محمد الشنتوفي: شعرية الاحتفاء بتوقد المعنى ـ د. امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
انفاستحضرني مقولة الجاحظ المشهورة: " المعاني مطروحة في الطريق" التي تكرس الجانب التعبيري وتغليب "الصياغة اللفظية عند الأديب، ولعل ما أملى عليه مضمون مقولته هذه، طبيعة الرؤية كما تجلت في ديوان الشعر العربي والمتمحورة حول مسألة الأغراض الشعرية، وهذا ما أفرز في عصور لاحقة ثنائية: شعر الطبع- الذي استمر طيلة خمسة قرون ونيف – وشعر الصنعة الذي رفع لواءه الشاعر المتأمل أبو تمام ليفتح للشعر العربي جبهة جديدة حينما قلب المعادلة وغلب جانب المعنى على جانب اللفظ. وهو ما خلف حينها رجة ترددت أصداؤها في كتب البلغاء والنقاد والأدباء على حد سواء، غير أن هذه المعادلة لم تتحرر منها القصيدة العربية طوال مسيرتها ـ بعد ذلك ـ والتي عرفت مدا وجزرا بفعل الصراع الذي ظلت تتوقد شرارته من عصر إلى عصر بين تيارين أساسيين:
تيار الثقافة الأصولية التي كانت تحن إلى النموذج الأرقى المحافظ للقصيدة العربية الاتباعية.
تيار الثقافة المحدثة والمتفتحة على نماذج فن القول في الثقافات الأجنبية.
إلى أن حسمت اللسانيات الحديثة هذا الجدل الذي عمر طويلا في النقد العربي، وفصلت في الأمر حين اعتبرت أن اللفظ والمعنى في كل الاحتمالات هما وجهان لعملة واحدة.
أثارت انتباهي مقولة الجاحظ وأنا أتصفح ديوان الشاعر الرقيق محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى"(1)، لأكتشف بعد ذلك مدى الجهد الذي بذله صاحبه في البحث عن المعاني التي أهلته لينغمس في طقوس الكتابة والتوغل في التأمل الرصين الذي حرضه على ولوج عتبة الإشراق الشعري.
يختزل عنوان الديوان حمولة دلالية تستفز القارئ منذ الوهلة الأولى، إذ يحيل على مدى احتفاء الشاعر بجلال المعنى المغيب، "فالغابة الأولى" كناية يمكن أن تنسحب على كل ما ترسب في الذاكرة ـ تحت سبق إصرار الشاعر ـ فهي ملجأه الذي يحتمي به، هي مجاله الذي يستقي منه ما يزخر به من رؤى، إنها العالم المجازي الذي يترصد فيه طرائد الشعر العصية في عملية بوحه الشعري، إنها في النهاية زاده الذي استوحى منه قصائده المبثوثة في هذا الديوان.
ومن ثم تبدو الذات الشاعرة مهووسة ببحثها الدائم عن المعاني التي لم تعد موجودة في الطريق، بل هي عصية الإدراك، متمنعة الورود على الخاطر، ولذلك تجد الشاعر كثير التوسل إليها بتأمله المتبصر في مظاهر العالم الطبيعي الحامل للأسرار (الماء- الهواء- التراب- القمر- الشمس...) والمجسد لمكامن السحر والجمال.
فبين عتبة الديوان وقصيدة: "دفتر النار" التي يختتم بها الشاعر مجموعته الشعرية، ستة عشر قصيدة يحتفي فيها الشاعر بتوقد المعنى الذي أغراه بالدخول في محراب شهوة الاستعارة عساه يفتل شعرا. وقبل أن ينخطف عمليا لنداء هذه الشهوة، يستهل الشاعر ديوانه بمحاورة شعرية يستحضر فيها أرواح الشعراء: هو لدرلين وسان جون بيرس ورامبو وشارل بودلير والفيلسوف ها يدجر في قصيدة "العزلة"، وهي مناجاة مجنحة لرموز الشعر والفكر الذين أسسوا عوالم شعرية غير مسبوقة ليعلن الدخول الفعلي في ديوانه بقصيدة ذات عنوان موحي وهو: "ولي في قرار الجيب عناوين منسية".
