انفاسليس من الشّطط أن نقول إنّ عاملا أساسيا في أزمة الوعي بالقضية الفلسطينية والتقدير الصائب لتداعياتها في العقل الغربي، يعود لنمطية التصوّرات الدينية القوية والمتجذّرة. فلطالما ردّد العرب خطأ ولازالوا، بأن الغربي يحتكم في تصوّره للوقائع إلى منطق عَلماني يخلو من تأثيرات الدين، وواقع الحال غير ذلك. فلازالت الرؤية والحكم بشأن الفلسطيني على ارتباط بآليات دينية يتشارك فيها المتديّن مع غير المتديّن في الغرب. ذلك أن جانبا من أزمة الوعي بفلسطين والفلسطيني، مرهونة بقناة فهم تراثية دينية واحدية، تعشي عن متابعة الفلسطيني من منظور أوسع، حتى ولو كان هذا الفلسطيني مسيحيا وشريك إيمان في الاعتقاد الديني للغربي.
كانت دراستي الثانية بعد مغادرة جامعة الزيتونة، بجامعتين كاثوليكيتين بروما، الجامعة الغريغورية وجامعة القدّيس توما الأكويني، وكان اقترابي من الطلاّب والرهبان والراهبات والمدرّسين، دراسة ومعايشة حيث كان سكناي في دير، مدعى لتنبّهي لتمثّل آخر لفلسطين والفلسطيني، لم تكشفه لي دراستي السالفة في الزيتونة وعيشي في مجتمع عربي مسلم. ففي البدء هالني عدد الكتب والدراسات التي تتناول "الأرض المقدّسة" لا فلسطين، وعن العبران لا أهالي كنعان، والتي كتبت لا لشيء إلا لإثبات أحقّية ورثة العهدين القديم والجديد في تلك الأرض. ومن هنا بدأ يتبلور الوعي لديّ لِم الفلسطيني يعبر في كلام عابر في المخيال الكاثوليكي، برغم مأساته اليومية، ولا يخلّف ذلك الجرح النازف إلتزاما بهمّه غاية المساهمة معه في تفريجه.
فالمعروف أن الكنيسة الكاثوليكية تسيطر على الأغلبية من أتباع المسيحية، حتى أنها تنعت ذاتها بخيلاء بالديانة لا المذهب، بصفتها تفرّعا عن خط عام. فهذه الكنيسة، تلتقي بالتمام مع القراءة الأرثوذكسية اليهودية للتوراة، سواء في تقسيماتها العرقية أو في مدلولاتها التاريخية أو الجغرافية، ولا تحيد عنها إلا لماما بإنتاج بعض التأويلات الباحثة عن مشروعية البشارة بالسيّد المسيح (ع) من العهد القديم. ولذلك الكاثوليكي هو من جانب ما يهودي تقليدي اتباعي، ما شهد نقلة تحوّل فهْمية في وعيه بالتوراة.

انفاس"كبدى خذوه..
يا ناهشي الأكباد
هاكم فانهشوه!"
         نجيب سرور 
تقول الأسطورة: إن القندس قطع خصيته ليُنقذ حياته من صائديه الذين يطاردونه، لأنهم يريدون خصيته التى تُستخلص منها العقاقير! وبدوري أتساءل: ألمثل هذا التصرف اليائس يُدفع عالمنا العربي؟! خاصة، وأن الآخر الغربي ونظيره العربي، لا يتورعان عن الترويج لكل ما يعضد مخاوفي ومخاوف غيري!
 فها هى نسخ الآخر العربي تُروج لكون الحضور الغربي، لا غنى عنه، وأنه إنما يُسمح به لاغاثة الذات العربية، وانتشالها من تخلفها! حتى أننا كـ"ذات" ألفنا مباهاة الآخر العربي بنجاحه فى جلب العون الغربي، وكذا ألفنا اعتباره ذلك انجازاً! المدهش هو حدوث المباهاة، رغم أن ثمة أمارات تؤكد ما يجلبه الحضور الغربي من فساد وخراب! من هنا يعمد هذا المقال لابراز هذا التواطؤ المُخزي..
من هو "الآخر" فى الفكر الأنسني؟
ما المعاني المختلفة والعديدة التي ارتبطت بـالفكر الأنسني إلا انعكاسات لتفكير حقب مختلفة من تاريخ الإنسانية ولمضامين شخصية واجتماعية متنوعة!
