أنفاستظهر في فكرنا العربي المعاصر عدة معارك زائفة وثنائيات مصطنعة مثل السلفية والعلمانية، الدين والدولة، الدين والعلم، الدين والفلسفة، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الإيمان والإلحاد، الدين والعقل، الله والطبيعة، الله والإنسان، النفس والبدن، الآخرة والدنيا، الرجل والمرأة.. الخ. وتوحي هذه الثنائيات بتناقض أطرافها واستحالة الجمع بينهما لأنهما على طرفي نقيض بمنطق "إما... أو". وتنقسم الأمة إلى فريقين متصارعين كل فريق في صف طرف ضد الفريق الآخر الذي في الطرف الثاني. وتنقسم الثقافة الوطنية إلى قسمين متصارعين، يدمر أحدهما الآخر ويقضي عليه. فينتهي الإبداع، ويعم النقل. ويتوقف الحوار، ويسود التعصب.
والحقيقة أن هذه المعارك الزائفة قد نشأت في الغرب وتجربته في الحداثة. فبعد أن اكتشف الغرب في مطلع عصوره الحديثة منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة استحالة الجمع بين الكنيسة والدولة، بين الدين والعقل، بين الإيمان والعلم، بين أرسطو والطبيعة آثر استبعاد القديم واستبقاء الجديد، وترك الكنيسة والدين والإيمان وأرسطو وبطليموس، والاعتماد على العقل والعلم والطبيعة وقدرة الإنسان على الفهم والنقد والتحليل. فنشأ في الوعي الأوروبي هذا الصراع بين القديم والجديد، وتربى على هذه الثنائيات المتعارضة.
ومنذ ريادة أوربا في عصورها الحديثة، وتحولها إلى مركز للعالم، وانتشار ثقافتها منذ القرن الماضي خارج حدودها مصاحبة للمد الاستعماري في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، انتشرت هذه الثنائيات خارج حدودها، وعمت الثقافات الوطنية في الأطراف، ومنها الوطن العربي. فنشأ لدينا ومنذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي هذا الرافد الجديد في الثقافة العربية. وبدأ التقابل بين الموروث والوافد في الظهور على نفس النمط الغربي خاصة في التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل، وفرح انطون، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا. وكلما زاد العداء للموروث انتشر النمط الغربي الذائع خارج الحدود.
وقد حدث هذا الفصام في الثقافة الوطنية في لحظة تاريخية توقف فيها الإبداع، وعم فيها التقليد والاتباع. فلا فرق بين النقل من القدماء لملأ الفراغ أو النقل من المحدثين. فضل البعض النقل عن القدماء لعجزهم عن الإبداع وتوقفهم عن الاجتهاد. فتراكم القديم فوق واقع لا يتلائم معه، ويتطلب حلولا أخرى غير التي صاغها القدماء. فدفع ذلك البعض الآخر إلى أن يولي وجهه شطر الحلول الجاهزة الوافدة من الغرب، فتراكمت بعضها فوق البعض. وأصبح الواقع يئن تحت الموروث والوافد. وكلاهما نقل. فاذا انتفض الواقع باسم الحاضر تهاوى الموروث والوافد معا كما حدث إبان الثورات العربية الأخيرة التي بدأت من الواقع الوطني من أجل التحرر من الاستعمار الخارجي والقهر الداخلي والقضاء على الفقر والتخلف والتجزئة والتبعية دفاعا عن استقلال الإرادة الوطنية.

