تفاصيل حدث لم يقع بعدـ قصة : هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Blue Abstractعدت للبيت في وقت متأخر بعض الشيء، وإن لم يكن هذا من عادتي، كنت منهكا بشكل لا يطاق جراء العمل المتواصل والذي يزرع فيّ شهوة النوم بعمق ، خاصة وأنه كان لي استعداد للقيام بذلك بطريقة سهلة وسريعة رغم خصامي والنوم منذ مدة طويلة جدا، لم أكن أريد القيام بأي شيء آخر سوى وضع رأسي على المخدة والغرق في عالم السبات المؤقت، لا اعلم لماذا تذكرت فيلم the machinist ربما كان أول ملاذ لي وأنا في داخل دائرة الحاجة للنوم، المهم وبينما كنت على وشك تحقيق هذه الرغبة التي لا يمكن أن تستوي وشيء آخر إبان هاته اللحظة، التقطت مسامعي أصواتا كنت قد اعتدت عليها كل ليلة، بل وتعايشت معها لدرجة أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتي اليومية في هذه الشقة .

بيد أني لم أكن على استعداد لسماعها في هذه الوقت بالذات ما دامت ستبعد عني النوم وتجنبني متعة الإحساس بهذه اللذة الجميلة، صحيح لا أعرف مصدر هذا الصوت ولا أصحابه ولا أسبابه الرئيسية، لكن كل ما أعرف هو أنه عبارة عن تبادل للشتم والصراخ المتواصل المنتهي دائما بعويل وبكاء، وشتائم بذيئة يعقبها بعدئذ صوت إغلاق الباب بقوة ثم ينتهي هذا المشهد الروتيني بصوت محرك سيارة وسرعة تترك وراءها غبارا يسير في الاندثار والزوال شيئا فشيئا، ومعه أيضا ينخفض صوت البكاء رويدا إلى أن يعود الصمت مرة أخرى فأسير صوب السرير بعدئذ، يحدث هذا المشهد كل يوم تقريبا، أبطاله أحد الجيران طبعا، على الأرجح رجل وزوجته، كل الجيران يحسون بالتذمر جراء ما يسمعونه من ضجيج، صحيح أنه لم يكلمني أحد في هذا الأمر لكنه مجرد استنتاج ليس إلا. أما في هذا الليل فقد ازدادت شدة الصراخ أكبر من المرات السابقة. عويل متواصل وأصوات شجار مرتفع وبكاء لم ينته بإغلاق الباب بتلك القوة المعهودة إيذانا بانتهاء المشهد، بقدر ما ازداد أكثر من الأسبق حيث أعقبه حينئذ صوت تكسير الأواني بالغا ذروته التي أدركها لأول مرة بهاته الوطأة وهذا العنفوان البليد، كان هذا الليل أسوا  من كل الليالي التي قبله لدرجة حاولت معها الاتصال بالشرطة للتدخل ووضع حد لهذا الأمر الذي ما إن ينتهي حتى يبدأ من جديد بل بشدة أكبر من سابقه، فكرت هنيهة في اتخاذ القرار الأنجع فلم أجد بديلا من الاتصال بالشرطة وإلا تطورت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه...
