أنفاسنحن لا نريد إحياء الماضي بما هو ، فهو يدخل في تكويننا الفكري والثقافي الشعوري واللاشعوري، كخبرات وليس كواقع يمكن استعادته، إذ هو ماض له ما له وعليه ما عليه. فإذا جعلناه أمامنا فكأننا نضع العربة أمام الحصان، وهو سيسد طريقنا ويمنعنا من رؤية وقائع حياتنا المعاصرة المتجددة بحركة عاصفة تكاد تسبقنا ولا نستطيع الإمساك بحلقاتها الرئيسة إلا متأخرين. ولذلك فإن التواصل مع تاريخنا يجب أن يكون من خلال هذه الوقائع وليس العكس. فقدرتنا على التواصل مع الحداثة والثورات العلمية والتكنولوجية وهي في الجوهر العقلانية والعلمانية والديموقراطية، هي التي تجعل تاريخنا في تواصل مع حياتنا المعاصرة، ونحن نكافح لبناء وطن عربي حر قادر على المساهمة في صنع الحضارة الحديثة بدون التواءات وتكييفات خاصة. بالتواصل مع التحولات والتبدلات الاقتصادية والسياسية والثقافية العالمية، يتم التأكيد على الهوية القومية العربية، التي هي في هذه المرحلة المقاومة والصمود في وجه التحديات والمشاريع الإمبريالية التفكيكية والتجزيئية لتدمير هذه الهوية.‏
وهكذا حين لا يستطيع الواقع الراهن تقديم أجوبة عن أسئلة يطرحها الفكر الانساني فإننا نكون إذ ذاك أمام أحد احتمالين: إما أن الأسئلة التي طرحناها على الواقع أسئلة زائفة، والأسئلة الزائفة لا جواب واقعياً عنها، أو أن الواقع راكد إلى الحد الذي ليس باستطاعته أن يجيب.
اننا أمام مشكلة جد معقدة ألا وهي: كيف تأتى أن تكون بعض أسئلة الراهن أسئلة طُرحت قبل قرن ونيف من الزمان؟.
أجل: فسؤال التقدم التاريخي الذي طرحه النهضويون العرب ما زال سؤال المعاصرين من المفكرين العرب. وسؤال نحن والغرب الذي جهد الفكر النهضوي لفضّه، ما زال راهناً بل وحاضراً بصورة أكثر إلحاحاً. ناهيك عن أسئلة الدين والعلم والفلسفة واللاهوت، ونظام الحكم، والتجديد الديني. أتراها أسئلة يطرحها الوعي العربي انطلاقاً من رؤية العالم كما يجب أن يكون، أم هي أسئلة ناتجة عن وعي العالم كما هو أو بما ينطوي على إمكانيات تحتاج إلى إرادة مولدة للأجنة.
القول بأن الواقع راكد لم يتغير منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى هذه اللحظة المعيشة، قول يتناقض مع سيرورة التاريخ الفعلية. لكن ا لتغير لم يكن في اتجاه الإجابة الواقعية عن أسئلة الفكر العربي الحديث. أي أن أياً من أهداف عصر النهضة العربية لم يجد طريقه إلى التحقق .

أنفاستبلور النقاش حول أصل سكان المغرب ، بداية ، في حقل التاريخ. لكنه ، سرعان ما تدحرج إلى المجال السياسي ؛ ليتخذ تأويلات  إيديولوجية متباينة تشرعن وجودها بالاغتراف من تصورات تاريخية جاهزة . كيف ذلك ؟
1- مناقشة سؤال أصل سكان المغرب في مستواه التاريخي و الفكري :
من أين أتى “البربر” ؟ هل ” البربر” أقارب الأوربيين القدامى ؟ أم أنهم تدفقوا ، عبر موجات ، من الشرق ؟ لكن ، ماذا لو لم يأت هؤلاء من أي مكان ؟
إنها أسئلة ذات انشغال علمي ترتبط بالدراسات التاريخية . لكنها ، أيضا ، مطروحة في الساحة السياسية المغربية وتتجاذبها أطراف متعددة . والواقع أن الأسئلة المطروحة أعلاه تتفسخ عنها أسئلة فرعية ذات أهمية واضحة بالنسبة لموضوعنا . لكننا سنحجم عن إثارتها بالنظر للسقف الضيق لهامش هذا الموضوع.