الذاكرة كمحرض على البوح الشعري:
يتضح عن خلال قراءة عابرة لقصيدة "لي في قرار الجيب عناوين منسية"، أن هوس الكتابة عند الشاعر أملته عليه أمكنة لا يزال مشدوها لسحرها الخفي الذي أغراه وحرضه على التأمل والدخول في مغامرة اللعب بالحروف، ومحاورة أصوات اللغة" المزروعة في أعماق الوقت" ليفتل منها المعاني التي تراوده:
" فدعني أصلي صلوات أخرى أيها الحرف
عساي أفتل شعرا من عشقنا المعتق ـ قبل الجنون ـ
...
 دعني أطرق بالمسامير حنجرة اللغة
وأقيس مسافات الصدى
ما بين حرف الألف وحرف النون
ليحقق موعده مع الجنون
ويقرأ مفاتيح العتمة." (2)
يبدو الشاعر حريصا على فض غشاوة النسيان الذي يحاصره في الزمن الرتيب، ومن تم يتمسك بالارتداد إلى ذاكرته يستعين بها على استحضار ما ترسب فيها.
وهنا يمكن للقارئ اللبيب أن يقيم علاقة عضوية بين عتبة الديوان" الغابة الأولى" والمتن الشعري الذي يحتويه، فالعنوان يحمل معنى رمزي يحيل على المترسب في لا شعور المبدع، والمنسي، والمترسب من المعاني التي سيخوض غمارها وهو الشارد التائه في غابة الحروف والكلمات ودلالاتها المنسية، يطارد شواردها ليمسك بشهوة المعاني المنفلتة باستمرار انفلات الطرائد الحرة في غابة وارفة الظلال، واسعة البراري.
" طريد منذ الغابة الأولى
 من غابة لغابة
 صراخ يداهمني في حنجرة اللغة
 ويفشي في رئتي: لا تهم اللغة" (3).
ها قد اعترف الشاعر أن همه منصب على المعنى بالأساس، ولذلك ينخطف منذ الدخول الأول في "غابته" إلى استدراج ذاكرته كي تساعده على بوحه الشعري:
" ألم ألج رتاج الذاكرة
كي استدرجها
صوب شراك البوح" (4).
وتحضر الذاكرة "كتيمة "أساسية في ديوان "الغابة الأولى"، فهي ملجأه يتوسل إليها ويستعين بها على اعتصار ما تزخر به صور، ويستدرجها باعتبارها المعين الذي ينهل منه أنها في النهاية الزاد الذي استوحى منه قصائده المبثوثة في هذا الديوان كلما زحفت رياح المحو على شرود الذاكرة:
 "ألم ألج رتاج الذاكرة
...
فطر زتني
عناكب من عرينا
تتسلق سجد الموت
...
ومهما زحفت رياح المحو
على بساط الرماد
يصر الضباب على شرود الذاكرة" (5)
ومن ثم تبدو الذات متشظية، مشروخة، مبتهلة في محراب الطبيعة، ومتأملة لمكامن السحر والبهاء فيها علها تبوح له بما يمكن أن ينفث النسغ الضروري لتنكتب القصيدة، وهو حين يحس أنه اقترب من الهدف، سرعان ما ينتابه الشرود أمام تمنع الحروف والكلمات التي لا تنقاد له بطواعية:
"وأعاند مساحة اللغة
التي ترفض دعوتي للرقص" (6)
ولذلك فهو يحترق داخليا من أجل الفوز بما يمكن أن يطفئ ظمأه للارتواء من المعنى الذي قد يساعده على الشعور بالارتياح.
أهمية المكان الطبيعي في تأثيث النص الشعري:
وبالإضافة إلى الذاكرة التي حرضت الشاعر على الدخول في مملكة البهاء، يحضر المكان كملهم ثان يرتد الشاعر إلى إعادة تشكيله بكل المعاني التي يحمله، وبكل القيم التي يوحي إليها:
"أيها الشعر
وقفنا طويلا بحائط الأعشاش
وكان لخطاطيف ساحة" أبي الجنود" خطاب
ووصية جريئة
...في جنان السبيل
أعادت النافورة شدو الماء" (7).
