وانغ يو ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse04092الشمس خافتة اللهب، تنسحب ببطء خجول كسول من بين ثنايا الصباح، وكأنها لا تود جرحه أو إيذاءه، لتنطلق في الأفق مترنحة عارية، تتلوى بصورة مغرية على أسطح المنازل المرتفعة وعلى أرصفة الشوارع المفتوحة، وكان الغبار المتطاير بين رموشها المرسلة يظهر وكأنه حبات فضة تتلألأ وهي تتهادى متنقلة من رمش إلى آخر.
صباح مدينتا جميل بكل ما فيه، باندفاعه المفاجئ من قلب العتمة، بتفتح براعمه أمام العين في حياة جديدة تغص بالدفق والحيوية، جميل بأهله السارين لالتقاط لقمة عزيزة من بين أنياب الصخر والنعاس لا يزال يرسم فوق جفونهم خطوطاً زرقاء قاتمة، جميل بمقاهيه المنتشرة على الشوارع لتعطر الأجواء برائحة النراجيل والقهوة على امتداد قلب المدينة كلها.

وأجمل ما فيه، ذاك الأهبل الذي يأتي كل صباح للمقهى ليحتسي عدداً كبيراً من أكواب الشاي والقهوة والإينر على حساب الموجودين، دون أن يتقدم لأحدهم بأي رجاء، أو يبذل أي شكر.
طويل القامة، حتى ليضطر مكلمه أن يعلو بعينيه مع عكف رقبته للأعلى حتى يراه جيدا، يداه طويلتان كأنهما (مطرحتا فرن)، دون أي انسجام مع طول جسده، عيناه حادتان كعيني صقر، ورأسه (مبوز) مندفع كرأس أفعى، أما قدماه، فكانتا أشبه شيء بقارب صغير مبعج الجوانب، تعلوه صفرة منفرة ممزوجة ببقايا طحالب بحرية عالقة نتنة.
ورغم هذا كله، فانه كان ينشر في المقهى جوا خاصا يعبق بروح المتنبي وجرير والأخطل، كان يلقي الشعر وكأنه صاحبه، نبرات صوته، تقطيعه للحروف، تألق عينيه، حركات يديه التمثيلية مع مضمون البيت الشعري، الرعدة التي تنتصب في وسط جبهته فتهز انفه كالأرنب الوجل، وعرق رقبته الذي يتصلب دافعا الجلد للأعلى.
كنا في أحايين كثيرة نخاف عليه، نفيض رعبا من قسمات وجهه المتهيجة المتصونة، فنطلب منه أن يأخذ نفسا ليدخن، أو يسحب أنفاسا متقطعة من النرجيلة، حتى لا نفاجأ بتوقف قلبه أو دماغه عن العمل، وكان العرق ينتشر فوق جسده كجدول صغير، أما عرقه فلم يكن عاديا، بل لزجا، تحس دبقه من نظرة واحدة، ثقيلا مثل بق السجون، وتحس بان له مخالب وحشية تنغرز في الجسد لتورد كل ما هو ظاهر منه.
وحين كان يبدأ بالخروج من حالته، كان يبدو كمن يعود من رحلة طويلة، شاقة وعسيرة، فتبدأ انتفاضة أطرافه بالخفوت التدريجي، وعينيه تنسحب بتراخ شديد إلى محجريهما مبدلة لونها من الزرقة السماوية إلى السواد القاتم، وتهدأ حركة خفقان الصدر السريعة، يمد ساقيه للأمام ثم يلقي ظهره على مسند الكرسي، ويلوي رقبته للوراء ليريحهما على الحائط، فيعلو شخيره الناشز عن كل طبيعة بشرية وينتظم كعقرب ساعة شديدة الدقة، وبفجائية عنيفة ينخرط في حالة سكون وهدوء تامين.
