1

     الفِعْلُ الاجتماعي لَيْسَ زمنًا مُتَحَجِّرًا في الظواهرِ الثقافيةِ والقوالبِ التاريخيةِ ، وإنَّما هو تجديدٌ فِكري حقيقي ومُؤثِّر في مفاهيمِ المُجتمعِ وحقولِ المعرفةِ، وكُلُّ تجديدٍ فِكري يُمثِّل آلِيَّةً لإعادةِ إنتاج التفاعلات الرمزية في لُغةِ الفردِ الإبداعية ، وهُويته المركزية ، وسُلطته الاعتبارية . وإذا تَكَرَّسَ الفِعْلُ الاجتماعي كأداةٍ تفسيريةٍ للأحداثِ اليوميةِ والسُّلوكياتِ الأخلاقيةِ ، فَإنَّ وَعْيَ الفردِ بِذَاتِه وعناصرِ البيئةِ المُحيطة به ، سَيَصير قُوَّةً دافعةً لأشكالِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ ، ومُوَلِّدَةً لرموز البُنى اللغويةِ ، ومُنَظِّمَةً للمعاييرِ الأخلاقيةِ . وهذا يدلُّ على أنَّ الوَعْيَ هو أساسُ الفِعْلِ الاجتماعي ، وكِلاهُمَا مُندمِج معَ عمليةِ تحريرِ الظواهرِ الثقافية مِن عِبْءِ المَصَالحِ الشخصيَّةِ ، وعمليةِ تخليصِ القوالبِ التاريخيةِ مِن ضَغْطِ التأويلاتِ المُغْرِضَةِ . وإذا كانَ المُجتمعُ هو ذاكرةَ الأحلامِ الفرديةِ التي تُعيد تشكيلَ سُلطةِ البناءِ الاجتماعي ، وترسيخَ إنْسَانِيَّةَ الواقعِ التي لا يُمكِن أَدْلَجَتُهَا مَصلحيًّا ، ولا تفكيكُها تاريخيًّا ، فإنَّ فلسفةَ المُجتمعِ هي تجسيدُ ذاكرةِ الأحلامِ الفرديةِ في بُنيةِ السِّيَاقِ الحضاري لِثَورةِ اللغةِ وحركةِ التاريخِ ، وهذا التشابكُ المعرفي بين المُجتمعِ وفلسفته يَجعل جَوْهَرَ الفِعْلِ الاجتماعي إطارًا مرجعيًّا لِمَنطقِ اللغة الرمزي ، ومَنهجِ العقل الجَمْعِي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَجذيرِ الفِكْر النَّقْدِي ، وتَكَيُّفِ فَلسفةِ الحَداثةِ معَ فَلسفةِ التُّراثِ ، بدون عوامل خارجية ضاغطة ، ولا عمليات تَلفيق اصطناعية على الصَّعِيدَيْن الزَّمَني والأيديولوجي .

النقد أعلى درجات المعرفة، والنقد الاجتماعي هو النقد الذي يساهم في دعم نوع من الوعي الذاتي وفهم الظروف الاجتماعية والسياسية القائمة حتى تصبح البشرية قادرة على تحديد طريق حياتها، ودعم عملية تحرير الإنسان، لأن علم الاجتماع وُلد لكي يكون علماً نقدياً رافضاً لكل ما هو ضد إنسانية الإنسان، أما حركة التجديد والنقد في علم الاجتماع المعاصر، فهي لا تهتم بتقديم بدائل نظرية فقط، ولكنها تهتم أيضاً بتقويم مسار العلم وتصحيحه ليحقق أهدافاً جديدة أكثر تحرراً وإنسانية، ويمكن تسميتها بالنقد السوسيولوجي([1]).

يؤكد لنا تاريخ الفكر الاجتماعي أن الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع، ظهرت كرد فعل طبيعي ومنطقي تجاه الأزمات والمشكلات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، التي كانت ومازالت تعتري الواقع الاجتماعي بكل تجلياته.