يبدو الشارع في هذا المقطع الشعري حريصا على الارتداد إلى الماضي البعيد لرسم صورة فاس البهية، اليانعة، العتيقة الضاربة في أعماق التاريخ:
"أيتها المدينة
الجاثمة على سر دفين
يا وشم الأيام
لماذا تتبدين
لوجوه تخفيها الأقنعة
وتسكنينني
حية تتلوى في عروقي
...
لفاس مائة قناع
ولي مائة ذراع
أعانقك بشهوة الدالية" (8)
هكذا يتوسل الشاعر بفضاءات مدينة فاس التي آوته طفلا ثم يافعا، فكهلا، وها هي منفاه، ومدينته الأثيرة إنها المحرضة على استجلاء معاني البهاء المعتق في عمرانها الذي تصونه أسوارها التاريخية، وهي الماء الفوار الذي يروي الحي والجماد ليكتسي سندسا من خضرة، وهي المنارة الشامخة المضيئة حين يسود الصمت وتنتشر العتمة. إنها فضاؤه الذي يأوي خطاه التائهة، وغابته بظلالها الوارفة التي يستظل بها من رمضان زمنه الأغبر، ومن ثم فهو حريص على معانقتها بشهوة الدالية، عنوان قصيدته التي يقول فيها:
"أضيع بين عرصات فاس
        المرة تلو المرة
حين وشوشت لي بشعاع العين الكحيلة
عند أول الزقاق الحجري
قبالة نافورة الطير الواشية" (9).
هكذا يغدو المكان في المجموعة الشعرية محرضا على ولوج محراب الكتابة، وتغدو فضاءات (ساحة أبي الجنود، جنان السبيل، باب المحروق، باب الفتوح...) أمكنة متربة في لا وعيه تثير فيه حنين الطفل الذي يسكنه، ولذلك فهي تستدرجه للبوح التأملي نظرا لما تحمله هذه الفضاءات من معاني:
" نزلت بـ "باب الفتوح"
تنزف ماء الأفق
...
وما أكبر الحزن ما بين الماء والدم في باب "المحروق"
ردهة السقوط
...
كنا أنا والمدينة وطفل هائج وحجر
وكانت السماء حاضرة بين الدروب (10).
الذات الشاعرة:
الذات وطقوس الكتابة:
" غيرت جلدي كم مرة
كي الاقى اشراك العشق
لم تكن الصلاة ضرورية
كان يكفي قوس قزح
كي تسجن الأمل
ولا تخجل السماء عن الإفشاء عمن اختلس الضياء". (11) ويقول في مكان آخر:
" أشرب ردهة الكسور بماء البراكين
كي أضمد الكلم
من مرمدة المنفي
بعد أقل من حين سينفطر الثدي المانح
ويبصم العوسج الألسنة
ففي الظل والنور يسري النهر بنفس اليقين." (12).
تبدو الذات الشاعرة وهي منشغلة بأسئلة كبرى، وباحثة عن أفق منفتح على المعاني العميقة لتهب قصيدته أجنحة من أثير وهواء وماء، إنها منصهرة في بعدها الإنساني ومتوحدة بسحر العالم الطبيعي الذي يساعدها على تلمس مكان الجمال فيه:
"أنا لم أنس أني أنتمي إلى الأرض وإلى الجدول
وحمم البراكين والى الوادي
يدي تحلم ببلاد
قانونها اللمس
لغتها اللمس
وعيناي تحلم بالأسماك الحمراء تقترح السفر العمودي" (13)
إن الشاعر حريص على الصدع بنداءاته "الكهربية" وتراتيله المسبحة بسحر الملكوت، ومن ثم يدخل طقوس الكتابة وهو مرتعش يحس بسحنات باردة تسلمه تذكرة العبور إلى عالم الكلام الجميل:
" سحنات باردة تماما
تسلم تذكرة العبور
...