نحن نحب هذا الأهبل، ونتمتع بوجوده بيننا في كل صباح، وبجانب هذا الحب، كنا نخشاه ونرهب جانبه حين يبدأ يعوي كذئب ضار وهو يدور مكانه بسرعة مذهلة جبارة مدة طويلة من الزمن، كنا نحشر أنفسنا ساعة دورانه هذه في زاوية المقهى كمجموعة فئران مذعورة، ولو سحبت شفرة حادة على رقابنا في تلك اللحظة ما نز منها نقطة واحدة من الدم، وحين ينال التعب منه، يبدأ جسده بالتصخر المتأني من أطراف أصابعه، ثم يبدأ ينزل نحو الأرض بتؤدة شديدة، كالحلزونة، فيمتلئ فمه بالزبد الذي يتناثر على وجهه بفوضوية تشبه حركاته حتى يغطيه، ثم يسقط فوق أرض المقهى كقضيب من الحديد المشدود أكثر من طاقته، شقفة واحدة، كشاهد قبر متعال. فيدخل عالما خاصا، لا صلة لنا به نحن الأحياء الذين يعيشون حياة عادية بعيدة عن مثل هذه المتناقضات المركبة، ثم يبدأ بترديد كلمات مبتورة، مبهمة، غامضة، يخاطب شخصا ما، أو شيئا ما، بلغة خاصة غريبة، وبين الحين والحين يصدر زفرة حارقة تلدغ جلودنا مثل عقربة قاتمة السواد، يتبعها تأوهات حادة جارحة كنصل سيف يماني.
في البدء لم نكن نعرف ماذا نصنع له حين تستبد به هذه النوبة، كانت الدهشة تقيدنا بحبال سافرة غليظة، والخوف يشد رباطه على عقولنا، وبالتجربة، أصبحنا نرفعه وهو مشدود كقضيب الحديد ونمدده فوق صف من الكراسي المتراصة، ثم ندلق عليه ذنوبا من الماء الدافئ ونتركه لعالمه حتى يعود.
وفي اللحظة التي يبدأ فيها بالانسلال من عالمه، كان جسده يبدأ بالانتفاض كجمل منحور يلفظ أنفاسه وصورة الدنيا تتمسك بنظراته الأخيرة للعالم، وشفتيه ترتجف وهي حاقنة الزرقة، وكأنها آتية من قعر جليدي، وتأخذ أصابعه بالانفراج، وتدخل الليونة إلى جسده المتصلب، فيحرك جفنيه بصعوبة شاقة وكأنه ينتزعهما عن بعضهما انتزاعا، فتبدو عيناه مسكونتان بالرعب والأشباح، ثم يثني جسده للأمام فتصر عظام رقبته وظهره، ويستند بكلتا يديه على الكراسي ليجلس.
وما أن يستوي على الكرسي حتى يبدو التعب والإرهاق شديد الوضوح عليه، وعينيه تبدوان كجناحي نسر في أوج شبابه وقوته، ولكنهما كسيرين، لونه من أخمص قدميه وحتى قمة رأسه، اصفر فاقع، ذابلا مثل عود نرجس حرقته ألسنة اللهب المرسلة من شمس آب.
التقيت به ذات يوم في شارع فرعي من شوارع المدينة، يوقف فتاة حسنة الهندام، بهية الطلعة، تتدفق أنوثتها من كل أنحاء جسدها من خلال ثوب ناعم شفاف، كان يبحلق برأسه المبوز داخل جسدها من فوق بسبب طوله الشديد، وعيناه تنتشران بوجهه بجنون يقطر شهوة، لم يكن يريد منها شيئا، كل ما يريده تفسيرا منطقيا للجاذبية الكامنة في جسدها، ولماذا حين رآها اجتاحته عواصف مدمرة لعاطفة مجهولة؟ ولماذا – وهذا الأهم – لا تبدو أجساد الرجال بهذا الجمال المثير؟
والفتاة، تلك الزهرة الباسمة، كان الرعب يجول في صدرها كذبابة زرقاء تطن مذعورة، فتحول جسدها الرقيق الرشيق إلى أفعى مطحونة الرأس ترتعد عضلاتها ويرتجف سمها، أما جسدها فكان ينبض بقوة عارمة كقلب خلع للتو من مكانه.
استنجدت عينيها قبل شفتيها، تقدمت من "وانغ يو" كما كان يحب أن ينادى، وأنا أدرك مقدار معزتي عنده، فهي تساوي دائما علبة دخائن الامبريال التي بجيبي، أو ما يعادل ثمنها كلما راني:
- " وانغ يو " اترك الفتاة وشانها.