إن الدراسة التحليلية لحركات النقد الاجتماعي التي ظهرت ضمن إطار الاتجاهات النقدية عموماً، تكشف لنا عن وجود مستويين أساسيين لهذا النقد، ففي المستوى الأول  نجد أن النقد الاجتماعي يعبر عن احتجاج اجتماعي شامل يستهدف التأكيد على ضرورة التغيير الأساسي والجوهري للأنماط الحضارية القائمة، إذ يبدأ هذا النقد بالتحليل السلبي لعيوب السياق الاجتماعي القائم ونقائضه، من خلال العمل على تجسيد حركة احتجاج تنظر إلى الواقع كشيء يمكن إعادة تشكيله وتغييره، أي امتلاكها  لتصور مثالي لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بحيث يصبح هذا التصور بدوره الإطار المرجعي الأولي لتنفيذ ما هو قائم، فيؤكد هذا المستوى على ضرورة امتلاك الحركة النقدية لقوى اجتماعية تصبح هي الفاعل الثوري (الراديكالي)* الذي ينتقل بالمجتمع مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، من خلال التأكيد على اكتمال حركة التحول الاجتماعي والحضاري([2]).

أما المستوى الثاني للنقد الاجتماعي فيمكن اعتباره أقل راديكالية وشمولاً لأنه يتبنى النقد الثقافي والتنويري فقط، أي أنه يهدف إلى عملية التغيير الثقافي والتنويري لتشكيل توجهات ثقافية وقيمية جديدة تحكم التفاعل الكائن في الواقع الاجتماعي والحضاري، ويظهر هذا المستوى من النقد الاجتماعي حينما تنحدر الحركات السياسية الراديكالية وتقتصر بأهدافها على النقد الذاتي والثقافي للمجتمع، أو عندما لا يكون الفاعل الثوري للمجتمع مهيأً لتنفيذ مهام النقد ومتطلباته. هذا النقد قد يصبح هو المستوى المسموح به حينما يثبت الواقع ويؤكد صلابته أمام الانتقادات الموجه إليه، حيث يسعى هذا الواقع إلى استيعاب مضمون النقد بما يدعم بنائه وصلابته ويفقد النقد مبرره ومشروعيته. ويبرز هذا المستوى النقدي في المراحل التاريخية التي يكون فيها الواقع الاجتماعي قوياً، قادراً على استيعاب تناقضاته مؤكداً على وحدته وتكامله، أو حينما يقتصر النقد الاجتماعي على فضح وتفنيد ما هو قائم، وامتلاك القدرة على الانطلاق إلى ما ينبغي أن يكون عن طريق امتلاك نموذج مثالي ومستقبلي يتحرك نحوه المجتمع، أو حينما لا يمتلك التيار النقدي قوى التحول الاجتماعي أو الفاعل الثوري ([3])

" صمت قبل الولادة وصمت بعد الموت، والحياة مجرد صخب بين صمتين لا قرار لهما".. الروائية التشيلية إيزابيل الليندي.
"نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا أبديا مع النزعة الهمجية البربرية"
[1].  سيغموند فرويد .

1-       مقدمة تمهيدية :

في أصل العدوانية يكمن فيض أسرار لا يتناهى تنوعه ولا ينقطع تدفقه. وفي البحث عن خفايا هذه القضية وأسرارها يشدّ علماء النفس الرحال ويعقد علماء الاجتماع العزم. فالعدوانية حقيقة بيولوجية - نفسية -اجتماعية (بيوسيكوسوسيولوجية) تضرب جذورها في أعماق الكائنات الإنسانية وفي صلب فطرتها على امتداد تنوعها واختلاف صورها وتجلياتها، وهي حقيقية مبهمة تشتد غموضا كلما اشتد الطلب في الكشف عن ماهيتها واستجلاء خفاياها.

شكلت هذه القضية -منذ بداية التاريخ الإنساني-  هاجسا يقض مضاجع المفكرين والفلاسفة، وما زال العقل الإنساني حتى اليوم يكدّ ويجد في البحث عن ماهية العدوانية، وفي الكشف عن أسرارها وخفاياها وضروب تجلياتها في أعماق الإنسان. ويضج تاريخ الفكر اليوم بعظيم المحاولات الفكرية التي تسعى دون انقطاع إلى استجلاء هذه الحقيقية التي ما زالت في دوائر المتاهات الغامضة. ويأتي هذا السعي الإنساني المستمر تكثيفا لإرادة إنسانية تريد أن تهتك حجب الحقيقية دون أن تقف عند حدود التفسيرات الأحادية الجانب التي تنأى عن القصد وتَقْصُر عن اللحاق بالغاية المعرفية لخفايا هذه الظاهرة بأبعادها الكونية وأسرارها الخفية. وفي نسق هذا القصد فإن الكشف عن ماهية هذه الظاهرة وجوهرها أمر يتجاوز حدود القناطر والتخوم العلمية المعروفة. فالعنف ليس حقيقة سوسيولوجية أو نفسية أو بيولوجية فحسب بل هو حقيقة تتكون من هذه الأبعاد وتتجاوزها في الآن الواحد.