أنفاسالحداثة السياسية عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
»لايمكن إرغام أحد بالقوة أو بالقانون على امتلاك السعادة الأبدية«
                                       سبينوزا 

تقــــديم
نشتغل في هذه الورقة على زاوية محددة من زوايا التفكير في الحداثة السياسية، نشتغل على الجوانب النظرية الموصولة بالحداثة في فكرنا المعاصر(1)، ولا نعتني كثيراً بالوقائع السياسية إلا في السياقات التي نلجأ فيها إلى التمثيل على مسألة بعينها. نعلن هذا الاختيار في البحث والمقاربة لاتساع مجالات الموضوع وتنوعها، ولأننا نتصور أن التفكير في الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي يتطلب جهوداً بحثية جماعية مركبة، يتم فيها الاهتمام بالفكر مترجماً في المشاريع الإصلاحية وبرامج التحديث، كما تتم فيها العناية بجوانب الممارسة الفعلية التي يفترض أنها تترجم بطريقة أو بأخرى نوعية الاختيارات المفكر فيها، لتبني بلغة الواقع والتجربة أنظمة السياسية وأنماط التدبير السياسي.
ونتجه في سياق عنايتنا بالمجال النظري للحداثة السياسية العربية نحو بناء محاولة تفكر بمنطق السلب وآلياته في التحليل والفهم(2)، حيث نركز اهتمامنا على عوائق الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر أكثر من سعينا لتشخيص وجرد المكاسب والمنجزات، ومبرر هذا الاختيار في البحث يعود لقناعتنا بوجود موانع عديدة تحول بيننا وبين استيعاب أكثر تاريخية لنظام الحداثة السياسية ومفاهيمها، ولعلنا في هذا البحث نوفق في إبراز بعض هذه العوائق، وتقديم تصورنا لكيفيات تجاوزها والتقليص من حدة تأثيرها السلبي على مشروعنا التاريخي في الحداثة والتحديث ..
وإذا كنا في هذه الورقة نسلم بأن أغلب التجارب السياسية التي قامت في كثير من البلدان العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين تشكل مرحلة انتقالية جديدة في طريق بناء المشروع السياسي الحداثي، فإننا في الوقت نفسه ننظر إلى علامات التحول الجارية بكثير من الحذر والاحتياط، بحكم مظاهر التردد بل والتراجع التي تتحكم في هذه العلامات في أغلب البلدان العربية.
نقرأ إذن تاريخنا المعاصر، ونعيد ترتيب بعض معطياته في ضوء مساعينا الرامية إلى المساهمة في تعميق الحداثة السياسية العربية، وهذا الأمر بالذات يتطلب بناء توضيحين اثنين.

أنفاس عايشت حركة فتح منذ انطلاقها كرصاصة أولي للثورة حتى عام 1993 العديد من الظروف الصعبة ، والمواقف الحرجة التي وجدت ثورتنا عامة نفسها في معمعان التآمر تارة ، ومحاولات الاحتواء والتصفية تارة أخرى ، ورغم كل هذه الأحداث استطاعت حركة فتح أن تنهض ، وتنهض معها ثورتنا بقوة وعنفوان ، حتى وصلت فتح إلي أتفاق أوسلو وعادت قواتها ورئيسها الشهيد ياسر عرفات إلي الأرض الفلسطينية ولحق بركبها القوي الفلسطينية التي أدعت إنها قوي معارضة ، ورغم كل الإسقاطات التي حدثت لفتح داخلياً وخارجياً ، كان أشدها انشقاق " فتح الانتفاضة " وبعض الانشقاقات الأخرى التي قادها صبري البنا وغيره ، إلا أن فتح برئاسة ياسر عرفات استطاعت الحفاظ على وحدتها وتماسكها وبريقها الثوري وإعادة البناء والسيطرة على أطرها التنظيمية ، حتى سقط ياسر عرفات شهيداً في حصاره برام الله ، وجميع الدلائل تشير أن فتح سقطت بسقوط أبو عمار ، حيث انتخب الرئيس أبو مازن في مناخ مبشر لفتح التي توحدت من خلفه ، وأصبح يمثل رئيساً للسلطة الوطنية ، وفاروق القدومي أميناً للسر لحركة فتح ، وبدأت حالة الطلاق الفعلي بينهما ، طلاق لا رجعه به ، غير قابل للتلاقي والتآلف مرة أخرى. أن المدقق في أزمة فتح سيجد أنها تعاني الكثير من المشاكل، إذ تعاني فتح أولاً من مشكلة بنيوية تنظيمية حقيقية، ومن حالة تشرذم داخلي ومن صراعات وصلت حد الاغتيالات والتصفيات؟ ومنذ سنة 1989 لم تنجح فتح في عقد مؤتمرها العام، وشهدت انتخاباتها الداخلية وانتخابات اختيار من يمثلها في المجلس التشريعي (البرايمرز) ممارسات لا تليق بحركة عريقة مثلها. وكان الكثير من عناصرها يشكون من تفرُّد ودكتاتورية رئيسها الراحل ياسر عرفات، لكن الوضع زاد سوءاً بعد وفاته..وتعاني فتح ثانياً من تآكل رصيدها النضالي، إذ أن فتح التي نشأت لتحرير الأرض غرب الضفة الغربية (الأرض المحتلة 1948) تنازلت عن هذا الهدف، فقد قامت قيادتها (التي تقود م. ت. ف) بالاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود على 77% من أرض فلسطين، وأعلنت نبذ الإرهاب ووقّعت على اتفاق أوسلو وقادت تيار التسوية، واضطرت لقمع حركات المقاومة إيفاءً بالتزاماتها تجاه إسرائيل. وظهرت فيها مجموعات ورموز على علاقات سياسية واقتصادية وأمنية بالإسرائيليين...ومع غياب الرئيس عرفات وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية دخلت حركة "فتح" المرحلة الأخيرة التي شهدت انتهاءها تنظيماً موجوداً ذا رؤية سياسية وفكرية موحدة ومتماسكة وفكرة أو مفهوم جبهة التحرير الجزائرية أي الجبهة التي تجمع اتجاهات ومشارب سياسية فكرية مختلفة عفا عليها الزمن، فضلاً عن رحيل الرجل الذي مثل الخيمة أو العباءة التي تجمع تحتها كل الاختلافات والتباينات. ولم يتم العمل بشكل جدي لإعادة بناء تنظيم حركة "فتح" وفق أسس وطنية وديموقراطية شفافة ونزيهة وسليمة، بل على العكس جرى اختطاف التنظيم والهيمنة عليه من المجموعة نفسها التي حاولت الانقلاب على الرئيس عرفات، وهي اليوم تنقلب على حكومة الشعب الفلسطيني وعلى خياراته الحرة والديموقراطية وتتواطأ حتى مع الأجنبي والعدو من أجل تشديد الحصار وقطع المساعدات والمعونات عن الشعب الفلسطيني.

أنفاستمرعلينا الذكرى الأربعون لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وشعبنا تعصف به حالة من الانقسام والتشرذم لم يشهد لها مثيلا منذ انتصاب الكيان الصهيوني.
المؤسس:
الدكتور جورج حبش: مناضل فلسطيني كرّس حياته للعمل الدؤوب والمتواصل من أجل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومستقبل أفضل للأمة العربية. طبيباً تحول إلى طريق النضال ليعالج جراح شعبه ويعيش هموم أمته، مؤمناً بالهوية العربية وبحتمية الانتصار وهزيمة المشروع الصهيوني على الأرض العربية.
عندما بدأت الاتصالات السرية بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل بإشراف ورعاية أمريكية بعد مؤتمر مدريد عام 1991 ونتج عنها اتفاق أوسلو عام 1993عارض الدكتور حبش بشدة تلك الاتفاقيات التي أدت إلى إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في مرحلة لاحقة، إيماناً منه أن هذه الاتفاقيات لم تلب الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة فوق تراب فلسطين وعودة اللاجئين إلى وطنهم.بعد قيام "السلطة الفلسطينية" وعودة الكثير من القيادات الفلسطينية إلى أراضي السلطة الفلسطينية، ربط الدكتور حبش عودته إلى تلك المناطق بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين، رغم المناشدات والرسائل الكثيرة التي وجهت له، رافضاً التخلي عن اللاجئين.لقد مثل هذا القائد عشقه للوطن والثورة في سياق رده على مناقشة أتفاق السلام مع العدو الذي قال عنه الشهيد ياسر عرفات "إن هذا الاتفاق هو الممكن" فرد عليه حبش "إن الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن".