وعموما ، يمكن ضبط التموقعات الإيديولوجية ، لهذا الموضوع ، في ثلاث اتجاهات أساسية :
*1 – الاتجاه العروبي- الشرقاني : اتجاه مغلق ومنكفئ في تعاطيه مع سؤال أصل سكان المغرب ؛ بحيث لا يرى ، هذا الاتجاه ، الهوية الإثنية للسكان المغاربة إلا في المشرق العربي : أي فرضية الأصل العربي للسكان ؛
* 2- الاتجاه الشوفيني الامازيغي :هذا الاتجاه يشترك مع الاتجاه الأول ، في كونه منغلق ومنكفئ ؛ لكنه لا يوجه نظره نحو الشرق في تحديده لأصل سكان المغرب ، بل يجتهد – بكل الوسائل – لدحض الفرضية الأولى ( الاتجاه العروبي) . و يرى أنه يمكن أن يكون أصل سكان المغرب من أي منطقة إلا المشرق العربي ؟ إنه تيار شوفيني ومتعصب ؛
* 3 – الاتجاه الديمقراطي التعددي : بين الاتجاهين السالفين، ينبلج اتجاه عقلاني ، تعددي و غير تصفوي مضمونه : أن معطى الهوية معطى متحرك وليس استاتيكي . وبالتالي ، فإن المغرب اكتسب هويته عبر فترات تاريخية طويلة . انصهرت ، خلالها ، ثقافات الشعوب الإفريقية والمتوسطية والعربية ….الخ. فضلا على أن هناك تحديات موضوعية ، كطاحونة العولمة ، الفقر ، إرهاب الشركات المتعددة الجنسية ، عسكرة الرأسمالية…الخ، تفترض ، وجوبا ، الوحدة ونبذ الصراعات الطائفية .

أنفاسفي خضمّ بحث العقل في الفضاء الإسلامي عن اكتشاف سبل الانبعاث المستجدّة، يجدر الإلتفات للمؤسّسات العلمية، الدّينيّة منها بالأساس، فيما أنتجته وما تنتجه من وعي ورؤى ومفاهيم. وتمعّن مثلّث: المحتوى المعرفي والمنتِج المعرفي والخرّيج العلمي. ومن ثمّة تبيّن الدور الحضاري-المعرفي للمؤسّسة، في فضائها العائدة إليه بالنظر والمرتبطة به. سيكون اهتمامي بالجامعة الزيتونية في هذه الدّراسة لاعتبارين أساسيين: لما ربطتني من وشائج قربى واقتراب بالمؤسّسة، حيث لازمتها طيلة مراحل التكوين الجامعي؛ ولانشغالي بالظاهرة الدّينية في حقلها الإسلامي وفي مجالها العالمي الموسّع. ولم يقتصر بحثي على تناول الزّيتونة في حدّ ذاتها بل تطلّع لربط المؤسّسة بالصيرورة التاريخية التطوّرية العامة، لما شكّلته مؤسّساتها العلمية من آلة، يقاس عليها واقع حال عقل كتل بشرية بمجملها.
أولا: من أجل تقييم علمي لتاريخ الزّيتونة
تُعدّ جامعة الزّيتونة في تونس من أعرق الفضاءات التعليمية في العالم الإسلامي، بالمعنى المؤسّسي الشّامل، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها عبر القرون. بدءا ينسب تأسيس الجامع إلى حسّان بن النّعمان الغسّاني، فاتح تونس وقرطاج سنة 79هـ (698-699م). كذلك هناك من يذهب إلى أن تأسيسه تم في عهد عبد الله بن الحبحاب، الذي سمّاه هشام بن عبد الملك واليا على إفريقية سنة 110هـ (728-729م)، وقيل أيضا سنة 116هـ الموافقة لـ734م. كما تم توسيع الجامع في عهد زيادة بن الأغلب، عندما تولى إمارة القيروان. وأرجّح أنّ هذه الإختلافات التّاريخية متعلّقة بتحديد أزمنة تطورّات التوسيع التي شهدها الجامع في عهوده الأولى، وليس لها صلة بزمن التأسيس الأوّل.
وبرغم التجذّر التاريخي لهذا الجامع-الجامعة، وثراء التجربة التعليمية وعراقتها، فلازالت المؤسّسة تمثّل تجلّيا عيّناتيا مكثّفا لاشتغال العقل الإسلامي ولأزمته ومتاهاته المتنوّعة. فمبادرات الإصلاح التربويّة والتعليمية للمؤسّسة متكرّرة ومتعدّدة، ومن المحاولات التي جرت في القرنين الأخيرين مثلا، ما تمّ في 1842م وفي 1862م وفي 1875م وفي 1910م وفي 1950م وفي 1987م.
