخدرات وصالونات التجميل وبعض الموظفين 49 .

و ترتيبا على ذلك لم يعد"البغاء"موضوعا يثير التقزز  والخجل في كثير من مجالس الناس وفي الحافلات والمقاهي  وبين الجيران ووسط الأسر في الحفلات الخاصة. لأن"حمى البغاء"ركبت كل الرؤوس لتتقبله أسرعديدة  طفقت لم تعد  تشعر بأية غضاضة وهي تتواطأ مع بناتها بدفعهن إلى جلب المال عبر الاتجار في اللذة من أجل مواجهة تكاليف الحياة  المرتفعة .

فقد صار المجتمع سوقا جنسيا، وتجارة بين بائع ومشتر تخضع لقانون العرض والطلب ومعاملة لها قنوات وأثمنة لا احتكام فيها للأخلاق والمثل  50 والقيم الإنسانية، إلى حد أن  العمل الجنسي أمسى نشاطا تجاريا رائجا لدى الطالبات  الجامعيات اللواتي عمدن إلى تقديم خدمات جنسية  لزبنائهن الراغبين في اقتناص لحظات تجمع بين اللذة الجنسية  والمتعة الفكرية مما سمح لعبد الصمد الديالمي وبالحديث عن" الشيخات المثقفات " 51.

تُجْلِي هذه المعطيات التي سقناها؛ وبما لايدع مجالا للارتياب، اتساع رقعة العلاقات الجنسية داخل المجتمع المغربي الذي غدا سوقا جنسية، كما تجلي أيضا أن العمل الجنسي أضحى سلوكا احترافيا-مهنيا يمارس بكل الأشكال والطرق، وفي وكل الأماكن الآمنة منها وغير الآمنة، الملائمة وغير الملائمة 52 من لدن كل الشرائح العمرية لكلا الجنسين وكل الفئاتة السوسيو مهنية. إن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن إطار الزواج لم يعد كافيا تماما لاستيعاب كل السلوكات الجنسية كما كان عليه الأمر فيما سبق جراء تجاوز جنسانية اليوم حدود الزواج؛ وحدود الشرع، والقانون لتتكرر يوميا معبرة عن نفسها بصورة صريحة في الفضاء العمومي 53.

و تبعا لذلك فإن اجتياح الرغبة وملحاحية إشباعها بكل الطرق يجعل من مقولة الاستمساك/الصيام الجنسي بالنسبة  للشباب لاعقلانية بالمرة؛ غير واقعية بالمطلق في محيط أضحى كله مغريات تجذبه إلى الاستهلاك الجنسي، أوتطالبه بالزواج مع أنه عاطل ليس بمستطاعه إعالة نفسه .

 ضمن هذا المساق عبر مبحوثو عبد الصمد الديالمي، غير ما مرة، عن ضرورة إيجاد مسالك مقبولة للتوفيق  بين  أحكام القيمة التي ترى إلى الممارسة، الجنسية خارج  التمأسس الزوجي زنا وفسادا وحراما وبغاء إن لم نقل  فاحشة ودنسا وقذارة يلزم اجتنابها 54 ، وبين الحق في الممارسة الجنسية  قبل الزواج كحق إنساني أساسي وحرية فردية إذ لابد للاجتهاد الفقهي أن يتفهم حاجات الشباب  الطبيعية، وحقهم الإنساني في الجنس دونما خوف من أية  تبعات قانونية؛ أو أي إحساس بالذنب. لنتوقف عند نص لعبد الصمد الديالمي ينتقد مقتضاه موقف الفقيه الذاهل عن  تطورات العصر ويؤزم نظرة "العالم" الحسيرة عن رؤية الواقع المجتمعي المتقلب. يقول: "فأنا أتعجب لأن كل العلوم  تتطور وكل المهن تتطور وتقبل التطور التاريخي إلا مهنة  الفقيه فتتشبت بهوية لاتعرف الإنصات إلى طلبات الواقع، وهذا الموقف ينفر الشباب من الإسلام من خلال نفورهم من الفقهاء، لأنه يرى فيهم رقباء ينتجون إسلاما يمنعهم من تحقيق المتعة خارج زواج أصبح متعذرا..." 55 ولاسيما أن شريحة عريضة من شباب اليوم تلفي نفسها وعاجزة  تماما عن العثورعلى سكن قار لتكوين أسرة بالنظر إلى الأزمة البنيوية التي يتخبط فيها الاقتصاد المغربي التي جعلت من  المجتمع المغربي مجتمعا مسدودا 56.