 من اقواله: "تستطيع طائرات العدو أن تقصف مدننا ومخيماتنا وتقتل الاطفال والشيوخ والنساء ولكن لا تستطيع قتل إرادة القتال فينا".
"لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه".
"أنا مسيحي الديانة ، اسلامي التربية، اشتراكي الفكر".
"لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلى عنها".
الاستقالة : عام 2000 قدم استقالته من منصب الأمين العام للجبهة في المؤتمر السادس، فاتحاً بذلك فرصة لرفاق آخرين، معطياً بذلك المثل والنموذج للتخلي الطوعي عن المسؤولية الأولى، رغم تزامن هذه الاستقالة مع عدم رضاه على بعض المواقف السياسية التي اتخذتها الهيئات القيادية للجبهة آنذاك, وبذلك يكون قد حرص على تنفيذ قاعدة لم نعهدها في التاريخ العربي والتي تقول بانه لا يجوز للقيادات ان تبقي في مواقعها الي أن "يأخذ الله امانته" منها فأعطى جورج حبش مثالا حيا علي هذا المفهوم.

أنفاسأمامي التقرير الربعي الأول للحكومة الفلسطينية الثانية عشرة، التي يرأسها د. سلام فياض، وهو تقرير يتحدث حسب العنوان عن الإنجازات، التي حققتها الحكومة في الفترة الممتدة من السادس عشر من حزيران وحتى الرابع عشر من تشرين أول من هذا العام.
لم أقرأ التقرير بعد، وهذا تقصير أعترف به، مع أن عناوين فصوله  أو أجزائه الأربعة تغري المعنيين بمتابعة الشأن الحكومي وسياسة هذه الحكومة بقراءته. كنت أفضل أن أبدأ بقراءة هذا التقرير والتعليق عليه، لأقف على أرضية صلبة في مناقشة ما يدور في الأروقة حول هذه الحكومة، هل نقلق عليها أم نقلق منها ومن سياستها، لنتصرف في ضوء أي من القلقين.
القلق وارد بالتأكيد، ومن منا لا تدفعه الأوضاع، التي نمر بها إلى القلق، أو حتى بعض الممارسات الحكومية، وخاصةً ما يتصل منها بالشأن الأمني وما يتصل منها كذلك بإرساء أسس ودعائم نظام سياسي ديمقراطي يحترم بحزم التعددية السياسية والحزبية والحريات العامة والديمقراطية والحقوق الأساسية للمواطن وللقوى ومنظمات المجتمع المدني، بما فيها الحق في حرية الرأي والتعبير والتظاهر والمسيرات والاحتجاجات السلمية. وإلى أن أقرأ التقرير الربعي الأول للحكومة الثانية عشرة، فإنني أحتفظ بالحق في مناقشة القلق من السياسة الاجتماعية – الاقتصادية لهذه الحكومة، رغم أنني أقدر الظروف الصعبة التي نمر بها والإرث الثقيل،الذي جاءت هذه الحكومة تحمله على أكتافها بفعل سياسة الحصار والإغلاق وتجفيف الموارد، التي مارستها الإدارة الأمريكية وحكومة إسرائيل بشكل خاص، بما في ذلك السطو اللصوصي على أموال الضرائب الفلسطينية غير المباشرة، ومارسها المجتمع الدولي بشكل عام ضد الشعب الفلسطيني، على امتداد أكثر من عام ونصف، بعد انتخابات المجلس التشريعي التي جرت مطلع العام 2006.