ونظرا لحساسية موضوع الزّيتونة المتشابك مع السّياسي في جلّ مراحله، نجد جلّ دارسي الاجتماع والمؤرّخين، غالبا ما حادوا عن التطرّق العلمي الموضوعي لتقييم العقل النّظري الذي قامت عليه المؤسّسة، الأمر الذي منع بلوغ موازنة موضوعية لدورها الحضاري. ولذلك يلاحظ المتتبّع للكتابات المتناولة للزّيتونة، هيمنة الخطاب الفخري والتمجيدي عليها. وتفتَقَد لحدّ الآن، المقاربة الموضوعية للتاريخ الحضاري لها، التي يُفرَز فيها الدّور التحصيني الحمائي للهوية -وهو غال على الشّعور الإسلامي، خصوصا أثناء الإقتحام الإستعماري-، بغرض تبين الأثر السّكوني السّلبي للنمط التعليمي لهذه الجامعة ومثيلاتها. وهو ما ينبغي إجلاؤه بكلّ صرامة، حتى لا يسترسل مع الخطاب التمجيدي العفوي أو المداهن.

أنفاسالدين من القضايا المقدسة إطلاقا , كيفما كان نوع الدين , فالإنسان قلما ينقده بمسؤولية و موضوعية.و للدين آثار و تأثير في حياة الناس و مصائرهم , في قلوبهم و عقولهم و توجيه سلوكهم.و على الرغم من خطورة المعتقد و أهميته الكبرى : في مصير النفس الإنسانية في الحياة الدنيا و الآخرة,فقد ظل الانسان يلتف حول ما يخدم مصالحه اللحظية الدنيوية حتى مع تعارضها و عدم انسجامها مع ما يقتضيه الشرع الالهي المنزل.
و كان بطبيعة الحال أن يقع الصدام بين ما يفعله الإنسان و ما ينبغي أن يكون , فقام الإنسان على مر التاريخ , بإسم التأويل و التفسير , و بإسم مقولة الظاهر و الباطن , و العقل و القلب ..بتحريف الشرع الالهي , و الذي كان واحدا لم يتعدد في مضامينه و إن تعدد الرسل و الانبياء و كثرت اللغات.
و كان شعار الشرع الالهي التوحيد و العدل و الحرية , كما كانت غايته تصبو إلى إسعاد النفس البشرية و إبعادها عن الأهواء و الضلال و التضليل.. و تصحيح أخطاء العقل المكتسب و هفواته و التي كان و لا يزال للعلماء النصيب الاعظم في بناءها.والعلماء في كل مجالات الحياة , بالرغم من معرفتهم بمصدر الحقيقة , كانوا عبر التاريخ , مركبا للتناقض , و سببا في تحريف معنى الدين , بتأليفهم لأسفارهم المقدسة في اللاهوت و الشريعة.. و علوم الطبيعة.فكانت النتيجة أن أصبح الانسان يقدس شروح العلماء و وساوسهم و اجتهادتهم , فتعددت مصادر الدين و كثرت , و ترسخ في الأذهان دين جديد , و مصادر جديدة تختلف بإختلاف الملل و النحل.سواء عند اليهود و النصارى و المسلمين أو عند المجوس و الهندوس..
و إذا كان الدين البشري كما رأينا, فإن الدين عند الله لا يقبل التعدد ـ لأنه رسالة واحدة من خالق أحد لبشر ينتمون لنفس الطبيعة الممتلكة لنفس العقل ...ـ و ان تباينت مواقف الناس منه.
هذه المواقف المسجلة في التاريخ كأحداث و كتب ..أضحت دينا يتبع , دينا لا يقبل النقد و المحاكمة, و إرثا يصعب على الانسان الشك فيه أو إخضاعه للمسائلة. فكان هذا الأمر ـ كثرة الأديان و تناقضها..
سببا لكفر البعض بالدين و عقائده ..كما كان دافعا للخلط بين الشرع الإلهي و الشرع الانساني فنشأ دين يحمل التناقض و الزيف مما حدى بأتباعه الى اللجوء تارة الى التفسير و تارة أخرى الى التأويل : تفسير و تأويل الشرع الالهي لكي يوافق هوى النفوس و عقائد الشرع الإنساني.