تبسمت عيناه، فأحسست الشهوة تنقط منهما.
- فخري يا خوي زوجني إياها.
-  حسناً، لكن دعها الآن.
- أنت بتكذب علي، أنا عارف!
- "وانغ يو" أنا ما بكذب وأنت بتعرف!
- طيب خليها تعطيني بوسه، بس بوسه!
- عيب، أترك الفتاة وخذ علبة دخائن!
- طيب هات.

سحبت علبة (الدخائن) من جيبي وهو لا يزال يطل برأسه على جسد الفتاة، تلفت نحوي، فلما راني أمد يدي بعلبة الدخائن نحوه، أدار رأسه نحو الفتاة واطل على جسدها بسرعة وعاد ملتفا نحوي ليلتقط علبة الدخائن، وانسل بهدوء، وكأن لم يكن قبل لحظات ينظر للفتاة أو يكلمني. وانطلقت الفتاة هاربة مذعورة كالأرنب حين تطارده مجموعة من كلاب الصيد.
من الأمور الغريبة التي تشدني لهذا الأهبل، زيارته لي وأنا في السجن.
بعد أن أخذني الجيش بعدة أيام، افتقد "وانغ يو" أثري في المدينة، سأل رواد المقهى عني كثيراً، فلما يئس منهم، توجه إلى والدتي يسألها عني، أخبرته بما حصل مع وجبة غداء ساخنة، قالت لي أمي فيما بعد: إن الخبر وقع عليه كصاعقة، فتجهم وجهه وتصلب، وجحظت عيناه إلى حد يثير التقزز والرعب، وسهم، وفجأة، انفلت لسانه مرة واحدة وبلهجة غاضبة: اتفواااا....! على اليهود! أولاد الكلب. وانحدرت من عينيه دمعتان قاسيتان كحبتي برد، وقبل يدي وهو يقول: "بدي ازور أخوي فخري، مشان الله". ووعدته خيراً، وظل يتردد علينا من يوم إلى آخر، يسال عن يوم زيارتك، ولما جاء الموعد أتى إلينا وأصر على مرافقتنا.
ما زلت أذكر ذلك اليوم جيداً. يومها اندفع نحوي بكل قوته محاولا احتضاني دون أن ينتبه للشبك الفولاذي الذي يفصلني عنه، فارتطم به وارتد منبطحاً فوق الأرض على ظهره، رفع جسده بقوة فياضة كالسيل، وبدأ يشتم ويعوي بتداخل مريع مبهم.
مد أصابعه ولمس أناملي، عرف من نظرة واحدة ما أعانيه، فتألق بعينيه حنان ناعم مخملي، لم أره في عينيه من قبل. هل يمكن لعيني الصقر أن تحملا حناناً نحو طير أسير؟ وبكى، وأجهش بالبكاء، كان صوت بكائه مراً، ينساب في حلقي كالحنظل. وعاد يحدجني بنظراته دون أن ينبس بحرف. وحين أعلن الجنود انتهاء الزيارة، برقت الحسرة على جبينه، مد يده في جيبه مخرجاً علبة من دخائن الامبريال، حاول تمريرها من بين فتحات الشبك الفولاذي، فلم يوفق، حاول الجنود إخراجه بكل قوتهم، ولكن دون جدوى، وحين بدأ وجهه يكفهر ويتصلب متلوناً، أخذ منه أحد الجنود علبة الدخائن والتف عندي ليضعها في جيبي، ولما اطمئن للأمر، ودعني بنظرة، هي نفس نظرة الحنان التي تألقت في عينيه قبل قليل.
لم أكن لأخاف عليه من شيء، لولا فكرة الانتحار، تلك الفكرة التي دفعت جارنا صبري نحوها بشدة وعنف. "ووانغ يو" يتشابه كثيراً في صفات كبيرة مع جارنا صبري.
كان مشهداً ساخناً، يفوق طاقة عقلي كطفل، لكني رأيته واضحاً، فانحفر بذاكرتي بكل تفاصيله الصغيرة والتافهة، وكبر معي، يوماً بيوم، وشهراً بعد شهر، حتى أصبح جزءاً من ذاكرتي ومن ماض تقلبت على أشواكه وألسنة لهيبه.