وفمي يقطر  بالحروف
هل أصبحت روضة
تضيق وتطول
ها أنا مختلط." (14)
ينساق الشاعر تحت تأثير اللحظة الشعرية التي تمنحه فرصة الحديث عن عشق الهنيهة التي ينخطف فيها لتراتيل البوح، ليكسر طوق الصمت وينحت الكلمات من طمي الحروف أو ماء الجنون:
"كلمات تولد من جديد       
من طمي الحروف           
أو من ماء صارخ بالجنون        
وقفنا طويلا عند حائط المعنى
وقفنا طويلا بباب ومعبد وسرداب
كي نصلي بباب اليقين." (15)
إن للكتابة طقوسا لابد من توفرها إذن وأولها هذا الانصهار في العالم الطبيعي الذي يمنح الانتشاء بردهات مجنونة:
"أنا الذي أظلل الشمس
حتى يعود الليل
...
لا منفى
غير الشعر
...
إن الشاعر/ الشاعر ينتشي
وهو يبحث يائسا
بردهات مجنونة
كي ينتزع صورة من القمر
ويقف في الظل كي يبصر ذواته" (16)
إنها لحظات إشراق هاته التي تسلم الشاعر إلى التوحد بالعالم الطبيعي طالبا سره المانح، وهذا ما يسمو به إلى مناجاة آلهة الشعر التي تستجيب له وتناديه:
"قال الشعر لي
إنك لي
فاتبعني ولا تلتفت
إذا داهمتك الأسماء فهب كل شيء للقمر إلا ظلك
وترجل كي تقرأ حروفك وتقبل علي."(17)
وبالرجوع إلى قصيدة: "دفتر الهواء" تتضح هذه المسألة، ذلك أن الشاعر بذل فيها مجهودا مضاعفا ينم عن مدى احتفائه بالمعنى الذي يستقيه من منابعه الصافية، أي من العناصر الهلامية التي شكلت بتفاعلها مظاهر الوجود المادي، (الهواء، الماء، التراب، النار...) وهي قصيدة محبوكة فنيا يوظف الشاعر فيها حوارا بينه وبين هذه العناصر، حيث يخصص لكل عنصر فقرة شعرية (الماء في الفقرة الأولى، الهواء في الفقرة الثانية، هما معا في الفقرة الثالثة) ولينتقل في الأخير إلى محاورة السماء كرحم أبدي لهذه العناصر مجتمعة:
" وكنت أيها الماء أول ما كنت (بردة جامدة كالجوهرة في الاستدارة والبياض وأودع فيها بالقوة ذوات الأجسام والأعراض).... إلخ.
...
دقت رياح أبوابك
لم يكن لها صوت لتسمعك واردات الأحوال... إلخ
...
من سماك الهواء وانت قبل وبعد فان وفناؤك عين البقاء... إلخ
...
ها نسيم الصباح مجنح برذاذ البحر
ظل في الهواء يتسع ... إلخ (18)
ويوظف الشاعر من أجل التعبير عن هذا الافتتان بالعناصر الطبيعية الصورة المجردة المرتكزة على الانزياح اللغوي الذي يخلق به الفجوة ومسافة التوتر بين الدال والمدلول (دقت رياح أبوابك – منازل الصمت – حكمة الهواء- عين الريح – مقلة الغضب- ردهات الدهشة ... ص 43-44). واحتفاؤه بهذه العناصر الطبيعية ومحاولة إستكناه أسرارها، هو ما يمنحه تذكرة العبور إلى كتابة القصيدة؛ وهو يعبر عن ذلك صراحة حين يقول:
تكتبني
غيمة ماطرة لا تبللني
يكتبني
حكي القمر
يكتبني
غبش الصحو
...
يكتبني البهاء" (19).
الذات المنشغلة بهموم الواقع:
تبدو الذات كما يعكسها ديوان "الغابة الأولى" متعبة، حزينة، مسكونة بالصمت تارة، والخيبة والمرارة تارة أخرى. ويمكن تلمس هذه الملامح بكل وضوح في قصيدة: "مساحة وتعطلت "وهي عبارة عن قصيدة/ " بورتريه" في رسم ملامح هذه الذات، المهووسة بطرح الأسئلة الكبرى كما هو واضح في النموذج التالي:
" هل اومن
إن نداء اسمي في تربته
حين يمسي عاريا
يسري عبر عروق شبكة العنكبوت
...