فالعدوانية تأخذ بأبعادها المختلفة صورة مشّفرة لتكوينات نفسية واجتماعية بالغة التنوع، وبالتالي فإن هذه الصورة بما تنطوي عليه من رموز خفية تتحدى الجهود العلمية وتشكل حتى اليوم رهانا علميا يشد العقل الإنساني ويشتدّ في طلبه. ويضاف إلى هذا كله طابع التغير الدائم في طبيعة الأشياء الذي يجعل من اللحاق بالحقيقة الغامضة لهذه الظاهرة أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد. وإذا كانت الحقيقة المطلقة أمر يتنافى مع الروح العلمية يبقى على العارفين أن يقلصوا المسافة بين الأوهام والحقيقة إلى ابعد حدّ ممكن،  وأن يعملوا على تحطيم أسرار الأشياء وخفايا الظواهر بصورة مستمرة وبطرق مختلفة وبأساليب منهجية متنوعة. وانطلاقا من هذه الروح العلمية يأتي البحث الدائم عن حقيقة العنف وماهية العدوان وذلك لما لهذه الظاهرة من أهمية كونية في عالم الإنسان القديم والمعاصر.

1
البناءُ الاجتماعي لَيْسَ كِيَانًا وهميًّا يُفْرِز علاقاتٍ اجتماعيةً ميكانيكية ، ويُنتج أنساقًا ثقافيةً جامدةً تَقُوم على الوَعْي الزائف، إنَّ البناءَ الاجتماعي هو الحاضنةُ الشرعية لِوُجُودِ المُجتمع معنويًّا وماديًّا، والمرجعيةُ الفكريةُ القادرةُ على إعادةِ أحلام الفرد إلى الحياة ، وتشكيلِ الهُوِيَّة الفَردية والجَمَاعية التي لا تَكْتفي بذاتها ، بَلْ تَسْعَى إلى التواصلِ معَ مَصادر المعرفة التي تُحَدِّد أبعادَ سُلطة المُجتمع ، والتفاعلِ معَ التجارب الحياتية التي تُحَدِّد معالمَ شخصيةِ الفرد . وإذا كانت مَصادرُ المعرفةِ تَتَأسَّس على عَقْلانِيَّةِ الواقعِ اليَومي ، فإنَّ التجارب الحياتية تَتَأسَّس على رمزيةِ الدَّلالات اللغوية . وهذا التَّشَابُكُ المعرفي مع الواقعِ واللغةِ يَحْمِي العقلَ الجَمْعِيَّ مِن العَيْشِ خارج التاريخ ، ويَحْمِي التاريخَ مِن العَيْشِ خارجَ فلسفة الوَعْي . والوَعْيُ إذا اتَّصَفَ بالحَيَاةِ ، والحَيَوِيَّةِ ، والحُرِّيةِ في ذاته ، والتَّحَرُّرِ مِن عناصرِ المنظومة الاستهلاكية المُحيطة به ، سَيَتَحَوَّل إلى رافعة لفلسفة اللغة ، لأنَّ اللغةَ تَستمد وُجودَها مِن الوَعْيِ لا الغَيبوبةِ المَعرفية ، وتَكتسب شرعيتها مِن الخَلاصِ التاريخي لا الهُرُوبِ مِن الزمن .
2
مَركزيةُ اللغةِ في البناء الاجتماعي ذات طبيعة عابرة للزَّمَنِ ، وغَير خاضعة للتَّجنيس المَكَاني ، لأنَّ اللغةَ تَدَفُّقٌ مَعرفي مُستمر أُفقيًّا وعَمُوديًّا ، وانفجارٌ رَمزي مُتواصل على صعيدِ الألفاظِ والمَعَاني . وشَبَابُ اللغةِ الدائمُ هو الضَّمانةُ الأكيدة لحماية العلاقات الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ ( تَحَوُّل العلاقات الشخصية بين الأفراد إلى علاقات آلِيَّة بين الأشياء ) . وإذا صارَ الفردُ شيئًا هامشيًّا في المُجتمع ، وعُنْصُرًا مُغترِبًا عن ذاته ومُحيطه ، فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيَخرج مِن فلسفة التاريخ، ويَتَشَظَّى بَين الأفكارِ الذهنية والإدراكِ الحِسِّي.وهذا التَّشَظِّي شديد الخُطورة ، لأنَّه يُدخِل المُجتمعَ في مَتَاهَةِ رُدُودِ الأفعالِ والمواقفِ الارتجالية ، بلا تخطيط ولا تنظيم . وكُلُّ خَلَلٍ في البناء الاجتماعي هو بالضَّرورة خَلَلٌ في مَنطق اللغة الرَّمزي ، وإذا غابَ اليقينُ عن العلاقات الاجتماعية،فإنَّ شرعية المُجتمع سَتُصبح وَهْمًا مُكَرَّسًا بِفِعْلِ الأمرِ الواقعِ، ومُعتمِدًا على عوامل مَصلحية مُؤقَّتة ، بلا مبادئ عقلانية ذاتية، ولا جُذور تاريخية ضاربة في الأعماق. وكُلُّ شَجرة تعتمد في الثَّبات على غَير جُذورها، سَتَسْقُط معَ هُبُوبِ الرِّياح .