اليوم جمعة، صباح صاف جميل، يدغدغ في وأولاد الحارة طراوة الطفولة وعذوبتها، فنمرح جذلين، تسكرنا لذة العطلة الأسبوعية عن المدرسة، ويغمرنا الفرح لبعدنا عن وجوه مدرسينا الصارمة المطبوعة بالوظيفة والصلف المتعجرف المتأنق بجلد أكفنا الصغيرة بمطارق الرمان والخيزران.
في هذه اللحظات الحبلى بالنشوى، خرج جارنا صبري يحمل بين يديه الضخمتين حزمة من حطب الزيتون، وضعها على الأرض، وبدأ يصففها فوق بعضها بحذق ومهارة، جاعلا منها مربعا خطوطه الأربعة من الحطب، ووسطه فارغ لا يتسع إلا لشخص واحد، وغاب داخل البيت لحظات ليعود وبيديه حزمة جديدة من الحطب، قرفص على قدميه كجني شقي، وبدأ يرتب الحزمة الجديدة على نفس النسق السابق، وأتى بحزمة ثالثة ورابعة وكل حزمة ترتب فوق سابقاتها بنفس النسق والحذق. غاب داخل البيت من جديد، وعاد وهو يحمل جالوناً أصفر مليئاً بالكاز، وأخذ يسكب منه على الحطب وهو يلتف حول المربع حتى نقع الخشب والتراب بالكاز.
لم نكن نستطيع التنبؤ بما سيفعل، ما زلنا أطفالاً، ذاكرتنا بيضاء ناصعة من فكرة الموت بهذه الطريقة، كل ما نعلمه عن الموت، عزرائيل والمرض. أما النار، الموت فيها، فهذا أمر لا يستطيع عقلنا الطفل ابتكاره أو ابتداعه ليضعه في مخزون الذاكرة.
اندفع داخل المربع بقفزة عالية ثابتة، تربع كرجال اليوغا، ظهره مستقيم ورأسه منتصب بشموخ، وكأنه يستعد لحالة تأمل عظيمة. رفع يده وأخرج عوداً من علبة الثقاب، أشعله بهدوء ورزانة متناهيين، قذف العود فوق التراب المنقوع بالكاز، لكنه انطفأ قبل أن يلامس الأرض. أخرج عوداً آخر، عدل من جلسته، وأحنى قامته تماماً نحو التراب المنقوع، وأشعل العود بنفس الهدوء والرزانة، فانفلتت النار بالحطب مثل هبة ريح عاصفة، وانعقدت الدهشة على جباهنا، وولى بعض الأولاد الفرار وهم يصرخون ويبكون رعباً.
تلوت ألسنة اللهب حانقة فاغرة فاهها، وتلبد الدخان فوق المربع غيمة ظل تحجب نور الشمس، وأخذت فرقعة الخشب وهو يباد ويأكل ذاته نغمة طقطقة منفرة يائسة. اقتربت من النار، ومن بين السنة اللهب المتلوية، حدقت في وجهه، كنت إذ ذاك خالي المشاعر، لم ينتابني شعور الخوف، ولا شعور الشفقة، حدقت فيه بعيون تمثال قد من صخرة صلبة.
لم يزل على قعدته، متربعاً، صافي الوجه، نقي العينين، لا يأتي بأي حركة وكأنه قطعة من جليد وسط بركان، غارقاً في تأمله، ظننت ساعتها انه يمارس تعذيبا للنار، يصليها ببروده، ويخنق ألسنتها بثبات قسمات وجهه.
بدأ جسمه يتساقط، قطعة، قطعة، برزت عظام كتفيه عارية من اللحم والشحم، ورائحة حطب الزيتون تداعب انفي بعذوبتها، ظل متربعاً فترة لا أعلم مقدارها، ثم سقط، دون أن يصدر أنة واحدة، لم يصرخ، حتى قسمات وجهه، ما زلت حتى هذه اللحظة اذكرها جيدا، كانت أكثر صفاء وسكينة من أي وقت مضى، لكنه رغم ذلك سقط، هيكلاً من العظم، ثم تفرق الهيكل عن بعضه، تفكك، فأصبح يشبه عظم الحمل الذي ذبحه والدي يوم العيد، ثم قذف بعظامه في سطل النفاية، إلا أن هذا العظم اسود فاحم.