 أخيرا اتخذت القرار بالاتصال بهم، وبينما امتدت يدي لحمل سماعة الهاتف فاجأني صوت قرع جرس الشقة، والذي ما إن انتبهت له حتى حدجتني في هلوسة جراء التعب ونقص في ساعات النوم، بيد أن عودته مرة أخرى طردت عني هذا التخمين وجعلتني أتيقن بأنه ليس محض هلوسة ... أعدت سماعة الهاتف لموضعها ثم اتجهت صوب الباب أفتحه وإن كنت مترددا بعض الشيء، بل وملتبس أمري حول حقيقة صاحب قرع الجرس، وضعت عيني في العدسة السحرية للباب بغية معرفة من يقف خلفه فلم أجد أحدا، شعرت ببعض الالتباس ثم أدرت المزلاج بحذر فإذا بصوت الشجار والصراخ يزداد ومعه وجدتني أمام صبيين صغيرين أعتقد أني لم أرهما من قبل ، فتاة تبدو في الثانية عشر من عمرها، وبجانبها طفل أصغر منها بكثير، دققت النظر في وجوهما علني أتذكر من ملامحهما شيئا فلم أعثر على حقيقة من ذلك، لكن ما الداعي من هاته الزيارة في وقت متأخر كهذا، حدقت فيهما مطولا دون أن أنبس ببنت شفة، كانت الفتاة تنظر لي تارة وإلى الذي بجانبها تارة أخرى، في حين أن الصغير كان يميل برأسه وعينيه مسلطتان نحو عمق الشقة يحاول بكل فضول التعرف على شيء ما، أردت أن أضع حدا لهذا الحوار الصامت حينما هممت بالكلام، بيد أن الصغيرة ابتدرتني بأدب مبالغ فيه قائلة:
    ــ مرحبا عمي، معذرة عن الإزعاج لكنني بحاجة للتكلم معك...
صمتت فجأة... فألفيتني أحدق فيها دلالة الإكمال، أما الطفل الصغير الذي بجانبها فقد بقي وفيا لفضوله يحرك رأسه هنا وهناك عله يشفي ضالته، لكن شيئا أثارني فيه هو بقايا دموع رسمت على خذيه خطا ينتهي عند أسفل وجهه.
ــ على الأرجح بقي يبكي مدة طويلة فاختلطت الأوساخ بدموعه...
قلت في نفسي، ثم أعدت بصري صوب الفتاة قائلا:
    ــ نعم على الرحب والسعة، لكني لا أعرفك، ولم يسبق لي أن رأيتك...
رفعت الفتاة رأسها نحوي على طريقة الممثلين الكبار فكان هذا كافيا أن يفعل الصبي نفس الشيء منتقلا ببصره تارة نحوي، وتارة نحو الصبية التي برفقته، وأخرى نحو داخل الشقة، فطنت الصغيرة لقصدي فابتدرتني بالكلام مرة أخرى قائلة، وإن بصوت منكسر بعض الشيء:
    ــ نسيت أن أخبرك، أو بالأحرى أن أعرفك نفسي: اسمي أمنية وهذا أخي الصغير اسمه صفوان، ربما لا تعرفني بطبيعة الحال، أما أنا فأعرفك كثيرا، بل إن الحي بأكمله يعرفك ويعرف أنك كاتب شهير.
ابتسمت دلالة الرضى ثم استفسرتها قائلا:
    ــ آه هذا جيد، يعني إذن أنك تسكنين على مقربة من هنا؟
طأطأت رأسها دلالة الإيجاب ثم قالت بانكسار أكثر من الأول:
    ــ أنا لا أسكن قريبا من هنا وقط، بل إني جارتك.
صمتت هنيهة ثم أردفت بخجل وهمس لم أدري الغرض منه:
ــ وأسكن في الشقة التي توجد أسفل شقتك.
ثم أشارت بيدها أسفل الدرج، مما جعل شقيقها ينتبه لذلك حيث عكف عن فضوله وتوجه لي بالكلام مباشرة:
    ــ هل تعلم أن الصراخ الذي تسمعه ويسمعه الجميع أنه قادم من بيتنا وسببه...
قاطعته شقيقته لاكزة إياه على خصره محاولة استدراك ما قاله:
    ــ لا عليك يا عم، نحن آسفان في كل من الأحوال إن طرقنا بابك في مثل هذا الوقت غير المناسب.
ثم همت بالمغادرة آمرة شقيقها الذي كان قد عاد لفضوله الأول، لكني استوقفتهما وأومأت لهما بالدخول، أغلقت الباب برفق وبينما أردتني أن أشير لهما بالجلوس على إحدى الأرائك رمقت الصغير يحرك وجهه يمنة ويسرة.
ــ  على الأقل تمكن من إشباع فضوله.