إن الإنصات لقول المستَجْوَبين هو إنصات لنبض الواقع وإصغاء لإيقاع بلد داهمته تحولات شمولية، تعبرعن علمنة موضوعية للمجتمع وعن انتقال جنسي حقيقي يؤشر في العمق عن حداثة جنسية صامتة غير واعية تعبرعن ذاتها من خلال الانفجار الهائل للسلوكات الجنسية بما هي تعبير عن  الذاتية في شفافيتها وفرادتها؛ وعقلانيتها، ثم عن استقلاليتها وحريتها في التصرف والفعل، الاختيار 57 رغم سطوة  التقليد؛ ورغم صلابة مقاومته التي تتبدى في سيادة الأخلاق الجنسانية الإسلامية التي تترجمها فصول بعينها  من القانون الجنائي المغربي المجرم منطوقها صراحة "للفساد والبغاء" ولكل أضراب "الدعارة".إنه "التناقض بين قانون صارم وبين ليونة تطبيقية انتقائية يسمح للدولة بأن تصيب عصفورين بحجر واحد: من جهة تبقى" وفية "لإسلاميتها الدستورية ومن جهة أخرى تسمح للعمل الجنسي بان يوجد في واضحة النهار.. وأن يقوم بتأدية وظائفه النفعية المتعددة . 58

تناقض يفصح بصورة جلية عن تخلف القانون عن الواقع ؛ وتلك هي بالتحديد المفارقة التي تجعل الإنسان المغربي (= كما العربي)عرضة للحملات الأمنية التطهيرية الموسمية  والانتقائية. فلئن كانت الدولة تشن تلك الاعتقالات تباشر تلك الاستنطاقات الظرفية التي تتوسل بها تطبيق القانون لحماية  الأخلاق العامة ولإظهار الدولة بمظهر راعية مثل وقيم، المجتمع وحامية الإسلام فإن عبد الصمد الديالمي يلفيها مأسسة لا مستساغة للتدخل في الحياة الخاصة للمواطنين من التعامل الاحتقاري الحاط من قيمة الأفراد؛ والمحتقر لحاجاتهم الإنسانية الطبيعية المشروعة؛ وإحراج رغباتهم  وحميمياتهم كآدميين، وربما لتحسيسهم بأنهم مجرد كائنات لم  تَرْقَ بعد إلى مرتبة  المواطنين الذين لهم الحق في ممارسة  حرياتهم 59  بعيدا عن كل حجر من الغير. لذلك يحتمل أن يكون سلوك الدولة هذا، إلى جانب البؤس الجنسي المترتب على الحرمان السكني أوضيقه؛ من الدوافع التي تحمل الشباب على الإقدام على ما يسميه عبد الصمد الديالمي" الترميق الجنسي- المكاني" المتمثل في "اقتناص جنس سريع  وخائف في أماكن غير ملائمة غابة، مصعد، سطح، مرحاض، سيارة...)..." 60 أومن السببيات التي تجنح بهم  نحو تطوير شخصيات أصولية متشددة تجد عزائها وسلوانها  في الحركات الدعوية الإسلاموية  61.

إن إقرارعبد الصمد الديالمي بالانتقال الجنسية لهو إقرار  بوضع  فعلي ومرحلة قائمة وحاصلة بالتأكيد؛ ثم بتحول  يجري في المجتمع المغربي رغما عن المرجعية الدينية  الإسلامية، ورغما عن الأخلاق الجنسية التقليدية .

على سبيل الختم :

من كل ماسبق يُحَصِّلُ الدكتورعبد الصمد الديالمي القول إن هذا الانفجار الجنسي، الذي يتبدى بمظاهر شتى، ليس  بمطلق الأحوال انحرافا أو تجاوزا للقانون؛ ولا فتنة أوتفككا  أوجاهلية جديدة؛ كما تَزْعم الأصولية الإسلامية وتَدَّعِي ، بقدر ماهو استجابة لمداهمة الحداثة ولطبيعة التحولات التي  فرضتها على البنى الاجتماعية ولم تستثن منها الذهنيات ولا المنظورات التي نحت منحى التمرد على الأخلاق  المضادة  للجنس .

ذلك أن الممارسات غير الزواجية، فضلاً عن الترميق الجنسي الارتزاقي، وكل أشكال التحايلات، والتواطؤات والابتزازات؛ هي مؤشرات موضوعية على معركة حقيقية  جارية تطالب بالعدالة الجنسية؛ وبالحق في اللذة ضد  البطريركية وإيديولوجيتها القانونية، وضد الفقيه المتمذهب 62.

 واعتبارا لكل هذا فإن ما يبدو خللا، أوفتنة، وانحلالا ليس  يعدو سوى تعبير عن معالم جنسانية عصرية حداثية ترفض  الأبيسية، وتسائل مرجعياتها اللاهوتية كيما تضع سلطتها  القانونية في أزمة. 63.

إن هاته السلوكات الجنسية رفض الأبيسية كمنظومة منبنية  على وجود سيطرة رجولية -قضيبية وسيادة المعيارية  الغيرية 64 ومرتكزة على اللامساواة والتمييز بين الجنسين  وعلى سطوة الكبيرعلى الصغير. وبهكذا معنى فالأبيسية  هي من حيث أبعادها العميقة نظام اجتماعي-سياسي قامع  لتطلعات أطفاله. كابت لجنسانيتهم. حذر منها لئلا يكتشفوا، بطريقة أو بأخرى، جنسانية جديدة مضادة قد تكون دافعا  إلى فضح لاعدالة الأبوية، بتكسير الأساطير التي ترتكز عليها وتؤسس لها  65.

ثم  إنها  تستفهم النظرية الفقهية على ضوء"سوسيولوجيا  الفقه "الدراسة التي تنصب على"بنية الفقه التنظيمية، أدواره، قيمه ووظائفه...(و) لمهنة الفقيه والنظام الفقهي وهي دراسة من خارج الحقل الفقهي يقوم بها غير الفقهاء"  66 من أجل تجاوز الفهم السطحي والمبسط للظواهر الدينية؛ وقصد إنتاج إسلام ملائم للعصر بعيدا عن التقليد  والاجترار؛ وثقافة الاتباع والتكرار.