وصل الناس، لكن بعد فوات الأوان، علت أصواتهم، حركاتهم كانت سريعة، البعض يأتي بالماء، والبعض الآخر يلقم المياه للنار، والنساء تعول وتزعق مثل بوم بشع، والأطفال يندسون بأحضان أمهاتهم وهم (يغصُّون) بالهلع والدموع.
وانطفأت النار، وفاحت رائحة الرماد والحطب الذي ارتوى من الماء، رائحة واسعة الانتشار، ذات نكهة غريبة مميزة خاصة وأنها من خشب الزيتون.
لملم الرجال صبري، عظاما مشققة، مكسرة، فاحمة، سوداء، وخبأوه في كيس من الخيش القديم، ثم توجهوا نحو المقبرة، ودفنوه.
سألت والدي ونحن في طريق العودة من المقبرة:-
- أين صبري؟
- مات.
- كيف وعزرائيل لم يأت، ولا المرض؟
- أكلته النار.
إذن مات صبري، أكلته النار، مات دون أن يأتيه عزرائيل أو المرض، وانقطع وجوده كما انقطع وجود أخي قاسم، لكن قاسم لم تأكله النار، بل أخذه ذلك الوحش القبيح، المرض.
كانت هذه الفكرة وهي تستبد بي تلامس جسد "وانغ يو" وعظامه، فأحس بأنها تغلي كمرجل عظيم في صدره، لكنه يخفيها، لئلا يلحظها أحد فيخنقها، كان يخفيها حتى يحين الوقت المناسب.
أنا لا أنكر أنه رغم التشابه القائم بين الاثنين في كثير من الصفات، كخط مستقيم، أنه وجد في هذا الخط انكسارات فجائية، فمثلاً، صبري لم يكن يحب الناس أبداً، وكأنه مخلوق من جبلة أخرى، غير جبلتهم، انطوائياً، يعيش في وحدة صامتة ذابلة، مثل الخلد الذي يعيش في ثقب شديد المتاهات في عمق مظلم، عيناه كانتا تدوران في وجهه بحركات دائرية تبحثان بنظرات مبهمة عن شيء غامض مجهول، أو عن اللاشيء، ضخم الرأس مثل دب قطبي بشع، يدب فوق الأرض، منفوخ البطن كقربة خالية.
كان يجوب زقاق المخيم بجسد أمه، يركلها بعنف ذئب ماكر قاسي النظرات، دون أن يصغي لنشيجها، أو يرق قلبه لدموعها المنهلة غزيرة كحبات برد طاهرة فوق قطعة مخملية سوداء، حتى اسمه الأخير، ثقيلاً، لزجاً، مثل دبق مصيدة الفئران، "دملخي" ولو كان هذا اسمه كاملاً، لكان ناطقاً أكثر من أي وصف يخطه قلم.
لم يكن "وانغ يو" بمثل هذا التزاحم المشبع برائحة بالكبريت في شخصيته، كان ودوداً، محباً للناس، يجيد التعامل معهم بتأنق متكلف، لكنه لذيذ الرائحة، ناعم الملمس، وظل ارتباطه بأمه، ارتباط الولد المذنب بأمه الحانية. وظل رغم كل الاهتزازات العنيفة التي ترجرج من حين لأخر، يشعر بأنه يحمل مسؤولية هذه الأم، فما يجمعه من نقود، ليس له منه سوى ثمن علبة دخائن، والباقي من حق أمه فقط، ولو اجتمعت الأرض عليه بثقلها تضغط فوق صدره، فلن تستخلص منه مليماً واحداً أصبح برأيه من حق تلك الأم.