و في خضم كل هذا كان التاريخ دوما حافلا بقلة من الناس , كانت دوما متمسكة بالهدي الإلهي وحده.

أنفاس"محاولة في رفع1 "سوء التفاهم التاريخي" إزاء أطروحات محمّد الشرفي "
كما هو الشأن بالنسبة لكلّ إنسان مثقف وملتزم، توجد في شخصية الفقيد محمّد الشرفي عدّة ملامح ومكوّنات، تبعا لتعدّد الأدوار التي لعبها والمكانات التي تبوّأها. فهنالك الشرفي المناضل في الحركة النقابية الطلابية والشرفي المناضل السياسي في حركة آفاق(الستينات)، فالأستاذ الجامعي والكاتب العام المساعد لنقابة أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرين(السبعينات)، فالقيادي في الرابطة التونسية لحقوق الإنسان(الثمانينات)، لينتهي وزيرا للتربية لمدة خمس سنوات مثيرة للغاية(1989- 1994)، قبل أن يلتحق من جديد بفعاليات المجتمع المدني الوطني والدولي (رابطة حوار الحضارات بالأمم المتحدة: 2006).
لقد تحدّث أصدقاء الفقيد بصفة خاصة عن الملامح النضالية النقابية والحقوقية والسياسية في شخصيته الثرية وكتبوا عن ذلك في مختلف الصحف الوطنية والعربية، وبما أنني من جيل لاحق لجيله وحتى للجيل اللاحق به، فإني غير مؤهل لإضافة المزيد حول هذه الجوانب، ولعلّ أحسن طريقة نحيي بها ذكراه هو أن نتوقف عند أهمّ أثر فكريّ تركه، وهو كتاب "الإسلام والحرية: سوء التفاهم التاريخي"، لنرفع سوء التفاهم الحاصل حول "سوء التفاهم" الذي أراد الفقيد رفعه حول علاقة الإسلام بالقيم الإنسانية الكونية وعلى رأسها قيمة الحرية. زد على ذلك أن ما يجلب انتباهي على نحو خاص في مسيرة الفقيد الاستثنائية ، بحكم طبيعة اهتماماتي الحالية، هما الجانب الفكري و الجانب التربوي الاستراتيجي.
وعندما نقول الفكر، نقول الآثار المكتوبة، من دراسات ومحاضرات، وبالتالي لا يهمّنا ما يتجاوز ذلك إلى الممارسات الخاضعة إلى مقتضيات المأسسة وإكراهات اليومي، والحماس الذي قد يكون أحيانا مبالغا فيه في تطبيق الرؤى والقناعات الخاصة بفعل استشعار امتلاك النفوذ، فتلك أمور تتوقف على نصيب الحكمة العملية ورصيد الخبرة التنفيذية، والناس يتباينون فيها أيما تباين، مهما جمعتهم الآراء وتشخيصات عيوب الواقع والوعي بمتطلبات المرحلة، والشواهد على ذلك في التاريخ البعيد والقريب كثيرة.

1- محمد الشرفي المثقف والمفكر والاستراتيجي التربوي
إذا ما سُئِلتُ عن أبرز صفات فكرية تبينتُها لدى فقيد المجتمع المدني ورجل الدولة السابق المرحوم محمد الشرفي فسأقول دونما تردّد الوضوح والتمييز (الديكارتية) والنزاهة وقوّة الحجة. وإذا ما سُئِلتُ ما هي أبرز صفات خُلقِية لمستها لديه، فسأقول إنها بلا ريب صفات التواضع والهدوء وحسن الإنصات والحرص على الاستفادة من ملاحظات الآخر المختلف.