1
القاعدةُ الثقافية الحاملة للعلاقات الاجتماعية تُكَوِّن أنساقًا لُغويةً رمزيةً تُفَسِّر طبيعةَ الإنسان ، اعتمادًا على الرابطة بين الدوافعِ النَّفْسِيَّةِ ومَعاييرِ الإدراكِ . وتفسيرُ طبيعةِ الإنسانِ هو تفسيرٌ للواقع الاجتماعي ، وكُلَّمَا تَكَرَّسَتْ عمليةُ التفسيرِ إنسانيًّا وواقعيًّا واجتماعيًّا ، اتَّضَحَتْ معالمُ الوَعْي المُسيطِر على التَّنَوُّعِ الثقافي ، والسُّلُوكِ اليَومي ، والتواصلِ الحضاري . وهذا يدلُّ على أنَّ الهدفَ مِن عملية التفسير هو الوُصُولُ إلى الوَعْي ، وَحِمَايَتُه مِن الغيابِ والتغييبِ،لأنَّ حُضُورَ الوَعْي هو الضَّمَانَةُ لدمجِ القاعدة الثقافية مع قاعدة البناء الاجتماعي، واستخراجِ تاريخ التجارب الحياتية مِن أعماق الإنسان . وهذا مِن شأنه إحداثُ توازن بين حُضُورِ الوَعْي وحُضُورِ التاريخ ، ومنعُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن عَزْلِ الثقافة ، ومنعُ الثقافةِ مِن تَحويل اللغةِ إلى هيكل اجتماعي مُحَنَّط في مُتْحَفِ التاريخ . والغايةُ مِن العلاقاتِ الاجتماعية هي تعميمُ الظواهر الثقافية ، وتحديدُ المعاني الوجودية ، وتفعيلُ التبادل المعرفي ، وتعزيزُ وسائل الاتصال والتواصل ، والغايةُ مِن الثقافة هي تفجيرُ الطاقة الرمزية في اللغة ، وتأويلُ الواقع الاجتماعي معرفيًّا لا مصلحيًّا ، وتحويلُ السُّلوكِ اليومي إلى مُحاولة مُستمرة للتَّطَهُّر مِن العُقَدِ النَّفْسِيَّة في طبيعة الإنسانِ ، والعُقَدِ التاريخيةِ في البناء الاجتماعي .

- تمهيد:
لقد عارض أنصار الدارونية الاجتماعية وعلى رأسهم سبنسر فكرة كونت التي تذهب إلى أن تطبيق المعرفة العلمية يمكن أن يؤدي إلى الإسراع بالتقدم الاجتماعي. فقد شاركوه في ادعائه بأن التغير الاجتماعي عبارة عن عملية تطورية. ولكنهم أضافوا إلى ذلك، أن التغير محتوم بقوى لا تثنى ولا يمكن أن تتعدل بالفعل الإنساني وكل المحالات التي تبذل للتأثير في مجرى (النمو التطوري) لن تؤدي إلا إلى قلقلة التوازن الاجتماعي الموروث الأمر الذي يحدث أسوأ الآثار، وكان هدف العلم الاجتماعي عندهم، اكتشاف المراحل الحتمية في التطور الاجتماعي، متمثلين تشارلز داروين في تتبعه لتطور الأنواع الحيوانية([1]).