بحيث تستلهم الأسلحة النظرية القادرة على تقديم الإيضاحات الممكنة "حول واقع تاريخي هو واقعنا الذي لم نشعر صراحة بطابعه اللامنطقي والعبودي والرجعي" 67، باعتماد الإبيستيمولوجيا، ومناهج العلوم المعاصرة، المحرضة على الشك وإبداع  السؤال المستفز والهادف إلى الاقتراب من القضايا بخطابات تساير الراهن وتتماشى؛ والإيقاع المتحرك والمتسارع للحياة، بعيدا عن الأساليب الفقهية في التحجيرعلى الإسلام بحصره في قراءة نصية وعظية  وإرشادية تُطَمْئِنُ الذات وتريحها من هم السؤال، وهاجس  البحث وفضيلة الاجتهاد 68.  

و أخيرا لا آخرا، إنها ممارسات جنسية تطالب بمراجعة فصول بعينها من القانون الجنائي تجنبا لجنسانية ممزقة  سمتها اتساع الهوة بين معايير دينية تقليدية تسترسل  في  الاعتقاد بأن الجنس قبلة الزواج فاحشة وإثم؛ وسلوكات  جنسية ما انفكت تتعلمن دون أن تعي علمنتها تلك، وهوما يترتب عليه طلاق بين المعايير والسلوكات التي تسم  مرحلة الانتقال الجنسي كمرحلة يفقد فيها الدين سطوته على الحياة الجنسية العمومية، لتنتظم كل السلوكات وفق المبادئ العقلانية للدولة المدنية التي تَتَعَلٰمَن فيها المعايير والسلوكات الجنسية معا؛ ليغدو المعتقد الديني شأنا خاصا يعني الفرد-المواطن وحده دون غيره، لا قانونا يؤسس لنظام الحياة في المجتمع 69 .