البعض، ولست منهم، يرى أنه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية! فإنها لخاصية عميقة فى الإنسان، انه كلا الأمرين معاً، فهو ابن الطبيعة المادية ووارث لطاقات تحرره من قيود منشأه الأصلي!.. 

انفاستحتاج حاضرة الفاتيكان، كدولة ذات خاصيات دينية وروحية، إلى متابعة لمواقفها وسياساتها بشأن القضية الفلسطينية، لمعاينة الثوابت والتحوّلات، وهو ما يستدعي بالمثل، توقّفا عند طبيعة العلاقة مع إسرائيل أيضا. إذ يتداخل الديني بالسياسي في مناورة الفاتيكان، وهو ما يستلزم الإمساك بالتأويل النصّي القدسي في دلالته الكاثوليكية من ناحية، وبالمثل الوعي بموقع الفاتيكان في السياسة العالمية، كدولة منخرطة في المجتمع الدولي وشتى التحالفات والولاءات التي تتجاذبه. إذ التصور الديني لفضاء فلسطين، يتحدّد ويتعرّف لدى الفاتيكان بنصّ جامع مانع، الكتاب المقدّس بشقّيه القديم والجديد، ويردف بواقع حالي صنعه الإنتداب البريطاني، فصل فيه الفضاء الفلسطيني عن بنيته التاريخية والتراثية والدينية.
فالموقف الفاتيكاني من فضاء فلسطين، تنطلق مقوّمات وعيه من مدوّنة نصّ لا واقع نص، أي الأرضية الحضارية والتاريخية للمنطقة. ومن هنا عُدَّ المترسّب البشري على الرقعة الجغرافية الفلسطينية مهمَّشا، في حين كان النصّ المقدّس بشقّه القديم أساسا هو المرجع والفيصل، والخاضع لتأويلية وعي صنعتها الرؤية العزْراوية التي ختمت الصياغة النهائية للتوراة. مهتديا بذلك يؤسّس العقل الفاتيكاني وعيه بتراث المنطقة وشعوبها، عبر استلهام المنتوج الحبري -مدارس صياغة التوراة- ويلغي كافة المدوّنات الخارجة عن النصّ المقدّس، باعتبارها مرجعية أبوكريفية منتحلة، برغم الحجّية العلمية المعتبرة لها والتصحيحية أحيانا للنص التوراتي الرائج اليوم.
كان هذا المدخل ضروريا لمتابعة أسس وعي الكنيسة الكاثوليكية بالمنطقة، والذي بدأت تتجلّى ملامحه مع الأطماع الصهيونية المبكّرة في فلسطين، وما رافقها من ردود أفعال محلّية. يذكر الأستاذ علي المحافظة في كتابه: "الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن" أن أوّل من أشار إلى الأطماع الصهيونية في فلسطين الرهبان الكاثوليك، الذين كانوا يتابعون باهتمام وقلق النشاط الصهيوني، فقد نشر هنري لامنس اليسوعي مقالة في مجلّة "المشرق" عام 1899م بعنوان "اليهود في فلسطين ومستعمراتهم" تحدّث فيها عما ذكرته صحف الأستانة عن انتشار اليهود في فلسطين، وحثّها السلطات العثمانية على مواجهة النشاط الصهيوني. كان انتشار الرهبان والمبشّرين اليسوعيين الكاثوليك مكثّفا في تلك الفترة، وكانت مساعي الإستيطان الصهيوني في بداياتها، وبرغم ذلك مثّلت تناقضا حادا مع المخطّط الكنسي. فقد جاء ردّ البابا بي العاشر (1835-1914م)، في الخامس والعشرين من يناير 1904. على تيودور هرتزل برفض حاسم بشأن توطين اليهود في فلسطين بقوله: "إن اليهود لم يعترفوا بربّنا يسوع المسيح ولأجل ذلك ليس بوسعنا الإعتراف بالشعب اليهودي"، ومن هذا المنظور كان اليهودي أو المسلم، الذي يقيّم المسيح تقييما يتناقض مع الفهم الكاثوليكي، لا شرعية ولا حق له في "أرض المسيح"، ستبقى هذه العقدة متحكّمة في النظرة للقدس ولفلسطين عموما.