والذات تنسحب على التراب
دون أن يحتج ناقوس الدم
وأنا الذي خلتي اتوزع
اجتمع اتعدد" (20)
إنها ذات منشغلة بطرح الأسئلة التي أرقت ولا زالت تؤرق كل متأمل في سر الوجود، ومن ثم يبدو الشاعر واقعا تحت تأثير تأملات فلسفية (كتأملات إيليا أبي ماضي عن الأصل الترابي للإنسان) أو متأثرا ببعض شطحات المتصوفة (مفهوم الكائن المتعدد) وهذا ما يبرز المخزون الفكري والثقافي الذي ينهل منه المبدع.
وينتقل الشاعر بعد ذلك لنسج صور شعرية لعزلته التي تسلمه للصمت والشعور بثقل الزمن:
" حين
تجهر العزلة
تفرغ كل الذوات
من ألغازها
ويكتنز الصمت
داخل القواميس
...
بصمات عزلتك
تجر ثقل انتشارك
وبقايا السجائر
على طاولة الغواية
تشي طعم القهوة والصمت." (21).
وهذا ما يؤجج مشاعر الذات الممزقة المتعبة، الحاملة لأسرار البوح الشعري، والظامئة إلى مزيد من الارتواء:
 "قادم
من سعلة الطرقات
ومن نزيف التعب الأرعن
أحمل شلالا
من عطش
وشجرة
تنمو بداخلي
وأسرارا
تعرج على شفاه البوح
قادم
أبحث
عن يافطة اللحم
ومساحة
لوجه الجرح." (22)
وتتسع مساحة الضجر والسأم داخل الذات، إلا أن الشاعر حريص على تمجيد صولة العناد:
" سجني أقيسه بمضض
علني
أجاور سر هذا المنفى في الذات
خطاي
أرسلها سحنات من النبوءات
كي أمجد صولة العناد." (23)
يبدو هذا الشعور بالغربة افتراضيا يريد من خلاله الشاعر أن يحاور ذاته، ويلامس ظلالها كي يستمر في بوحه الشعري:
"أحاور ظلي
كي ينشرني على حبل المسافات
ظلي الذي
يخلص مرة ويمكر مرات." (24)
غير أن الشاعر يعترف بعد ذلك بخيبته، وفشله في الحصول على مبتغاه؛ ومن ثم فهو لا يملك سوى الصراخ والإفصاح عن هذه الخيبة:
"لماذا أصرخ كلما أفصحت عن خيباني
وقبل
ان أسمي ذاتي
بكل الأسماء التي تشتهيها
ألبس هذا الوجه ألوان العزلة
والصمت
سامقة
هي أيامي
بلا قمم ثلجية
ولا سحاب
أو رغبة في انتظار مسافة مذبوحة". (25)
إلا أن أبلغ صورة لعجز الذات الشاعرة وخيبتنها هي ما جاء في قصيدة:
" أسماء كريسطال القلب" وهي في رثاء فلذة كبد الشاعر التي ترك رحيلها المفاجئ جروحا عميقة "موشومة بالدهشات"، ودماءا "مسكونة بالإبر والرعشات" لقد خلف غيابها فراغا شل أنفاس الشاعر، ولذلك فهو يبكي غيابها بحرقة بالغة:
" يا ابنتي
ماذا أهب لكبد لا تنسى؟
نارا
كالمخالب في قلبي
وفي الذاكرة." (26)
هكذا تنساق الذات الشاعرة إلى اعتصار مشاعر الأسى والكمد التي يفجرها عمق الجرح ومرارة المصاب، وسيادة الصمت المطبق على كل ركن من أركان البيت "المبني بالمدى، والمطلي بدفق القلب"، ومن ثم يحس الشاعر بفراغ داخلي يسكنه كلما مر بجانب سريرها الموحش، أو مست يداه معطفها الباريسي الأسود:
" وسريرك الفارغ يعوي
من يرضع هذا اليوم بالحياة؟
وقميصك الأسود الباريسي
أرجعته صديقتك
لأنه أبي أن يغادر رائحتك." (27)
وهذا ما يسلمه إلى إعلان شعوره بالعجز التام أمام هذا المصاب :
"يا ابنتي
أمام موتك أنا عاجز
وحرفي عاجز
فارحمي أبال." (28)