يمكن اعتبار دراسة هربرت سبنسر* بعنوان " مبادئ علم الاجتماع The Principles of Sociology "([2]) التي تقع في ثلاثة مجلدات والتي نشرت سنة 1877 هي أول دراسة منهجية خُصصت لتناول قضايا التحليل في علم الاجتماع. وكان هذا الباحث أكثر تحديداً من كونت من حيث بيان الموضوعات أو الميادين التي يجب أن تحتل أهمية في التحليل السوسيولوجي في نظره.

فقد أوضح في المجلد الأول من كتاب " المبادئ " مجالات الدراسة في علم الاجتماع حيث ذكر أنه على علم الاجتماع أن يوضح لنا كيفية نشوء الوحدات والأجيال المتعاقبة، وكيفية تنظيمها بحيث تحقق التعاون المتبادل. ويمكن تلخيص المبادئ التي تقوم عليها هذه المدرسة، فيما يلي([3]):

  • " يعد مفهوم التطور Evolution المفهوم الرئيسي لفهم العالم بكامله، والمبدأ الأساسي الموحد لكل العلوم، وهو القانون السامي لكل الموجودات، إنه سنة الوجود وقانونه الحاكم، فالطبيعة تتضمن أنماطاً متباينة من الحياة تخضع جميعها لعمليات من التحول والتطور المستمر "([4]).
  • اعتبار علم الحياة هو الأساس الذي يقوم عليه علم الاجتماع.
  • إن المبادئ الحيوية يجب أن يكون لها اعتبارها عند تفسير الظاهرة الاجتماعية.
  • إن المجتمع الإنساني وحدة حية تختلف عن كونها مجرد مجموعة من الأفراد المنعزلين.
  • لما كان أفراد المجتمع يخضعون للقوانين البيولوجية فإن المجتمع الإنساني بذلك لا يخرج عن كونه كائناً عضوياً.
  • لما كان المجتمع الإنساني كأي كائن عضوي يتكون من خلايا حية، (الأفراد) أصبح المجتمع بذلك كالكائن العضوي في تركيبه وأعضائه ووظائفه.
  • التطور الاجتماعي للإنسان استمراراً للتطور الذي يسميه (ما فوق العضوي) للحيوان، وهذا الأخير ليس إلا استمراراً لعملية التطور العضوي.

" السلام الكلي لا يسود إلا في داخل المقابر ([1]).  بول ليفي Paul Levey

1- مقدمة:

يتأصل الصراع بأشكاله المختلفة حضورا وتجذرا في مختلف مظاهر الوجود المادي والاجتماعي، ويتجلى في مختلف مظاهره على مبدأ تفاوت القوة وتكاملها ناموساً في الكون وقانوناً في الوجود. فالكون يقوم على معادلات التناقض والاستقطاب والتكامل وتوازنات القوى، بدءا من أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في الصغر حتى أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في العظمة والكبر. فالصراع يبدأ في قلب الذرة ولا يتوقف حتى في مختلف مدارات المجرة. ففي قلب الذرة تتفاعل الإلكترونات وتتفاضل في تضافرات القوة والحركة على صورة التفاعل الذري بين أصغر مكونات الذرة بين النترونات والفوتونات، وفي قلب العالم المظلم المضيء -عالم الأفلاك والنجوم - يجري التقاطب بين الذرات والمجرات والشموس والأقمار في دائرة من التجاذب والتنابذ الكوني الذي يشكل قانون الكون الأساسي في المادة والحركة والطاقة. وقد اقرّ علماء الفيزياء في معظمهم بأن الحركة تلازم المادة والطاقة التي تشكل القوة المحركة للوجود، ويتجلى الكون وفقا لعلم الفلك والنجوم والفيزياء الكونية على صورة عالم متحرك في معترك تفاعلات كونية لا متناهية تقاطباً وتجاذباً.

فكل شيء كما يقول نيوتن " يجري كما لو أن الأجسام تتجاذب بنسبة أحجامها وبنسبة معكوسة لمربع بعدها بعضها عن بعض " وهذا القانون النيوتني يتيح لنا أن نفهم الحركات الظاهرة في السماء، وتلك التي تدور على الأرض، لأن قوانين السماء تحاكي قوانين الأرض توغلا في ثنايا الوجود. فالتجاذب والتقاطب والدوران وتشاكلات المادة المتحركة تشكل محكم الأسرار الحقيقية للوجود الكوني والاجتماعي في آن واحد. فالكون يتحرك بالقوة، وكل وجود يَمتثل لمبدأ القوة المحركة له في دورانه وتقاطباته وتجاذباته. وهل يمكننا أن نتصور ما الذي يحدث لو افترضنا بأن الأرض توقفت لبرهة عن الدوران؟ والأكثر هولا أن نتصور وهما بأن الشمس قد توقفت عن الحركة في لحظة ما؟ وعلينا عندها أن نسأل حينذاك عن مصير الوجود في المجموعة الشمسية وما يجاورها من أفلاك وأكوان.