أنفاسكثر الحديث في الآونة الأخيرة حول مصطلحات استحوذت على النقاشات الفكرية العالمية من قبيل ؛ صراع الحضارات وحوار الثقافات والقيم الكونية والقرية العالمية والغزو الثقافي والهوية الثقافية والعولمة والإرهاب وغيرها من المصطلحات ، بحيث كثر الجدال واختلفت الآراء وتنوعت القضايا دون أن يؤول منها القارئ المتأمل إلى أية رؤية واضحة أو فهم سليم . ونحن ـ في هذه الورقة ـ نحب أن نقف عند مستويات من القراءة نحاول من خلالها أن نقارب هذا الموضوع  ، وذلك انطلاقا من المداخل التالية :
1 ـ قراءة لغوية بلاغية :
    إن ما أثار انتباهنا واستوقف نظرنا هو أن غالبية هذه المصطلحات يكتنفها الكثير من الخلط وعدم الدقة ، وتثير من مواطن الخلاف أكثر مما تقود إلى مظاهر الوفاق ، فإذا وقفنـا ـ مثلا ـ عند المصطلحين الأولين ( صراع ـ حوار) فإننا سنلاحظ أنهما يشتركان في الصيغة الصرفية . فصراع على وزن فعال (بكسر الفاء وفتح العين) ، وكذلك وزن حوار ، كما أن الصيغ المشتقة منهما لها نفس الوزن ، فحاور من حوار ومحاورة ، وصارع من صراع  ومصارعة من أوزان : فاعل فعالا ومفاعلة . إن الملاحظ هو أن وزن فاعَل يدل على المشاركة بمعنى أنه يتطلب مشاركة فاعلين اثنين ، إذ لا يمكن أن ينجز هذا النوع من الفعل فاعل واحد . هكذا يقول علماء النحو . وإذا انتقلنا إلى علماء البلاغة أو المعجم فإننا سنجد المعنى يقودنا إلى نفس الدلالة ، ألا وهي أن الفعل حاور يتطلب مشاركة وتعاونا وتبادلا لدوري الحوار: المتكلم والمجيب ؛ بحيث يصبح المتكلم مستمعا والمستمع متكلما ، والمرسل متلقيا والمتلقي مرسلا ـ وهذا عادة ما يتم في الحوار العادي ـ هذا النوع  من الحوار يتطلب الاعتراف بالآخر واحترام رأيه ومحاولة إقناعه بالحجة والبرهان ، إن أمكن ، وإلا احتفظ كل طرف من الأطراف برأيه دون أدنى مساس بالاحترام.
     إذا توقفنا عند هذا المستوى لنتأمل الواقع الحالي ، فماذا نلاحظ ؟ هل تحقق في " الحوار" الحالي بين الحضارات تساو ؟ هل توفر فيه شرط الاحترام ؟  أو هل تم فيه توظيف آلية الإقناع بالحجة والبرهان ؟ باختصار هل تمت مراعاة خصائص الحوار وشروطه وأركانه ؟ هل ـ مثلا ـ تعترف الحضارة الغربية المعاصرة بنا نحن العرب والمسلمين ؟  
  مصطلح " صراع " بدوره يثير نقاشا يرتبط بطرفي المعادلة . هل يمكن مثلا اعتبار اعتداء القوي على الضعيف صراعا ؟ أم أن الصراع  يتطلب قدرا من القوة يمتلكها الطرفان حتى يمكن تسميته صراعا . هل البطش صراع ؟  ـ مثلا ـ أمثلة كثيرة من الواقع الراهن تحتاج إلى إن تطرح بصددها أسئلة من هذا القبيل .

أنفاستميّزت القضايا التاريخية للمسيحية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بطابع محلّي، إلى جانب ما شهدته من جدل متواصل مع ظاهرة العولمة. فلأثر واقع القرية الكونية الذي صار يميّز البسيطة، بفعل فرص الاتصالات الناشئة عن توسّع الشّبكة الإعلامية وتحت دفع أشكال التّرابط الاقتصادي والسّياسي المتنوّعة، تواجه التجمّعات المسيحية تحدّيات على مستوى الحضور الفعلي وعلى مستوى الإبداع داخل عديد المجالات الاجتماعية والثقافية والرّوحية. ففي زمن التّجديد، المرتبط لدى الكنيسة الكاثوليكية بربيع المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965م)، ولدى الكنائس الأخرى بنشأة الحركات المسكونية الحديثة وتطوّرها، وبالتحوّلات اللاّهوتية، مقارنة بما كان سائدا خلال القرن التاسع عشر، تولّدت حالة نعتت بالتململ، كانت ناتجة عن مظاهر وعي مستجدّة وعن تجربة تنوّع الثقافات، وكذلك أيضا عن الضرورات التاريخية السياسية، وعن