إحالات مرجعية :
1-الديالمي(عبد الصمد): 1985، المرأة والجنس في المغرب دراسة سوسيو تحليلية، دار النشرالمغربية الدارالبيضاء، المغرب .
2- القصد هنا الأساتذة محمد جسوس وبول باسكون ونجيب بودربالة وفاطمة المرنيسي على سبيل الذكر .
- Khatibi (Abdelkébir):1971, La mémoire tatouée, Autobiographie d’un décolonisé, Denoël, Paris France . p: 133. Voir: Khatibi( Abdelkébir):1983, Double critique, In Maghreb pluriel. S.M.E.R- Denoël, p:47et sq. Paris, France.
Voir aussi: Khatibi( Abdelkébir): 2008, Le Scribe et son ombre. Editions de la différence, Paris ,France, p: 33.
4 - بنعبد العالي(عبد السلام):1991، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مجاوزة الميتافيزيقا، الطبعة الأولى ، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ص: 12 وص: 53 .
5 – عبد الملك(أنور):1985، تغيير العالم، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 95 ، الكويت، ص ص: 243 – 244.
و أيضا:
عبد الملك(أنور): 1978، الفكر العربي في معركة النهضة، ترجمة وإعداد: بدرالدين عرودكي الطبعة الثانية، دار الآداب، بيروت، لبنان، ص: 151 .
6- نحيل هنا على سبيل الذكر إلى الدراسات المنشورة في هذا العدد من النشرة الاقتصادية والاجتماعية :
- Etudes sociologiques sur le Maroc , Nouvelle Edition 1978 , B.E.S.M, Rabat , Maroc .
7 – Op.Cit. pp: 46 - 49 et p: 52 .
Voir aussi: Khatibi(Abdelkébir):1974, La blessure du nom propre, Denoël. Lettres nouvelles .Paris
8- الخطيبي(عبد الكبير): 1993، المغرب العربي و قضايا الحداثة، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، ص ص: 132- 134 وص.ص: 137- 138 .
9 - بورديو(بيير) 1986، الرمز والسلطة، ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ص: 20.
10 - أشقرا(عثمان):"الدرس الكسوسي البليغ" ،الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، الجمعة 26 أبريل 2013، العدد: 10.382، ص: 3.
11 – Daoud(Zakya ): 2007, Les années de plomb,1958 -1988 , Chronique d’une résistance, Paris, Manucius, collection «Mémoire de la Méditérranée ».
Voir aussi, Laroui (Abdallah): 2005, Le Maroc et Hassan II, Un témoignage, les presses Inter Universitaires Québec, Canada, Centre Culturel Arabe, Casablanca, Maroc. p: 229.
12 – جسوس(محمد)،المثقف المناضل، أجرى الحوار عبد الكريم الأمراني، الحلقة: 20 جريدة "الأحداث المغربية "، 25 نونبر 2002 .
13- أشقرا( عثمان ): الدرس الكسوسي، مرجع مذكور، ص: 3.
14- Laroui(Abdallah ): 2005, op.cit. p :48, pp: 63 - 65, p:126 , pp: 128-130.
15 - الزاهي(فريد):2011، المدخل إلى علم الاجتماع المغربي، الطبعة الأولى، دفاتر"وجهة نظر"رقم 20،ص: 152.
16- المرجع نفسه، ص: 152 .
17- اشتغل الدكتورعبد الصمد الديالمي كذلك على نقد السوسيولوجيا الكولونيالية والسوسيولوجيا المغربية ،انظرفي هذا المضمار:
الديالمي(عبد الصمد): 1989، القضية السوسيولوجية، نموذج الوطن العربي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب،117 صفحة.
18- الزاهي(فريد): 2011، مرجع مذكور ، ص: 153
19 - الديالمي(عبد الصمد): 2015، الانتقال الجنسي في المغرب، نحو الحق في الجنس، في النسب وفي الإجهاض، الطبعة الأولى، دارالأمان، الرباط ، المغرب، ص ص:21-22.
20-Dialmy(Abdessamad):1999, « Féminisme colonial », Bouhout ,Revue de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Mohammédia, Numéro 1, pp :5-20 ,(Texte tiré de la thèse du Doctorat d’Etat soutenue en 1987 à l’Université de Picardie, France.)
21 – الديالمي(عبد الصمد):1985، المرأة والجنس ، مرجع مذكور، ص: 6.
22- نفسه، ص: 5.
23- نفسه، ص: 8.
24- الديالمي(عبد الصمد): 2015، الانتقال الجنسي ، مرجع مذكور، ص: 247 .
25- Freud (Sigmund ):1971 ,Malaise dans la civilisation, P.U.F, Paris, France, pp: 19 et sq
26- Lapassade(Georges)et Lourau (René) :1976 , La sociologie, Collection « Clefs» Seghers-Paris, pp: 61 -62.
27- Reich(Wilhelm): 1970, Mass Psychology of fascism, New York, p: 55.
28- الديالمي(عبد الصمد): 2015: الانتقال الجنسي مرجع مذكور، ص: 19 .
Cf aussi: Reich(Wilhelm):1970 , La fonction de l’orgasme, L’Arche, p: 14.
29- الديالمي(عبد الصمد): 1987، المعرفة والجنس ، من الحداثة إلى التراث، دار قرطبة للطباعة والنشر، عيون المقالات، الدارالبيضاء، المغرب، ص ص: 9- 10.
30- الديالمي: 1985، مرجع مذكور، ص.ص:159- 160.
و أيضا الديالمي:2015، الانتقال الجنسي، مرجع مذكور، ص: 19.
31– Dialmy(Abdessamad): 1988 , Sexualité et discours au Maroc, Afrique Orient, Casablanca, Maroc, p: 174.
32- حجازي( مصطفى): 1998، حصارالثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء ،المغرب، ص: 14.
33- سبيلا(محمد):2010، في تحولات المجتمع المغربي دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المغرب، ص ص: 104 – 105.
34- كيسنجر(هنري):2016، النظام العالمي، تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، ترجمة فاضل جتكر، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص: 12.
35- حجازي(مصطفى): 1998، مرجع مذكور، ص: 15.
36- نفسه، ص: 41.
37- زيغلر(جان): 2004، سادة العالم الجدد، العولمة- النهابون- المرتزقة-الفجر-ترجمة: محمد زكريا إسماعيل، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص: 37 وص ص: 100- 102 .
38- بورقية(رحمة): 2000، مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، ص: 101.
39- Laroui( Abdallah): 2005, op.cit. p:137 et pp : 196 -197 et sq.
40- خمليش(عبد العزيز):2001، الانتفاضات الحضرية بالمغرب المعاصر: دراسة ميدانية لحركتي مارس 1965 يونيو 1981 بالدار البيضاء، جزءان، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع تحت إشراف الدكتور محمد جسوس، بحث غير منشور، كلية الآداب بالرباط، الجزء الأول، ص ص: 260 - 261 .
41- الديالمي: 2015، الانتقال..م.مذكور، ص ص : 224 - 225 .
و أيضا: شايغان(داريوش): 1993: أوهام الهوية، ترجمة: محمد علي مقلد، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت، لبنان، ص.ص: 75- 76 .
42-الديالمي: 2015 ، الانتقال...مرجع مذكور، ص : 11.
43- الديالمي(عبد الصمد): 2009، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت ، لبنان ورابطة العقلانيين العرب، ص: 25 .
44- نفسه: ص ص: 37- 38 وص: 75 .
45- الديالمي(عبد الصمد): 1985، المرأة والجنس ...مرجع مذكور، ص: 140 .
46-الديالمي: 2009 ، سوسيولوجيا الجنسانية...م. مذكور، ص.ص: 174-175 .
47- نفسه. ص: 52 .
48- نفسه. ص.ص: 73- 74 .
49- نفسه. ص: 53.
50- الحضراوي(ثريا): 1987، ظاهرة البغاء في الدارالبيضاء، ملامح نسائية، سلسلة مقاربات، نشر الفنك، الدار البيضاء، المغرب، ص: 53.
51 الديالمي: 2009 ، سوسيولوجيا...مرجع مذكور ص: 30 وص ص: 73-74 .
52- نفسه. ص ص : 173- 174 .
53-الديالمي: 2015 ، الانتقال...ص: 43 .
54- نفسه. ص: 135 .
55- الديالمي(عبد الصمد): 2000، نحو ديموقراطية جنسية إسلامية، الطبعة الأولى ، مطبعة أنفو-برانت، المغرب، ص ص: 111- 112 .
56-الديالمي: 2009، سوسيولوجيا...ص:133
57-Habermas(Jürgen) : ,1985Le discours philosophique de la modernité, Gallimard, p:20 et p: 163 .
58-الديالمي: 2009 ، سوسيولوجيا...ص ص: 53- 54 .
59- نفسه. ص ص: 176-177 .
60- نفسه. ص ص: 35.
61-Dialmy(Abdessamad): 1995, Logement , Sexualité et Islam, Editions Eddif , Casablanca, Maroc, pp: 71-73 ,p: 166 et p:173.
Voir aussi: Dialmy(Abdessamad): 2016, La fabrique de l’islamisme marocain, Editions Toubkal, Casablanca, Maroc, pp: 92-94.
62- Dialmy: 2016, La fabrique..op.cit.pp : 236- 237 .
63- الديالمي: سوسيولوجيا...مرجع مذكور، ص: 177.
64- حوار مع عبد الصمد الديالمي أجرته الإعلامية فطومة النعيمي، جريدة "الأحداث المغربية " 11 ماي 2016 ، ص: 16، العدد: 5899.
65-الديالمي: 2000، نحو ديموقراطية...ص: 7 .
66- نفسه. ص: 92. وأيضا: الديالمي(عبد الصمد) : نحو إسلام علماني، انظر:
Febrayer.com
( شبكة الأنترنيت)
67- Dialmy(Abdessamad): 1988, Sexualité…op.cit.p: 16.
68-الديالمي: 2000، نحو ديموقراطية جنسية...مرجع مذكور. ص: 74.
- 69- Dialmy: 2016, La fabrique…op.cit,pp: 55-56.
الديالمي: 2015 ، الانتقال...مرجع مذكور، ص: 10 وص ص: 246- 247.

” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) “ (سنن أبي داود باب العصبية رقم الحديث: 5121).

” ولكي نقيس التسامح، يبدو واضحاً أننا لا نكون بحاجة إلى قياس سلوكنا واتجاهاتنا نحو جماعات نحبها، لأن جوهر التسامح يكمن في الاستعداد للعيش جنباً إلى جنب مع أفراد نعارضهم، وأفكار لا نتفق معها. يبدو واضحاً تعريف مقولة فولتير الشهيرة: أنا أمقت وجهات نظرك، لكن على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عنها ([1]).

 إن عدم التسامح السياسي يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات منها التصلب بالرأي والتسلطية والتفاؤل، ومنها أيضاً عدم الأمن النفسي والدوغمائية وعدم الثقة بالآخرين، أو الحقد على بعض، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية فيما يصلون إليه من قرارات.

يعتبر علم النفس السياسي* مجال أكاديمي متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجال متعدد الاختصاصات، لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والقانون ، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم الوليد قام على أسس موجودة في العلوم النفسية وهي دراسات الشخصية، وسيكولوجية وديناميات الجماعة والقيادة، والأسس النفسية لتكوين الاتجاهات، ومهارات حل الصراع ... وغيرها، مع تعديل جوهري وهو تطبيق كل ذلك على مجموعات كبيرة وقوى ضغط ومصالح متباينة.

يهدف علم النفس السياسي إلى فحص مسائل التعصب والعنصرية والتمييز العرقي والتسامح ومحاولة فهمها. عن طريق النظريات النفسية الكثيرة مثل: نظرية الإحباط والعدوان، والنرجسية ويستطيع علم النفس السياسي مساعدة صناع القرار في اتخاذ القرارات([2]) الصائبة في مجال العلاقات الدولية، وفي التنبؤ بردود الفعل المحتملة للدول الأخرى لتلك المبادرات والاتفاقيات السياسية.

بالمقابل ركز علم نفس العنصرية عبر التاريخ على سيكولوجية الفرد، كيف تدفع المعتقدات والسلوكيات الفردية العنصرية (المقاربة النفسية الاجتماعية). لكن قيدت رؤية العنصرية من هذا المنظور وحده حدود شديدة. واليوم، يستخدم بعض الباحثين في علم النفس المقاربة الثقافية الاجتماعية ويدافعون عنها، والتي تنظر إلى العنصرية على أنها أفكار وممارسات راسخة في الثقافة وتكون جزءاً لا يتجزأ منها. إذ يشكل الأفراد الثقافة وتشكل الثقافة الأفراد.