أنفاسمنذ تجليات مرحلة محمد علي باشا في مصر، وعودة رفاعة رافع الطهطاوي من باريس في وقت لاحق، يحيا العالم العربي في ظل شعور قوي بأن هذا هو عصر النهضة العربية، أو مرحلة اليقظة العربية/الإسلامية. لقد بقي هذا الشعور مذاك سائداً لا يقبل النقاش لأسباب عدة، منها ما هو متصل بما سبق في الحياة السياسية والثقافية، ومنها ما هو متصل بما تمخض عنه التالي من الأعوام من نتاجات فكرية وتطورات سياسية قادت نحو تغيرات جذرية نحيا اليوم بعضاً من آثارها المتأخرة. ولكن، ألم يأتِ الوقت المناسب الذي يسمح لنا، ابناءً لما جاءت به النهضة العربية، أن نتساءل: هل نحيا عصراً حقيقياً للنهضة، أم إنه عصر لا يختلف عما سبقه من العصور المظلمة التي نقلل من شأنها متخذين من تغزل أحد شعرائها بـ"مخدة" أو بإبريق شاي دليلاً على التردي والنكوص الذي كان يحياه العقل العربي في ذلك العصر المظلم.
    لقد قدم الطهطاوي، ومن ثم السيد جمال الدين الأفغاني ومريده محمد عبده، عدداً من الأسئلة، كان أهمها هو: لماذا نحن متأخرون أو متخلفون في العالم العربي الإسلامي، مقارنة بالأمم الغربية؟ وقد تمخضت محاولات الإجابة على هذا السؤال حصراً عن الكثير والمضني من الجدل والمناقشات التي ملأت الكتب والمجلات، كما هي الآن تملأ الدنيا ضجيجاً عبر الفضائيات وسواها من وسائل البث الأثيري. لقد كان المبدأ الأول الذي إعتمده "أساطين" النهضة المشار إليهم أعلاه هو إستمكانهم للتراجع والخنوع لهيمنة الإمبراطوريات الأجنبية، العثمانية خاصة، كواحد من أهم مسببات وتجليات العصر المظلم، كما نفضل أن نطلق عليه، ربما بتعسف. لذا دعا هؤلاء المفكرون إلى تحرير الأقطار العربية والإسلامية من الهيمنة العثمانية ومن سيطرة سواها من الإمبراطوريات الأجنبية، فعد الإستقلال السياسي شرطاً مسبقاً لأنطلاق نهضة عربية أو عربية إسلامية جديدة تتبلور، ليس فقط في التحرر من ربقة الإمبراطوريات، ولكن كذلك فيما سيقدمه العقل العربي الإسلامي من منجزات إبداعية ومبتكرة تذكرنا بالعصر الذهبي لحضارتنا على سنوات الدولة العباسية.

أنفاسد. مصدّق الجليدي
لقد تناولنا في الفصل الأول من هذا الكتاب قضية بناء العلمانية في السياق الإسلامي واقترحنا حلاّ لها مفهوم " العلمانية المؤمنة"، إلا أنّ تناولنا لهذه القضية يظل على الأرجح ناقصا إذا ما غضضنا النظر عن الأطروحة التي تضمّنها كتاب "الدين في الديمقراطية" للمؤرّخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، الذي اشتهر خاصة بكتابه عن خيبة أمل العالم في الماورائيات بعد فكّه لطلسم الأديان Le Désenchantement du monde ، أي علمنته. أطروحة "الدين في الديمقراطية" الرّئيسية كما تبيّنّاها، هي التبشير بثورة الإيمان أو «الانقلاب الكوبرنيكي للشعور الديني [...الذي] يعمل على أن يصبح بنظر نفسه على شاكلة ما عابه عليه مهاجموه بالأمس بطريقة خفية وهو: نتاج للعقل البشري، في خدمة غايات دنيوية بحتة»(ص. 136). يستتبع هذا ضرورة دنيوة الدين وتنسيب الإيمان وعلمنته وبالتالي إقحام الديمقراطية في صلب المعتقد. يقول مارسيل غوشيه في هذا الصدد: « إنّ نسبية الإيمان الخاصّة هذه هي النتاج المميّز لعصرنا الحالي، إنّها ثمرة تغلغل الرّوح الديمقراطية داخل فكرة الإيمان نفسها » (ص. 119).
  وفي كلمة نجد أطروحتنا عن "العلمانية المؤمنة" وجها لوجه مع أطروحة مارسيل غوشيه عن "الإيمان العلماني"، فهل يتعلق الأمر بمجرّد اختلاف شكليّ بين الأطروحتين أم توجد بينهما نقاط اختلاف جدّية؟ وفي كلّ الأحوال هل أن الطلاق بينهما بائن، أم أنّ علمنة الإيمان تظل إمكانية مفتوحة أمام الأفراد حتى في ظلّ العلمانية المؤمنة؟
I-الإيمان المطلق والإيمان النسبي
لنعد بداية إلى مفهوم العلمانية المؤمنة. علينا أن نشدّد هنا على مفارقة هذا المفهوم لمعنى تديّن العلمانية. ولقد سبق أن أكّدنا في مطلع الفصل الأوّل أن الحداثة في الإسلام لا تعني أسلمة الحداثة وإنما تحديث الإسلام، أي تحديث القديم ليظل متجددا على الدوام ولا جرّ الحداثة إلى منطق القديم، فهذا مما يناقض مفهوم الحداثة نفسه.