الاحتياجات والتعبيرات الرّوحية والدّينية. ففي فضاء اللاّهوت، المتميّز بالوعي النّقدي بالمعيش المسيحي والإكليروسي، جرى ذلك التّململ من خلال تطوّر في التصوّرات مسّ عديد الفضاءات، كأمريكا اللاّتينية وإفريقيا وآسيا، كانت خاضعة فيما سلف للتوجيه التقليدي الأوروبي. جرى ذلك عبر ظهور رواد جدد، كانوا في مستوى أول من العَلمانيين والنّساء، مقارنة بالهيمنة الإكليروسية والذكورية السائدتين في الماضي. كما تبدّى ذلك التململ من خلال ظهور مناهج جديدة، في علاقة أساسا بظهور قيمة الفعل، "الفعل الحقيقي"، مقارنة بالأولوية المميزة للحظة العقائدية الموضوعية، "المبدأ الجوهري". لقد كان للجدل بين المحلّي والعالمي الناتج عن تلك التحولات الأثر المباشر. فإذا كان إيلاء الاهتمام للإيمان يتطلّب إقرارا عميقا بالتحدّيات الواردة من السّياقات التاريخية الاجتماعية، وكذلك توظيفا إيجابيا ونقديا للّغات المختلفة -تعبيرات المواريث الثقافية والأنساق العلائقية المتغايرة فيما بينها-، فإن الأمر يطرح في الآن سؤالا مصيريا متعلّقا بتواصل الإيمان ذاته، وبالتالي عن فرص المحافظة على عرى التوحّد الحقيقية، والتفاهم المشترك، بين اللاّهوت والممارسة العملية المسيحية، في تضادهما السياقي. علاوة، نجد نفس السياق العولمي الجاري على مستوى كوني يتحدّى سياقات الوعي الداخلية، بشكل يجعل هذه الأخيرة تتخلّى عن طابعها المطلق المانع للحوار، والحائل دون الاقرار بالتنوّع داخل شبكة التواصل، ليدفع بها نحو الانفتاح على وحدة إيمان أكثر رحابة وأكثر عمقا.

أنفاسعقب انتهائي من مناقشة رسالة الدكتوراه التي أعددتها في جامعة الزيتونة، خلال السنة الجامعية 1997، حول "المقاربة الدينية لليهودية في الفكر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين"، حرصت على نشر ملخّص على صفحات مجلّة أو دورية مشرقية، أملا في إشاعة نتائج البحث، ورغبة في لفت النظر لعديد الأخطاء الرائجة، والتنبيه إلى أوضاع الدراسات العربية المتعلّقة بهذه الديانة، من حيث تدنّي "علموية" الخطاب فيها، مقارنة بدراسات موازية في بلدان أخرى. خصوصا وأن حاجة البلاد العربية تستلزم النهوض بهذا المبحث، لما تعيشه من صراع مزمن مع دولة، تستند إلى التراث العبري مرجعية حضارية لها. غير أنه رفضت كلّ المجلاّت الحديثَ عن هراء خطابنا وكشْف سقطاته، إن لم أقل جهالاته في مسائل عدة، متعلقة بالتراث العبري وبالديانة اليهودية، حتى أرسلت الملخّص إلى مجلّة "الحياة الثقافية" بتونس، التي كان يديرها الرّوائي حسن بن عثمان سابقا، فقبلت نشره.
من خلال متابعتي للحقل لاحظت تفشّي وهْم شائع بين العرب أنهم يعرفون إسرائيل، وبالتالي لهم إلمام بدينها، بناء على ما قيل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وعلى ما يكابدونه من صراع مستمر مع إسرائيل. والأمر غير ذلك، فليس هناك في شتى أرجاء البلاد العربية قسم جامعي، يتولى تدريس اليهودية أو المسيحية بمناهج علمية، ما عدا ما يأتي عرَضا ضمن دروس بعض أقسام الدعوة الإسلامية، أو أقسام اللاهوت المسيحي في دول المشرق، والتي لم تعانق فيها الدراسة العلمية، بل لازالت تدور في حيز المقاربة اللاهوتية.
وأعترف أن دراستي "الأكاديمية" لليهودية في الجامعة الزيتونية في قسم "الأديان والمذاهب" سابقا، لم تتجاوز شروحات لامية الإمام البوصيري (ت 1295م) وترديد مقاطعها:
لُعِن اليهود مع النصارى لا تكن بهم على طريق الهدى مدلولا
فالـمُدَّعو التثليث لا تحفل بهم قد خالفوا المنقول والمعقولا
والعابدون العجل قد فتنوا به ودّوا اتخاذ المرسلين عجولا