القلق وارد بكل تأكيد، ولكنه غير القلق، الذي يملأ الدنيا ضجيجاً انطلاقاً من اعتبارات فئوية خالصة، واستناداً إلى معايير سياسية فجة وغير مقبولة، كالقول مثلاً، هناك قلق من هذه الحكومة، هل هي حليف راسخ لفتح أم بديل وهمي عنها. المبالغة هنا واضحة، والتعبير عن القلق بهذه الطريقة وهذا الأسلوب يختصر النظام السياسي بحزب واحد، وينزع إلى التعامل مع الوطن كما لو كان مزرعة بملكية خاصة لا تقبل حتى أن تكون ملكية مختلطة. لم يطرح القلق من هذه الحكومة أو القلق على هذه الحكومة استناداً إلى مقاييس ومعايير وطنية شاملة، كقربها مثلاً من منظمة التحرير الفلسطينية ومدى التزامها ببرنامجها وسياستها وتوجهاتها العامة، بل انطلاقاً من حشرها في زاوية الولاء للحركة، التي لا يختلف اثنان على مكانتها ودورها في ساحة العمل الوطنية.

أنفاس تمر علينا الذكرى العشرون لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الاولى..انتفاضة"اطفال الحجارة" وشعبنا الفلسطيني يمر بمرحلة من الانقسام والعداء والتشرذم لم يشهد لها مثيلا منذ انتصاب الكيان الصهيوني.
الانتفاضة لغة: هي التحرك فقط، فقد جاء في المعاجم العربية: نفضت الثوب والشجر إذا حركته لينتفض. وكذلك، انتفض الشيء: تحرك واضطرب، وهذا يعني أن الانتفاضة، وهي مصدر المرة والهيئة من فعل انتفض، هي حركة واضطراب.
وأما اصطلاحاً: فهي ذلك التحرك الشّعبي الهائل، الذي انطلق في 8 كانون اول/ديسمبر 1987، وامتد عبر كل أرض فلسطين، لمواجهة القوة الصهيونية المسلحة. بل هي الثورة الجماهيرية، التي تعد فريدة في بابها وسلاحها.
وقد جاء في أسباب اندلاع الانتفاضة، أن الشعب الفلسطيني، الواقع تحت الاحتلال الصهيوني، عندما وصل درجة بالغة من الإحباط واليأس، اندفعت انتفاضة شعبية عارمة، بدأت في ديسمبر 1987؛ وفيها جابه الشباب والأطفال، العدو الإسرائيلي المدجج بأحدث الأسلحة، وهو مجردون من أي سلاح إلاّ إيمانهم بالله، وبعدالة قضيتهم، والحجارة، غير عابئين بالنتائج، التي يمكن أن تسفر عنها هذه المجابهة الحتمية، وهي القتل، والتمثيل، والإصابات والاعتقالات، والتعذيب، وهدم البيوت، وقطع الأرزاق، والطرد من البلاد. ومن هنا أُطلق على عناصر هذه الانتفاضة، مصطلح "أطفال الحجارة".
وقد استمرت الانتفاضة زمناً طويلاً، حتى فرض المصطلح نفسه على الساحة السياسية، ودخل ميدان الصحافة العربية، والصحافة الأجنبية، بلفظة العربي، وكذلك دخل الموسوعات الأجنبية، وفرض نفسه، أيضاً، على المحللين والمؤلفين في الوسط الإسرائيلي، فألف الصحفيان زئيف شيف، وإيهود يعاري، كتاباً عنها، كان عنوانه  Intifada
مثلت الانتفاضات الفلسطينية معلماً أساسياً من معالم التحول النضالي والكفاحي لشعوب العالم ضد الاحتلال والاستعمار، والتي كانت ذروتها باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى في ديسمبر 1987، والتي قدمت صورة حقيقية لواقع الاحتلال وإجرامه وممارساته اللاإنسانية ووفرت للقضية الفلسطينية ولأول مرة محضناً شعبياً متكاملاً وموحداً داخل فلسطين المحتلة. وبرغم التطور الذي أصاب هذه الانتفاضة خلال مسيرته طوال ست سنوات متواصلة غير أن حجم الأحداث والتحولات الإقليمية والدولية تسبب بإشكالات عديدة لها ، ناهيك عن الخلاف الفلسطيني حول طبيعة التحولات المطلوبة لتحقيق أهدافها بالتحرر والاستقلال بين الاستثمار السياسي غير الناضج الذي تبنته حركة فتح وتوسيع دائرتها ودعمها بخط المقاومة المسلحة الذي تبنته حركة حماس وفرضته مع بواكير العام 1992 بانطلاقة جناحها العسكري تحت اسم " كتائب القسام".

أنفاسفلسطينيو الاحتلال الأول هي التسمية الأدق لفلسطينيي الداخل او فلسطينيي عام 1948 وهناك الكثير من التسميات...!
لقد بات واضحا للقاصي والداني ان الفشل سيكون مكتوبا لمؤتمر الشؤم"انابوليس" رغم ان المطالب الفلسطينية غير تعجيزية, بل على العكس لا تلبي السقف الأدنى من حقوقنا الوطنية في فلسطين التاريخية.وهل يمكن طرح السؤال التالي: هل سئم الأميركيون من أزمة الشرق الأوسط؟ السؤال قد لا يلقى هوى لدى أولئك الذين يعتبرون أن استمرار الأزمة هكذا لنحو ستة عقود هي، بصورة أو بأخرى، ضرورة استراتيجية لأن الصراعات الاقليمية جزء لا يتجزأ من المفهوم الفلسفي للإمبراطوريات، حتى أن الرئيس ''رونالد ريجان'' تبنى نظرية ''حرائق الغابات'' التي تعني تصنيع حروب تحت السيطرة ولأغراض جراحية محددة. هذه المرة يعقد المؤتمر الدولي في ''أنابوليس'' لا في مدريد، ولا في اسطنبول، ولا في لندن، أي على المسرح الأميركي، وبرعاية أميركية، وبقناعة أميركية بضرورة إقفال الملف -الأساس، أي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي-، وإن قال ''ايهود اولمرت'': إن معاهدة للسلام بعيدة جداً جداً.
لقد اصبح من الدارج بين اوساط كثيرة من اكاديميي ومثقفي وسياسيي مدرسة التطبيع والتعايش مع الكيان الصهيوني، والتي روّجت نخبتها ثقافة السوق خلال السنوات الأخيرة، التطرق بشكل لفظي ومختصر الى النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني جرّاء وقوع وطنه تحت الاستعمار الصهيوني عام 1948 ثم الانتقال دفعة واحدة، وبشكل غريب ومنافٍ لمنطق التحليل العلمي الملتزم، الى التعامل مع نتائج هذا الإستعمار من خلال التسليم المسبق بشرعية وحق وجود دولة الكيان الصهيوني ثم الابتعاد تدريجياً عن بديهية كونها كيان استعماري عنصري لاجلائي أقيم اساساً كرأس حربة للإمبريالية الغربية في موقع القلب من الوطن العربي. وهكذا ينحصر الاجتهاد الفكري والعمل السياسي النخبوي في محاولة التعايش مع هذا الواقع من خلال المبالغة المبتذلة في التركيز على خصوصية فلسطينيي 1948، ليصبح العمق القومي لقضيتهم شعارات جوفاء يتم التشدق بها كغطاء رمزي فقط لمشروع تعايش انهزامي، عموده الفقري حقوق مواطنين في دولة من المفترض ان تكون ليبرالية وديمقراطية. بكلمات أكثر صراحة، بإمكاننا تشخيص حالة الخيانة الفكرية هذه في الانطلاق من تحديد واقع استعماري غير شرعي مفروض على الأرض العربية وأصحابها الأصليين ثم الانتهاء الى المساهمة في شرعنة هذا الواقع تحت حجج براغماتية هزيلة.
بامكاننا تحديد ثلاث ابعاد او مستويات، متداخلة ومكملة لبعضها البعض في اي محاولة لتحليل وفهم واقع فلسطينيي الداخل، ترتكز كل منها على بديهية او حقيقة تاريخية واضحة لا يمكن تجاهلها او تغييبها من التحليل طالما ان الحالة المصطنعة الناجمة عنها ما زالت قائمة. أولاً، هنالك العلاقة الجدلية بين دور فلسطينيي الداخل في النضال الوطني العام وبين حقوق الناس المطلبية اليومية في ظل الظروف الموضوعية.

أنفاس"كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومن البدء حتى النهاية لم تكن ممتلكاتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم". المؤرخ البريطاني ج.هـويلز "موجز التاريخ".
صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29/11/1947، على مشروع القرار 181، والذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وتدويل القدس. صدر القرار نتيجة الجهود المكثفة التي بذلتها الصهيونية العالمية، مدعومة بالقوى الاستعمارية الكبــرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وشملت هذه الجهود الضغوط السياسية والاقتصادية على أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والرشاوى المادية التي قدمت لهذه الدول ورؤساء وفودها، كما ورد في مذكرات الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان.
منح القرار اليهود الذين كانوا يبلغون في ذلك الوقت (608225) شخصاً الأراضي الخصبة في منطقة السهل الساحلي الفلسطيني والمدن الساحلية الهامة، حيفا، عكا، يافا، ومناطق الأغوار الشمالية التي تعد خزان المياه الطبيعية للأراضي الفلسطينية (بحيرة طبــريا ـ روافد نهر الأردن)، إضافة إلى مناطق النقب، والمنافذ البحرية على البحر الميت والبحر الأحمر.
وبالنسبة للفلسطينيين الذين بلغ عددهم آنذاك (1227274) نسمة، يملكون 86% من أراضي وعقارات فلسطين، فقد خصص لهم بموجب القرار مناطق في الجليل والمثلث وما بات يعرف اليوم بالضفة الفلسطينية إضافة إلى مدينتي بئر السبع واللد، وقطاع غزة وجزء من صحراء النقب.
القرار رفضه اليهود، بالرغم من انحيازه الواضح تجاههم، وفور صدور القرار، باشرت العصابات الصهيونية بتنفيذ الخطة القاضية بتهجير السكان الفلسطينيين من القسم اليهودي الذي نص عليه القرار 181، والذين كانوا يشكلون أكثر من نصف سكان هذا القسم، ويمتلكون أكثر من ثلثي الأراضي والعقارات، فارتكبت العصابات الصهيونية ـ التي تشكلت من عناصر محترفة قاتلت في صفوف الجيوش الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، وتأمن لها تسليح جيد ـ مجازر رهيبة بحق الفلسطينيين بغية دفعهم إلى الهجرة وترك أراضيهم في القسم اليهودي، وتحديداً من المدن والمناطق الساحلية، وهو ما أدى إلى نشوء قضية اللاجئين واضطر مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى ترك أراضيهم وممتلكاتهم واللجوء إلى الأقطار العربية المجاورة، وإلى المدن والبلدات الفلسطينية الأخرى.ونتيجة لسياسة الكيل بمكيالين، التي استخدمتها الأمم المتحدة والدول الكبــرى في ذلك الوقت، حرم الفلسطينيون من كيانهم/ دولتهم، والتي نص عليها القرار 181، بحيث عطل الشق الثاني من القرار الذي نص على استقلال الدولة العربية ووضع دستور لها. واستمرت إسرائيل نتيجة لذلك بنهب الأراضي العربية وتهجير سكانها، لتستكمل احتلالها لكل الأراضي الفلسطينية وأجزاء من الدول العربية المحيطة في عدوان 5 حزيران عام 1967..!