أنفاسينظر الكاثوليك إلى كنيستهم بصفتها تجلّيا لوحي الربّ على أرضه، تسعى لتثبيت سلطانها في الأرواح، ويغلب نعتهم لها بالدين بدل المذهب، ويراها غيرهم مؤسسة عالمية للمقدّس، تتطلّع جنب السلطات الزمنية للفوز بمغانم للمؤمنين بها. ويخبر واقع الحال أنها مؤسّسة مركّبة، قائمة على شرْعة فيها من التميّز والتماثل مع غيرها من شتى الملل والنحل، تشكّلت قداستها عبر الدهور، ضمّت بداخلها مكونات عدة. يبلغ عدد الحركات المنضوية تحتها والتي تحوز اعترافها في الوقت الراهن 120، إضافة إلى تجمّعات دينية صغرى، 226 منها رجالية و900 نسائية.
وقد بلغ عدد الكاثوليك المعمَّدين في العالم بحسب التقرير الإحصائي الأخير، الصادر عن مكتبة الفاتيكان سنة 2006، 1098366000 سنة 2004، ما يعادل 17،2% من العدد الجملي لسكّان المعمورة.
سمعان بطرس: صخرة الكنيسة
تُعَدّ كنيسة القديس بطرس في روما أكبر كنيسة كاثوليكية في العالم، وهي تمتد على مساحة 15000 متر مربّع، وتتّسع لثمانين ألف زائر، حيث تستقبل سنويا قرابة عشرة ملايين. يعتبر الحواري سمعان، الذي صار القدّيس بطرس في التقليد الكاثوليكي، بابا الكنيسة الأوّل، استنادا إلى ما ورد في إنجيل متى (16: 18) من خطاب السيد المسيح (ع) له: "أنت صخر. وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي". جرى تنصيب 264 بابا بعده، بل بالضبط 262، لأنّ بندكتوس التاسع أنتخب ثلاث مرات. من هؤلاء نجد 205 من إيطاليا، و19 من فرنسا، و14 من اليونان، و8 سوريين، و6 ألمان، و3 من شمال إفريقيا، وإسبانيين، وواحدا من النمسا، وواحدا بولونيا، وواحدا فلسطينيا، وواحد أنجليزيا، وواحدا هولانديا. ويسمّى بابا مزيّفا من يغتصب كرسي البابوية دون رضا الإكليروس، وآخر هؤلاء فيليشي الخامس 1440-1449م. بقي بيو التاسع أطول مدّة، 32 عاما، وأقصرهم ستيفانو الثاني، دامت حبريته يوما، جرّاء إصابته بسكتة قلبية. ويعود استبدال البابوات أسماءهم الأصلية بأسماء التعميد، إلى عام 553م، حين قرّر يوحنا الثاني التخلي عن الاسم المدنّس إلى الاسم المقدّس.

أنفاستقديم:
قسمت فرنسا تعليم المرحلة الاستعمارية لإنجاز أهداف، منها نشر الفرنسية، وجعلها لغة العلم والعمل. ولم تستطع سياسات تعريب تعليم ما بعد الاستقلال تصحيح الوضع اللغوي بتمكين العربية في القطاع. سنحاول تبيان أن السبب يتجاوز الاستراتيجيات إلى القرار السياسي، والثورة الثقافية الشاملة، والتفتح الفعلي، وليس الخطط الفرنسية التي تختزل التعدد في الفرنسية والعربية واللهجات (الفصحى، بالمعنى التقليدي، واللهجات العربية والأمازيغية، و الفرنسية لغة التفتح الوحيدة).
2. سياسة فرنسا: التعليم نموذجا
قسمت فرنسا تعليم ما قبل الاستقلال إلى التعليم الإسلامي، والإسلامي الأمازيغي، والإسرائيلي، والأوروبي. وفيما يلي، نفصل بعض مكونات كل تعليم على حدة.1
- التعليم الإسلامي: تضمن المدارس القرآنية، والتعليم الإسلامي، بنوعيه، العالي والعصري، والمدارس الأمازيغية.