قلت ذلك في نفسي، في حين أن الصغيرة فطنت قصدي حيث أشارت بيدها للصغير كي يجلس على مقربة منها، صمتنا برهة ثم ابتدرتهما قائلا وبكل لباقة:
    ــ ماذا يشرب الصغيران؟
    ــ نحن جائعان يا عم.
قالها صفوان دون تردد مبتسما بطريقة عفوية، في حين أن شقيقته احمرت وجنتيها، بل إني رأيتها تتوعده وإن توعدها هذا لا يخلو من تلقائية هو الآخر. ابتسمت لهما ثم خاطبت الصغير بصوت مرح:
    حسنا يا صفوان ستأكل حتى تشبع...
وضعت أمنية يديها على رأسه ثم قالت:
    ــ لك منا كل الشكر يا عمي.
ثم فجأة جحظت عيناها، وعظت على شفتيها دلالة الإحساس بالخجل، استغربت للأمر بداية لكن ما إن أدرت وجهي ناحية زاوية توترها حتى فطنت السبب: لوحة كبيرة لامرأة عارية وبلامح متحدية تنظر إلى كل من يدقق التحديق فيها، ابتسمت قليلا عندما تعرفت على سبب توترها هذا، ثم توجهت للمطبخ وأنا في ريب من أمري، ربما ما كان علي إدخالهما للبيت، قد يكون والداهما يبحثان عنهما الآن، أو ربما فعلت خيرا في إبعادهما عن ذلك الجو المتوتر، ثم استمرت تخميناتي عندما كان الليل يزداد سكونه فيزداد معه الإحساس بحلاوة النوم، توجهت بعد ذلك صوب الشرفة كي أدخن قليلا وأستمتع بهدوء هذا السكون الذي قلما أعيشه هنا، كان كل شيء جميلا وبهيا تزيده جمالا وبهاء زخات مطر خفيف عندما تصل للأرض، محدثة صوتا أشبه بصوت المقاطع الحماسية في استعراض عسكري. فجأة رمقت عيني شبحين خلف ستار إحدى النوافذ متعانقان لا يتحرك منهما إلا الرأسين والأيادي... أنهيت سيجارتي بسرعة ثم عدت للمطبخ، غسلت يداي مستأنفا ما كنت أقوم بصدد تحضيره، فور انتهائي ناديت عليهما للجلوس على مائدة الأكل، كان إحساسي بالإرهاق يزداد شيئا فشيئا، فطنت الفتاة للأمر في حين أن الصبي لم يعد يدرك شيئا غير الأكل، التقت عيوننا فجأة نحن الثلاثة، ابتسمنا بكل عفوية في نفس الوقت وكأننا نؤدي مشهدا سينمائيا، ثم أومأت لهما بعدئذ بإتمام الأكل، وبينما كان الصمت سيد المكان والزمان عاد صوت الشجار مرة أخرى مفتضا هذا الشعور، بل بقوة أكبر من ذي قبل، أحست الفتاة بالخجل في حين أن شقيقها توقف عن الأكل بطريقة آلية:
    ــ نحن آسفان يا عم...
قالتها أمنية بطريقة غير مصطنعة، فأجبتها في الحين مستغربا :
    ــ وعلى ماذا تتأسفين؟
أخرجت نفسا عميقا ثم قالت بصوت منكسر:
    ــ والداي سببا لي حرجا كبيرا، يتصارعان أينما وجدا معا، بل على أبسط الأشياء لدرجة لم يعد أحد منهما يهتم بنا، يقوم والدي بضرب أمي طوال الوقت ثم ينصرف بعد ذلك إلى حال سبيله ولا يعود إلا في الساعات الأولى من الصباح.
أحنت رأسها قليلا ثم أردفت بصوت منخفض:
    ــ في الحقيقة لم نعد نحبهما...