غرضنا في هذا الصدد، فحص مدى قدرة الذاكرة الفردية على أن تكون شهادة على الواقع، من خلال النظر في هذين الاستفهاميين: ماهي رهانات بناء معرفة سوسيولوجية استنادا على ذاكرات الأفراد؟ ثم ما هي حدود ذلك؟
الذاكرة: مفهمة واستشكال:
بدءا نتصفح القاموس العربي لتحديد لفظة ذاكرة فنجد: ذَكَر، ذِكرا، جاد ذِكْرُه، وحفظه، فهو ذِكْرٌ، وهي ذِكْرَة، ومنه الذاكرة التي تفيد قدرة النفس على الاحتفاظ بالتجارب السابقة؛ وقدرتها على استعادتها1. والذاكرة ترد أيضا في القاموس العربي رديفا للفظة <<الحافظة>> الحمالة لمعنى القوة الذهنية القادرة على الاحتفاظ بالتجارب؛ والمعلومات من أجل إعادة إحيائها عن الاقتضاء، واللزوم. أو لمعنى الوعاء الذي تحفظ فيه الأوراق.2
ويعرض القاموس الفرنسي لفظة Mémoire (=ذاكرة)، ذات الأصل اللاتيني memoria: بوصفها الوظيفة التي بواسطتها يتمكن الذهن من المحافظة، والعودة إلى معرفة تم اكتسابها في وقت سابق3.
أما القاموس الفلسفي فيعتبر mémoire: ذاكرة - ذكرى، فعلا لإعادة إنتاج الماضي، وملكة لتمثله كماض. بما في ذلك4 الآثار والتواريخ؛ أو تلك الوظيفة النفسانية الرامية إلى إعادة إنتاج حالة وعي سابقة5. وبهذا المعنى تضحى الذاكرة خاصية أساسية للوعي الإنساني؛ على رأي "هنري بيرغسون"، بما هو مراكمة للماضي وصيانة له، عبر الزمن، صورا images ، أو ذكرياتSouvenirs 6.
نرتب على هذه التحديدات المعجمية الإفادات التالية:
الذاكرة هي تلك الاستطاعة الهائلة على استرجاع الماضي بتمثله ذهنيا؛ ونفسانيا، ثم اجتماعيا، فثقافيا. ومعلوم أن هذه الخاصية مقصورة على الإنسان ومستثنى منها غيره لأن الكائن الإنساني عقل، والعقل قوة إدراكية فاعلة تحمله على ممارسة مجموعة من العمليات الذهنية المعقدة مثل الشك، والفهم، والتصور، مثلما الإثبات، والنفي، فضلا عن الإرادة، والتخيل، والتساؤل، وهي كلها لوينات للتفكير، ومواصفات أساسية لحيوية الوعي7.
العودة إلى الماضي هي يقينا عودة إلى المخزون الذاتي من أفكار، وذكريات، ومحفوظات، و تعلمات، وخبرات سالفة لاستحضارها بكامل الشفافية والوضوح (=الوعي الذاتي)؛ أو بطرق معوجة و مرتجة (=اللاوعي). وهذا يشير إلى واحدة من الحدود الأساسية الفاصلة بين الإنسان والحيوان.
عملية التذكر تجعل الفرد متصلا بمحيطه الاجتماعي، والثقافي، ومتواصلا وأغياره كما بماضيه؛ و مستدمجا هذا الأخير في شخصيته الشيء الذي يحصل القول بتاريخية الإنسان [=التشديد مني]. بهذا إذن تكون الذاكرة إحساسا بالذات في فرادتها؛ ووعيا عميقا بالكينونة في ديمومتها، وصيرورتها معا.

 "إنّ الجامعات قاطرات التاريخ الحضاريّ للإنسانيّة، ومن الطبيعيّ أيضاً أن تشكّل التغيّرات والمتغيّرات الحادثة في المجتمع النوابض التاريخيّة لتقدّم الجامعات وتطوّرها، وذلك من منطلق أنّ العلاقة القائمة بين الجامعات والمجتمع هي علاقة صميميّة وجوديّة، تقوم على الفعل والانفعال والتجاوب والاستجابة الدائريّة المستمرّة عبر الزمان والمكان ".

1 - مقدّمة:

تشكل الحريات الأكاديمية في الجامعات الحقل الخصيب لنماء المعرفة الإنسانية وازدهار المعرفة الإبداع العلمي. وقد أدرك علماء الاجتماع التربوي هذه الحقيقة، فأعلنوها قانونا اجتماعيا صاغته التجارب الإنسانية وصقلته حركة الإبداع العلمي في كلّ المجتمعات. فالحريات الأكاديمية هي الإطار العام والشرط الموضوعي لوجود الجامعة وتطورها، كما أنّها التّربة الحاضنة لأدائها العلمي بسماته الإبداعية والابتكاريّة. وتأسيسا على هذه الحقيقة يرتسم تاريخ الجامعات نضالا من أجل الحرية والديمقراطية والإبداع العلمي، ويحفل هذا التاريخ بنماء الفكر الديمقراطي وتطوره في أحضان المؤسسات الأكاديمية العليا، وذلك انطلاقا من الأهمية المطلقة والضرورة التاريخية التي يمثّلهما توفر الديمقراطية بالنّسبة إلى العلم والمعرفة العلمية.

ومن يتأمّل بعمق ودراية في تاريخ العلم وتاريخ الجامعات يجد بأنّ النضال من أجل المعرفة والحقيقة لم ينفصل لحظة عن النضال من أجل الديمقراطية. ويَظهر له جليّا أنّ الحقيقة الديمقراطية تتحدّد دائما مع حقيقة الإبداع العلمي والمعرفي. ومن يرصد وقائع التاريخ سيجد بأنّ تراجع الحضارة والمعرفة كان نتاجا طبيعيا لتراجع القيم الديمقراطية وغياب الحرية. وبالمقابل، فإنّ قوة الحضارة ومدى ازدهارها يرتهنان بمدى الازدهار الديمقراطي الذي تشهده هذه الحضارة أو تلك. ويقرئنا التاريخ أن الحضارات المزدهرة كانت قبل ذلك قد شهدت ازدهارا ديمقراطيا سجل حضوره في أصل النماء الحضاري لهذه الشعوب التي صنعت الحضارة وتكاملت معها.