ويبقى فيه ما هو غريب، رغم جدية وجهه في بعض الأوقات، خاصة شربه للماء، فحين يضع فمه على صنبور المياه لا يرفعه بسهولة كغيره، بل يظل متشبثاً بالصنبور بفمه وأسنانه، كطفل أنهكه الجوع، يتشبث بنهد أمه، كنا نظن أن بطنه يمكن أن يطق كالزجاج حين يستغرق في شربه، كان يشرب بنهم شديد وطريقة تثير الفزع والتقرف في آن واحد، وكان يبدو وكأن جوفه محشو بجمرات شديدة الاتقاد.
لكن الميزة الظاهرة فيه لكل الناس، حتى الأطفال، كرهه الشديد لكلاب اليهود البشرية، لتلك الثلة التي هبطت للدرك المعتم وأقامت فيه متفاخرة متباهية. مرات عديدة ملأ وجوههم ببصاقه الأصفر، وكان حين يلتقي بهم في الشارع يصرخ في وجوههم وهو يمط جسده للأعلى متعاظماً: "كلاب نتنة عفنة جرباء، بدون شرف". كان يملأهم رعباً ورهبة، يكز على أسنانه فيربك قسمات وجوههم، ثم ينقر بسبابته على كتف الواحد منهم بازدراء، ويدفعه للأمام مزمجراً معربداً.
لكن سراً محيراً ظل قائماً في شخص "وانغ يو"، ما هو سبب جنونه؟ ما هو الأمر الذي وصل به لمثل هذه الحالة المزرية؟ بعد أن كان أفضل شباب المدينة وأكثرهم ذكاء؟ كثيراً ما سألناه مثل هذه الأسئلة، لكنه كان يتلفع بالصمت، وخاصة إذا ما كان قد صادف كلبا من كلاب اليهود في صباح باكر. أما إن كان في حالة صفاء، فانه كان يكتفي بالنظر إلينا وكأنه ينظر إلى مجموعة من الأغبياء والمجانين، كان يمط شفتيه للأعلى، ثم ينسحب من الجلسة بهدوء تام، ومشية متأنقة، متعجرفة، وكأنه لم يكن يحادث أحداً قبل لحظات.
ألتقيته ذات يوم يجلس على صخرة تقع خلف حائط مدرسة الوكالة الواقعة على طرف المخيم، يتمتع ببرودة النسيم وامتداد العين على السهول والجبال العاجة بالخضرة والصفاء، اقتربت وجلست بجانبه، نظر إلي باستعلاء وابعد نفسه عني قليلاً واتجه بنظره من جديد نحو السهول، سألته بشكل مفاجئ وسريع، "وانغ يو" ما الذي أدى بك للجنون"؟ أدار رأسه نحوي ببطء قاتل، كان في عينيه بريق غريب، شديد الغرابة، ممزوجاً بقوة خفية كافية لان تشل حركات جسدك ونبضات دماغك، لكن من عمق البريق بدت دائرة واسعة تفور بالحنان والحزن والشجن، غرقت في دوامة الدهشة وعدم التوازن، نظر إلي وحبات من دموع تتدحرج فوق وجنتيه وقال: "أنا مش مجنون، فقط معقد". نهض من مكانه منطلقاً نحو مدخل المخيم، وقبل أن يصل المدخل بقليل التف نحوي فرأيت صفاء غير معهود يغطي كل تقاسيم وجهه.
وزادت الشائعات الكثيرة المتضاربة نسيجاً من الخرافة والغموض والأسطورية حول سبب جنونه، وغلفتها بأغلفة دخانية، ضبابية، حتى أصبح شخصه مرهوبا عند الكثيرين في المدينة، رهبة غموض لا يمكن اختراقه.
ومن تلك الشائعات الغريبة، أن سبب جنونه لم يكن سوى كتاب خاص بالسحر، وهو كتاب يتحدث عن طرق الاتصال بالجن، وفك المستغلق من أسرار الطبيعة، وشفاء المستعصي من الأمراض، والأهم من هذا كله، أنه يقود الإنسان نحو مقدرة اكتشاف الكنوز المخبأة تحت الأرض، ويعلمه بأساليب غريبة كيف يسيطر على الرصد القائم على حراسة هذه الكنوز.