وأشارت للصغير الذي يجلس بجانبها ، لم أجد شيئا أقوله لهما للتخفيف مما يعانيانه منه، في نفس الوقت كان الصراخ يزداد أكثر من قبل، أعقبه بعدئذ صوت تكسر زجاج إحدى النوافذ، بقي الصغيران هادئان لا يحركان ساكنا وكأن ما وقع لم يكن سوى هلوسة أصابتني جراء الإرهاق، لدرجة جعلتني أرتاب قليلا في نفسي، عندها رمقت الصبية تنظر لي وهي تبتسم كأنها تذكرني بوجودهما ووجودي كذلك، في المقابل كنت أنتظر منهما الانصراف علني أهنأ بلحظة نوم،، وبينما رفعت رأسي نحو صيدلية البيت الصغيرة بحثا على أقراص النوم، إذا بها تفاجئني قائلة:
    ــ هل تعلم يا عم ما يقال عنك في هذا الحي؟
كان استفسارها هذا مفاجئا أيقظني قليلا من غفوتي المؤقتة، قطبت حاجبي برهة ثم ولكي أدع لها مجالا للبوح أكثر ابتسمت برفق ثم أجبتها قائلا:
    ــ وما الذي يقال عني وأنا لا أعرف أحدا هنا؟
أجابتني في الحين كأنها كانت تنتظر هذا السؤال:
    ــ يقولون أنك ملحد لا تؤمن بوجود الله...
لم أبدي أية ملاحظة بقدر ما أردت أن تشعر بأنه أمر عادي أن أكون ملحدا، حينها قلت ممررا عيني بينها وبين الصغير:
    ــ وما مشكلة ذلك...
    ــ ..........
لم تكن الصبية تنتظر هذا الجواب بتاتا، عندها أردفت قائلا كي أخفف من حدة ما تلفظت به:
    ــ ومن يقول هذا؟
صمتت برهة من الزمن، ثم قالت بصوت منخفض قليلا:
    ــ كل سكان الحي بمن فيهم والداي، يقولون بأنك كاتب وبأن جل ما تكتبه يدور في فلك إثبات عدم وجود خالق لهذا العالم...
كانت الصغيرة تتكلم بطريقة الواثق من نفسه، بدت لي تسبق سنها بكثير، ربما أطربني هذا الأمر، عادة ما تجعل منا الظروف القاسية أشخاصا قادرين على التفكير بطريقة تسبق سننا بكثير، حافظت على هدوئي قائلا:
    ــ لا داعي للخوض في هذا الكلام، انسي الأمر...
بادلتني نفس الهدوء، كان الصغير غاطا في نوم عميق فوق الكرسي الذي جلس عليه قبلئذ وعلامات الانكسار أبت أن تفارقه حتى في نومه كأن هذا الأمر مكتوب عليه للتمتع بتعذيبه، انتبهت الصغيرة لحالته هاته راغبة في إيقاظه، أومأت لها بصمت أن تتركه وشأنه، في حين أني كنت أفكر تارة فيما قالته الصبية وتارة أخرى في رغبتي لمغادرتهما دون أن يزول من ذاكرتي مشهد ذانك الشبحين وهما يتبادلان القبل خلف ستار النافذة، فجأة ازداد الشجار أكثر فأكثر من ذي قبل، ومعه ازداد بكاء وعويل الزوجة، مما جعلني أنتظر بطريقة أوتوماتيكية صوت إغلاق الباب بقوة، وبعده صوت محرك السيارة إيذانا بنهاية المشهد كي يعود الهدوء وكي أنعم بالنوم... لكن كم كانت خيبتي كبيرة عندما لم يحدث شيئا من هذا بقدر ما أن الشجار ازداد قوة وعنفا.
    كان الصبي لازال نائما والفتاة غارقة في أحزانها، أما الشبحين فأعتقد بأنهما وصلا لذروتهما الجنسية وهاهما الآن يغطان في نوم عميق... بقيت أنتظر وأنتظر بصمت، لم يتغير شيء كأن آلة الزمن توقفت في نفس الآن وصل الشجار إلى حد لا يطاق أبدا، كانت الصغيرة ساهمة في اللاشيء أما الطفل فإنه غاب عن الوجود تماما... طال انتظاري أكثر من اللزوم ومعه طال هذا المشهد دون أن يعلن لا الباب انغلاقه بقوة ولا صوت السيارة...   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