وفي عمق التحولات الحضارية كانت مؤسسات التعليم العالي، وما زالت، تشكل قاطرات التاريخ نحو العلم والديمقراطية. والقانون الذي يسود هذه المؤسسات لا يخرج عن القانون العام الذي يسود الحضارة: فمدى أصالة هذه المؤسسات ومدى قدرتها على تحقيق النهوض الحضاري والعلمي رهينان، وعلى نحو جدلي، بمدى الأداء الديمقراطي لهذه المؤسسات الجامعية في مختلف صيغها وتجلياتها. وبالتالي فإنّ المؤسسات الجامعية التي تعاني من غياب الأجواء الديمقراطية ستعاني بالضرورة من الجمود والتصلب اللّذين يتجسّدان في حالة عدمية قوامها حالة اغتراب شاملة تتمثل في انهيار أكيد لمختلف طاقات الإبداع والقدرة على الابتكار. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أنّ مستوى الأداء العلمي والديمقراطي لمؤسسات التعليم العالي والجامعي في مجتمع ما يمثّل المؤشر الحضاري على الدرجة التي بلغها هذا المجتمع في سلّم التطور الحضاري والإنساني.

كان "إميل دوركهايم" Emile Durkheim عالم اجتماع فرنسيا برز في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ويُنسب إليه الفضل باعتباره أحد المؤسسين الرئيسيين لعلم الاجتماع الحديث، إلى جانب كارل ماركس وماكس فيبر. ومن أهم ادعاءاته أن المجتمع هو واقع فريد من نوعه، وغير قابل للاختزال إلى الأجزاء المكونة له. يتم إنشاؤه عندما تتفاعل الضمائر الفردية وتندمج معاً لتخلق واقعاً تركيبياً جديداً تماماً وأكبر من مجموع أجزائه. ولا يمكن فهم هذا الواقع إلا من خلال المصطلحات الاجتماعية، ولا يمكن اختزاله في تفسيرات بيولوجية أو نفسية.

وحقيقة أن الحياة الاجتماعية تتمتع بهذه الخاصية من شأنها أن تشكل الأساس لادعاء آخر لدوركهايم، بأن المجتمعات البشرية يمكن دراستها علمياً. ولهذا الغرض، طور منهجية جديدة تركز على ما يسميه دوركهايم "الحقائق الاجتماعية"، أو عناصر الحياة الجماعية التي توجد بشكل مستقل عن الفرد وتكون قادرة على ممارسة التأثير عليه. وبهذه الطريقة نشر أعمالاً مؤثرة في عدد من المواضيع. اشتهر بأنه مؤلف كتاب "حول تقسيم العمل الاجتماعي، وقواعد المنهج الاجتماعي، والانتحار. ومع ذلك، نشر دوركهايم أيضاً عدداً كبيراً من المقالات والمراجعات، كما نُشرت العديد من محاضراته بعد وفاته.

(مكاشفة نقدية، واسْتِغْراب،،،)
” تعتبر الممارسات اللا إنسانية والقمعية على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد الجماعات العرقية والدينية في معسكرات الموت (أوشفيتز)، إحدى العاملات الفارقة في تشكيل معالم الفكر النقدي لرواد النظرية النقدية.... لكن بالمقابل ألا يدعو هذا الحدث - الذي يُعاد تكراره من حيث المبدأ - مفكري النظرية النقدية المعاصرين (هابرماس، هونيث...) إلى إدانة ممارسات الكيان الصهيوني الغاصب في الإبادة الجماعية والقتل الوحشي والاعتقال التعسفي وانتهاك حقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض..... سؤال برسم الإجابة وإعادة الطرح والتمحيص؛ لأن الإنسانية لا تتجزأ حسب مقولات النظرية النقدية لرواد مدرسة فرانكفورت “. (الكاتب)

كانت النظرية النقدية الاسم الذي اختاره مؤسسو مدرسة فرانكفورت في الفترة بين الحربين العالميتين لترمز إلى محاولتهم إنجاز وحدة النظرية والممارسة، وفيها وحدة النظرية مع البحث التجريبي، وكلاهما مع وعي متأصل تاريخياً بمشكلات العصر الاجتماعية والسياسية والثقافية. انطوت المحاولة على وعدٍ مغرٍ، وتبقى مهمة، لكنها واجهت أيضاً مشكلات اتضح أنه لا يمكن تذليلها، على الأقل من قبل أولئك الذين أثاروها بادئ الأمر (كريغ كالهون: النظرية الاجتماعية النقدية، ص60).