وفيما يروى في المدينة، أن "وانغ يو" حين وقع ذلك الكتاب بين يديه عقد العزم على امتلاك كنوز الأرض، وتسخير رصدها لخدمته، ولكي يجمع بين الثراء والقوة، فقد ضم لعزمه مسألة السيطرة على الجان، من خلال التعليمات الموجودة في ذلك الكتاب.
وكانت تلك التعليمات تتميز بغرابة شديدة، وأساليب مرعبة، وقد أدت به أثناء تطبيقها للجنون، وخاصة ذلك البند الذي يقتضي ممن يود السيطرة على الجن، أن يصعد وسط ليلة حالكة السواد، وهي الليلة التي يختفي فيها القمر تماماً من السماء، إلى جبل مهجور، ومعه سبع أعواد من البخور، وكيلو فحم، ورطل من الدهن، وزجاجات من الماء، وصحن صيني مع قلم كوبياء. وعند انتصاف الليل بالثانية، يبدأ أولا بإشعال أعواد البخور، ثم يرتبها ترتيبا خاصا، بحيث تكون كلها متجهة نحو الشمال، مع المحافظة على نفس المسافة القائمة بين كل انفراجة وأخرى محافظة دقيقة، وحين يصل الاحتراق حد المنتصف، يخلع ملابسه كاملة، ثم يقرفص وهو عار ويشعل الفحم على مقربة من أعواد البخور، وحين يتجمر الفحم، يبدأ دهن جسده بالدهن بعد أن يسيحه قليلاً على الفحم، وما أن ينتهي من ذلك، عليه أن يبدأ برسم مربعات ومستطيلات ومثلثات متداخلة أيضاً، لكنها غير مقيدة بالعدد، ثم يبدأ بترتيب الحروف المباركة – حسب ما هو وارد في الكتاب – داخل المربعات، ثم يعود عكسياً بنفس الحروف داخل المستطيلات، أما المثلثات، فإن الحروف توزع داخلها عشوائياً، ودون أي انتظام.
وبعدها يبدأ بسكب قليلاً من الماء داخل الصحن، وكلما سكب شيء شربه أولا بأول. ومتى اختفت كل أثار التشكيلات والحروف من الصحن، عليه أن يقف منتصباً مدة لا تقل عن الساعة، وبعدها يبدأ القفز حتى تبدو خيوط الشمس بالنفاذ، وعند ملامسة أول خيط من خيوطها لجسده عليه أن يندفع بكل قوته وسرعته وهو عار إلى البيت دون أن يلتفت وراءه، فإذا ما وصل البيت أتته أفواج الجن، فوجا وراء فوج، يقدمون أسباب الطاعة والوفاء، ويعلنوا جهرا أنهم رهن أمره، لكنه أثناء اندفاعه نحو البيت، تعثر بصخرة صغيرة لا تكاد تظهر.
وهناك من يقول: بأن الجن حين رأى انه سيخضع لهذا الرجل الآدمي، حول نفسه لصخرة كي يجعله يتعثر ويقع على وجهه. ومنذ ذلك اليوم فقد "وانغ يو" عقله، وما يؤكد هذه الرواية، أن هناك من هو مستعد لأن يقسم أغلظ الأيمان على أنه رأى "وانغ يو" يومها عارياً كما ولدته أمه وجلده مطلي بالدهن.
وهناك من قال: أنه فقد عقله بعد قصة حب فاشلة.
وهناك من قال: أنه فقد عقله من كثرة القراءة في القرآن وكتب الدين.
وهناك أيضا من ادعى: بأنه من شدة جبنه أمام الحياة فقد عقله.
لكن أمراً واحداً لا يختلف عليه أحد مطلقاً، لا في المدينة ولا في ضواحيها، لا طفلاً ولا امرأة، بأن مذياعات العالم حملت في يوم من الأيام المشمسة، اسما تعرفه المدينة جيداً، وتعرفه الضواحي جيداً، ثم عرفه العالم مرة واحدة.
كان النبأ كما يلي:
"في صباح هذا اليوم قامت مجموعة من مغاويرنا الأبطال بعملية فدائية ضد معسكر للعدو في قلب تل الربيع، وقد أوقعت المجموعة خسائر فادحة في صفوف الجنود...
واستشهد خلال المعركة قائد العملية... "وانغ يو"....

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