ويمكن القول إجمالا من خلال هذه القراءة في براري "الغابة الأولى" أن الشاعر محمد الشنتوفي امتطى غمار البحث التأملي من أجل السياحة في غابة الحروف والكلمات يبحث عن معانيها المنسية "والمزروعة في أعماق الوقت" لينحت منها هذه الباقة من النصوص التي يضمها ديوانه الثاني، بعدما دشن دخوله الفعلي في عالم الدهشة والبهاء بمجموعته الشعرية الأولى. "طرائد الغواية"، التي صدرت سنة 1999. وقد استعان في بحثه التأملي هذا بالذاكرة كمحرض على البوح الشعري للذات الشاعرة التي استطاعت أن تتحرر ـ نسبيا ـ مما يشغلها من هموم الواقع، لتنغمس في طقوس الكتابة والدأب الحثيث للقبض على المعاني المستقاة من مظاهر الطبيعة اللامتناهية، واستنطاق ما هو محجوب عن الرؤية.
وعسى لهذا التأمل الفكري الخلاق أن يحرضه من جديد، كي يطل على القراء بنفحة شعرية جديدة في القريب الآتي لإنضاج هذا المجهود المبذول وذلك بتحرير الذات من كل أغلالها التي ما تزال تطوقها بالحزن والتعب، والأسى والكمد، لتنطلق بها نحو نشدان مظاهر السحر والبهاء كما فعل هولدرلين بروحه المهتاجة، وسان جون بيرس بخياله المجنح، وارتور رامبو بفيض إشراقه، وشارل بودلير برؤيته الحالمة، والذين يبدو أن الشاعر مهووس بعوالمهم الشعرية، وواقع تحت تأثيرهم.
"فبايع حرفك المتمنع"، كما قلت في طرائد غوايتك الأولى واسجد كي "تقوم نجمة افلت سرا بسورة"، واحترق كي تظفر بالسياحة على جناح القصيدة، وكحل رموشك بالسهر فإن "حرفك مرآة مجلوة والشعر منفاك"، وما أجمله من منفى.
                                عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الهوامش
محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى"، مطبعة أنفو- برانت، فاس 2008.
محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "لي في قرار الجيب عناوين منسية" ص 11-12.
محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: " مساحة وتعطلت" ص 23.
نفسه، ص 40-41.
نفسه، ص 41.
نفسه، ص 15.
محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "أعانقك بشهوة الدالية" ص 56-57
نفسه، ص 55.
نفسه
10- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "لي في قرار الجيب عناوين منسية"، ص 9.
11- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "الواقفين على بـاب المـجاز"، ص 34.
12- نفسه.
13- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: " دفتر الهواء" ص 49.
14- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "تراتيل" ص 37.
15 – نفسه، ص 31.
16- نفسه، ص 32.
17- نفسه، ص 33.
18- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة:" دفتر الهواء" ص: 43-44-45، ثم انظر باقي القصيدة.
19- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: ذات للكاتبين: ص 77-78-79.
20- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "مساحة وتعطلت" ص 20-21.
21- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: " بصمات العزلة" ص 51-52.
22- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "مدارات الغرق" ص 73.
23- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة: "لي في قرار الجيب عناوين منسية" ص 14.
24- محمد الشنتوفي: نفسه، ص 13.
25- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة "مساحة وتعطلت"، ص 19.
26- محمد الشنتوفي: "الغابة الأولى" من قصيدة "أسماء كريسطال القلب"، ص 64.
27- نفسه، ص 65.
28-  نفسه.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