ترتسم نظرية الصراع الكونية في أرقى مظاهرها الفلكية في نظرية الانفجار العظيم (The Big Bang Theory )[2]، الذي يقدر حدوثه قبل 13,7 مليار سنة، وهي النظرية الأكثر أهمية وخطورة في علم الفيزياء الفلكية، فالانفجار تعبير صراعي يدل حلى حدوث تناقض كوني رهيب في العناصر التي تشكل منها الكون. والانفجار لا يكون إلا بقوة ضاغطة وصراع ما بين الأضداد وهو يمثل حالة انفلاق ذري كوني بدأ في لحظة صفرية حيث لم يكن هناك زمان أو مكان، وفي خضم هذا الانفجار العظيم تشكلت الذرات والنجوم وانبثقت الظواهر الكونية وولدت الأشياء. وتنبئنا النظريات الكونية بأن هذا العالم اللامتناهي ما زال يولد دائما ويتجدد وينمو ثم يلتهم نفسه ويدمر تكويناته ويعيد خلق نفسه من جديد[3].

” إن البناءات الاجتماعية لديها القدرة على أن تنتج في داخل ذاتها عناصر الإحلال بالقوة والتغيير “. رالف داهرندورف.
- المقدمة:
عمل ماركس على بناء نظريته في المادية التاريخية على أساس جدلي (مادي)، معتمداً على البيانات التاريخية والموضوعية حتى عصره. لكن النظام الرأسمالي شهد تغيرات موضوعية وفكرية بعد وفاة ماركس، هذا إلى جانب ظهور قراءات خاطئة للماركسية نفسها، كما تجلت هذه لدى من أخذوا بالحتمية الاقتصادية.

لذا حاول رالف داهرندورف إلى بناء نظريته المعاصرة حول مفهوم الصراع الاجتماعي بالاعتماد على إعادة قراءة ونقد الأفكار الاجتماعية والاقتصادية التي قدمتها النظرية الماركسية الكلاسيكية، بالإضافة إلى استيعاب التغيرات التي شهدها مجتمع ما بعد الرأسمالي وبالأخص في النص الثاني من القرن العشرين.

ترى الماركسية أن منشأ الصراع الاجتماعي هو صراع طبقي في المؤسسات الصناعية وذلك بالاعتماد على مقولة ماركس في بيانه الشيوعي (المانيفيستو) عام 1848 (ليس تاريخ المجتمعات سوى صراع طبقي). إلا أن داهرندورف يعتقد بأن الصراع الدائر في وقتنا الحالي ليس صراعاً طبقياً بين طبقة البروليتاريا وطبقة مالكي وسائل الإنتاج كما اعتقد ماركس، حيث أخذ مفهوم الصراع الاجتماعي منحى آخر بناءً على أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته والتغيرات التي لحقت بالمجتمع ما بعد الرأسمالي. من هذا المنطلق يهدف المقال إلى تسليط الضوء على نظرية الصراع الاجتماعي عند رالف داهرندورف من خلال تناول بالدراسة والبحث العناصر التالية:

أولاً - من هو رالف داهرندورف (1929- 2009)؟  هو عالِم اجتماع ألماني - بريطاني، فيلسوف، سياسي، وليبرالي، كان خبيراً بارزاً في شرح وتحليل الانقسامات الطبقية في المجتمع المعاصر. درس الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، وهو من أبرز منظّري الصراع الاجتماعي المعاصر الذين اهتموا بدراسة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع، كما اهتموا بدراسة ومراجعة ونقد النظرية الماركسية في تفسير الصراع الطبقي، وكان نتاجه الفكري ينصب على أربعة موضوعات أساسية: (الطبقة ونظرية الصراع، نظرية الدور، المجتمع والديمقراطية، التحديث كعملية). أما عن منهجيته ( أي زاوية اقترابه من الواقع الاجتماعي) فهي مزيج من أفكار ماركس وفيبر. من أهم مؤلفاته: