ثمنُ الحرية البخس ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

0365301001188409870بين فضاءين يحيطهما الإسمنت من كل جانب رأى روحَه تترسب بعيداً في مجاهل جسده  الذي لم يعد كما عهده من قبل،وعندما تحرك الباص مبتدئا رحلته اليومية كانت المرآة الكبيرة التي يضعها السائق لرؤية ما يقع خلفه تتيح له أن يرى وجهه من فوق كتف السائق، نظر ملياً إلى كفه المعروقة بشكل لم يلحظه من قبل ثم انتقل بعينه إلى فوده الأيسر الماثل في المرآة  ، شاهد تلك الشعرات الدقيقة الملتوية ذات اللون الأبيض التي انتشرت بشكل ملفت متخللة اللون الأسود وود لو لم يفسح ذلك السواد مكانا للبياض الذي ينبئ بشيخوخة مبكرة و إن الوقت يتقدمه كثيراً و عليه أن  يحاول ما استطاع تفهمَ وقبولَ ما يجري لروحه التي بدت مثل لُقيةٍ ملقاة في قعرٍ سحيقٍ .


ود في تلك اللحظة أن يبكي بكاءً مراً فقد كانت الأحلام مجرد وهم أحسنوا صنعه والآن لا شيء من تلك الأحلام غير شعور بالإحباط والأسف وعندما تلفت حوله رأى الجميع في الباص الكبير( علامة فورد)  منهمكين بإزاحة ما التصق بوجوههم من خيوط البؤس والقنوط وهم يختفون وراء ضحكات مبتسرة و أحاديثَ لا تتعلق بهم  فكتم رغبته واكتفى بالوجوم ، بدا كلُ شيءٍ مستقراُ في مكانه لا يتزحزح في كيانه المدجّن على مواصلة هذه الرحلة التي يمارسها يوميا  كفعل ميّت في حيّز روحه من لحظة ركوبه الباص حتى دخوله بوابة هذا القفص الكونكريتي الضخم حيث يزاول عمله ، جلس إلى الطاولة التي تشاركه انقباض صدره منذ تدرب على مجارات هذا الانقباض من أجل طفلته و لأول مرة عند انطفاء تيار الكهرباء أحس بالاختناق رغم إن ذلك حدث كثيرا لكن روحه لم تتضاءل لهذا الحد من قبل ، أراد الفرار بيدَ إن أسوارَ البناية المحروسة جيدا بعربتي (همفري) و بالنظام والمدراء ورغيف العائلة الذي يوفرهُ ببيع روحه لهذا الكونكريت المتعالي لحد إشعاره بالعجز، هذه الأسوار التي تعمد إلى وأد رغبته تلك ،شعر هذه المرة أن روحه أللائبة قد بلغت التراقي، خارت قواه ولم يقاوم رغبته بالفرار بما تبقى له من هواء خارج البناية التي دأبت على تلفيق قناعته بوجوده بين جدرانها ، تقدم بقدم ثابتة ولكن بعينين زائغتين نحو رب عمله:             
ـ أستاذ هلاّ سمحتَ لي بالذهاب إلى البيت؟ ، هناك ظرف استثنائي يخص عائلتي !     
لم يمانع الرجل لكنه شك أنه مريض وإن ظرفه الذي تكلم عنه ليس بعيدا عما يعانيه الجميع هذه الأيام ،وخلال المسافة التي تفصل بوابة مفوضية شؤون سجناء الاحتلال التي يعمل موظفاً فيها عن البوابة الخارجية لسياج  الكتل الكونكريتية العملاقة تسرب خيط من الشعور بالذنب لعدم تمكنه من مواصلة تمشية الملفات الكثيرة للسجناء التي تنتظر الحسم منذ زمن طويل وحين اخترق الحاجز الأخير من الإسمنت شاهدَ أهاليَ السجناء آباءً و أمهاتٍ وزوجاتٍ شاباتٍ وأطفالاً ينتظرون مناداتهم من خلال النافذة الصغيرة المعدة لهذا الغرض، زاد شعوره بالأسى وتفاقم ولم ينقذه من شراسة هذا الشعور غير تلك الجلبة والزحام على شيء ما غيرَ بعيدٍ عن البوابة ، غلبه الفضول فراح يخطو نحو تلك الجلبة ، وسّع له المزدحمون المكان وانشقوا كما انشق البحر لقوم موسى حين هروبهم من فرعون فاستغرب هذا التصرف منهم ولكنه حين رأى بطاقة التعريف الحكومية التي لازالت تتدلى من عنقه  كفّ استغرابه وحمد لها هذا الصنيع وانحسرَ بحرهم المتلاطم عن رجلٍ وابنه  يذودان عن قفصٍ من الأسلاك المتينة بعيون صغيرة وقد امتلأ  بعصافير الحقل العادية الوجلَة ، تقدم إلى الرجل مستفسراً ، قال:              ـ فكُّ رقبة! يا سيدي ، إطلاق سراح عصفور  بألف دينار  لعل الله ينظر بعين رعايته للسجين ويطلق سراحه ، إنه رزقنا يا سيدي إننا لا نفعل ما يخالف القانون ، صاحت امرأة وهي تلوّح بورقتين من فئة الألف أعطني عصفورين لأطلقهما لوجه الله فأنا أم لسجينين عند الأمريكان، صاحت الأخرى ، عندي ثلاثة ، أخرج ورقة من فئة الألف قائلا أعطني واحداً لأطلقه لروحي ، أخذ العصفور الذي كان يزعق بفزع وأطلقه،تابعه وهو يطير نحو فضاء عميق الزرقة غير مصدقٍ بحريةٍ كانت قبل قليل ضرباً من الأحلام لعصفورٍ يائس، أحس براحة لم يألفها وهو يعي أنه قد حرر عصفورا للتو من سجن يُطبق عليه ، فكر أن العصفور ربما انتابه الشعور ذاته الذي شعر به عندما كانت تُطبق عليه جدران الإسمنت وتخنق روحه ، راقب العصفور و قد انطلق في فضاء لا نهاية له ساحباً خيطا من روحه نحو ذلك الفضاء الكبير لكنه ليس كالعصفور سيعود بقدميه لقفصه الكونكريتي غدا بمجرد أن ينظر لعيني طفلته الصغيرة ، يحصل نهاية كل شهر على رزمة من الأوراق النقدية مقابل هذه الروح التي تدخل إلى سجنها على مضض وتساءل هل تقبض الروح ثمن سجنها ؟                                
في اليوم التالي تعمد النزول في البوابة الخارجية متعللا بعذر ، اتجه إلى حيث بكّــر بائع العصافير  قال له:
ـ من أين تأتي بكل هذه العصافير ، وكيف فكرت بهذا الأمر ، الحق إنه عملٌ رائجٌ  ، من منهم لا يشتري عصفورا ويطلقه من أجل فأل حسن لسجين حبيب؟
كان الرجل بائع العصافير يعتمر قبعة أمريكية من مخلفات مواقع الاحتلال التي ينتقلون منها لمكان آخر سيتركونه يوما  مخلفين ورائهم أنقاضاً  وفوضى، رفع قبعته كما يفعل الكاوبوي في الأفلام  وقال:
ـ أوه يا سيدي أنا لا أملأ قفصي بالعصافير بسهولة ، أنا أنفق الكثير لكي آتي بها إلى هنا  و أنت تعلم إن العصفور صار أكثر حذرا من ذي قبل ، ولكن الحاجة إلى الطعام أقوى من الحذر إنها أرزاق يا سيدي إن للحرية ثمنها ، لاشيء دون مقابل.
ـ ربما ..ربما هي العصافير ذاتها التي يطلقونها  تعود لقفصك مرة أخرى
ـ  ربما يا سيدي فالقمح والشوفان  يغري العصفور والعصفور يفقد ذاكرته عند الجوع 
ـ إذن هل يقبض العصفور ثمن سجنه شوفاناً و دُخناً ، ما أبخسه من ثمن ؟!
سمع الرجل الجملة الأخيرة ورأى إنها مقبولة لتمشية أموره.
ـ ماذا تقول يا سيدي ... ها .. لم أفهم؟
ـ لا عليك  أنا أكلم نفسي ، هاك الألف وأعطني واحدا ،  تناول العصفور أطلقه نحو الفضاء أحس براحة وشعور بالغبطة وهو يحرر العصفور ثم واصل طريقه نحو البناية الكونكريتية وصوت الرجل بائع العصافير  يتناهى إلى سمعه :
ـ يا بلاش فك رقبة بألف فقط  حرر عصفور لعل الله يحرر ذويك من سجنهم ، يا بلاش الحرية بثمن بخس  حرر عصفور يحرر الله  أحبابك
وعندما دلف إلى جوف البناية الكونكريتية  انقطع صوت بائع العصافير، جلس إلى طاولته راح يقلب أوراق الملف الأول ، ذهل حين قرأ اسم السجين (علي حسين مهدي) فقد كانت حروفه الأولى  ذات حروف اسمه ( عمر حامد مصطفى).

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