كان الفقهاء يدرسون في المساجد الأطفال القرآن. وكان الآباء والمدرسون يشعرون بعدم جدوى هذا التعليم ونفعيته، فحاولوا تجديده بإضافة مقررات مثل التربية الإسلامية والنحو والحساب، كما أخضعوا المدرسين لامتحان العلماء (ouléma). إلا أن ذلك لم يُخرج المساجد من الأزمة.
تمثل التعليم العالي في جامعة القرويين، التي تعد من أقدم الجامعات في المغرب، إذ أُسست حوالي 859. كانت في القرون الوسطى تُدرس الآداب وعلوم الدين والأحكام القضائية والبيولوجيا والرياضيات والمنطق، وكانت تستقطب الطلبة من المنطقة المتوسطية العربية، وأوروبا. ساهمت في تكوين العلماء من كل التخصصات التي كان يعرفها العصر آنذاك. إلا أنها سقطت، بالتدريج، في الاستهلاك العقيم، وقل فيها الإبداع والقدرة على التجريد.

أنفاس1. تقديم
نحاول في هذه المقالة رصد مواقف المختصين، وغير المختصين من اللغة. ثم نعرِّف بالتعيير اللغوي، وأهدافه ومزاياه، وتقاليد المحافظة عليه، وسلبيات وحدوده في واقع اللغة والاستعمال. بعد ذلك، نناقش، على ضوء ما أوردناه، مواقف القدماء من الفصيح والفصاحة، ونقف على عدد من الثغرات.
2. مواقف الناس العاديين من اللغة
تسير المواقف العامة التي يعتقدها الناس، بصفة شخصية، في اتجاهين.1 الأول معاكس لاتجاه المختصين من اللغويين، والثاني مضاد لمعتقدات الناس أنفسهم، ولما يمارسونه، فعلاً، ويُظهرونه من خلال سلوكاتهم اللغوية. وتتجلى التصورات المعاكسة للمقاربات المختصة فيما يُصدره الناس من أحكام قيمة (value-judgement). فقد تعود الناس منذ قدم الزمان على تصور اللغة رمزاً لما تشير إليه في الواقع الخارجي. ولعل الاعتقاد بوجود تلك العلاقة هو ما يجعلهم يتجنبون الكلمات التي يظنون أنها تتوفر على خصائص سحرية، أو أنها موضوع للمحرم والطابو (tabu) أو أنها تحيل على الإله أو المرض أو الجنس أو الموت. ويدخل في هذا الإطار تجنبهم الكلمات التي تقترن بالوظائف الجسدية، ويستبدلونها بأخرى لائقة في السياقات غير الرسمية، وتقنية في السياقات الرسمية ( غائط، مثلاً ). وحين يرى الناس الخنزير يتمرغ في الوحل يعتقدون أن اسمه ينطبق عليه، وأنه ما سمي بذلك إلا لعادته المقرفة تلك. وكما يتصورون وجود خصائص السحر والمحرم والسلطة في الكلمة، يذهبون مذاهب أخرى أسبابها مجتمعية وثقافية وطبقية، فيعتبرون بعض اللهجات أجمل من أخرى، وبعض اللغات أحسن من أخرى، وبعض البنيات النحوية والصوتية أكفى من أخرى.
ولقد ذهب اللسانيون وعلماء النفس الاجتماعيون الذين درسوا المواقف العامة إلى أن الناس يُصرحون بأشياء، ويُمارسون أخرى. فقد يُدينون استعمالاً لغوياً معيناً إذا سمعوه من آخر، في الوقت الذي يستعملونه، هم أنفسهم، وقد يُجيبون على جامعي المعلومات بكونهم يستعملون المتغيرات المعيار، أو النطق المعيار، أو اللغة المعيار، مع أنهم، في الحقيقة، يستعملون النماذج غير المعيار. ويُفسر الدارسون السوسيولسانيون مفارقة استعمال نموذج، وادعاء غيره بوعي الناس وإدراكهم بما يتفق مع النمط العام، أي ما يُعرف بمصطلح المُقَْولَبات المجتمعية (social stereotypes)، وبالقيم التي تُلصق بالاستعمالات اللغوية واللغات. إنهم حين يظهرون عكس ما يُمارسون أو يعتقدون يتجنبون وصف الآخرين لهم بالجهل أو الدونية وعدم الرقي، وغير ذلك من الأحكام التي تقترن باستعمال "أحسن الناس" أو "أفضل الناس" في المجتمع.