عند النظرية النقدية أن التأمل عنصر حيوي من عناصر العقل، فهو مرتبط بكلمة المرآة التي تعكس شيئاً آخر. ونحن حين نفهم شيئاً ما نعكس صورته. وهو انعكاس ليس له أي كينونة خاصة به بل هو ما يظهر لنا في تلك اللحظة. والشخص المتأمل هو من لا يقبل على نحو عقائدي جامد هذا المظهر أو ذاك على أنه كلّ ما هنالك، بل يدرك أن المظاهر تعكس صورة علاقة تاريخية محددة بين الذات والموضوع. ولقد تعلمت أن المنظرين النقدين حين يكتبون بأسلوبهم الديالكتيكي المتردد جيئة وذهاباً، والمتحول خلفاً وقدّاماً بين الذات والموضوع، إنما يكتفون بترداد ما رأوا أنه العصر التأملي المميز بين عناصر العقل ذاته “ (آلن هاو: النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت، ص20).

لا تستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشك أحد في ضرورة النقد المتجدد للواقع السائد في نظم المعرفة والقيم والاجتماع، وأنماط الفكر والفعل والسلوك، إذ إن إحياء الحس النقدي معناه إحياء الحس بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر. وعلى الرغم من تعدد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوره البسيط المباشر يتضمن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معينة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد، بُغية العمل على " رفعها " وتجاوزها. .... وطبيعي أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد، لأن النقد الصحيح هو الذي يضع " الضد " في مواجهة " القائم "، ويؤلف بينهما في " جديد " أعلى وأشمل وأكثر وعياً وخصوبة “ (عبد العفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ص9).

مقدمة:
محمد بوغالي أستاذ باحث مغربي في مجال العلوم الإنسانية. صدر له بالفرنسية سنة 1974 كتاب بعنوان "تمثل المجال عند المغربي الأمي". كان هذا العمل نتاج بحث تم إجراؤه في مراكش والجنوب الكبير بين 1969 و1971. ونظرا لكونه ظل بعيدا عن أفق معرفة قراء لغة الضاد، ارتأيت ترجمة مقدمته إليها خدمة لهم، والله هو المستعان.
"غالبا ما تم استعمال الإثنولوجيا المغربية وعلم النفس الاجتماعي من قبل كتاب مغرضين لتبرير أطروحات مشكوك فيها، ولا يمكن الدفاع عنها بشكل صريح، بحيث أن الاهتمام بها يصبح من قبيل المغامرة بالنسبة إلى المغربي. فعلا، لكونهما أوليا اهتماما خاصا بخلاصة الاستعمار فقد اكتسبا، في نظر الكثيرين، وضعا غامضا جدا، يخفي أحكاما مسبقة من كل نوع، ووضعا في نفس الوقت نصب عينهما أهدافا مشكوكا فيها. لهذا السبب يجد الوريث المباشر للمجتمع والتقليد المغربيين نفسه في وضع مريح قليلا، او في جميع الأحوال كمن نسميه "مفشي الأسرار".
من جهتي، أتقبل بصدر رحب اي تسمية من هذا النوع لأني ظللت مقتنعا بأن الإثنوغرافيا وعلم النفس الاجتماعي، رغم ما عرفاه من تجاوزات، ما زال يمكن لهما أن يكونا بمثابة طريق ملكية نحو استعادة بقايانا الدينامية من أجل تقويمها على نخو أفضل. نحن مقتنعون بأنه لاجل حقن مبحث نقدي وقابل للتآكل بالضرورة، مثل الإثنوغرافيا، بنسغ جديد فلا مناص من الاطلاع على تاريخه، أخطائه، وحتى تجاوزاته من أجل تقويمها. إن الاهتمام بذلك، بالنسبة إلى المغربي، يعني بالضرورة قلب الرؤى التقليدية والمعترف بها ضمنيا. هذا هو أفضل موقف سوسيولوجي بالنسبة إليه. وإذا كانت الإثنوغرافيا، في نظر كلايد كلوكهون، "هي في الغالب السبيل الأكثر قصرا للولوج إلى الذات"، فيجب عليها أن تكون بالنسبة إلينا الوسيلة الأكثر مباشرة التي نسترجع ونطالب بواسطتها بالصورة الاصلية لشعبنا لتطهيرها من النظريات والتصورات الأجنبية المغرضة. فإذا كانت قد استعملت، في كل مكان تقريبا بشمال إفريقيا، كحصان حرب وذرع تتعاطى خلفه لاستمتاعات مرضية من أجل تذوق راحة فكرية مضللة، تبقى مشاريع جرمين تيون، جاك بيرك وبيير بورديوه، لذكر الأقرب إلينا فقط، تشجيعا وضمانة حقيقية بالنسبة إلينا.
هنا، نسمح لنفسنا بوقفة منهجية سريعة نحبذها كتحذير من أعمال كثيرة تم إنجازها حول شعوب قيل إنها " بدون كتابة"، لاستعادة صيغة كانت في أصل عدد لا يستهان به من التجاوزات والخسائر في الإثنولوجيا. يجعل الكتاب ملخصات الأحداث الواقعية أكثر ثرثرة ولا يترددون ابدا في سحبها إلى المعنى الذي يريدون منها حقا أن تأخذه. لا تكفيهم بساطة المعطيات المعاشة فقط عندما يثقلونها بوفرة، سواء من أحكامهم المسبقة الخاصة، او بدلالات غريبة واجنبية في الغالب. أحيانا، وهم يتحيزون لا شعوريا إلى محاولة نظرية تبسيطية، يختزلون، ربما عن حسن نية، خصوصية الوقائع الاجتماعية المعاشة في خطاطات موضوعة عن سبق إصرار أو مرسومة سلفا.