مستوى التركيب في التائية الكبرى لابن الفارض - قليـل يوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseإن الخطاب الشعري الصوفي الفارضي الذي فرض وجوده وجعل الدارسين والعلماء على اختلاف مشاربهم يختلفون في إطلاق الأحكام على شعره، لهو بحق خطاب له مكانة ويحتاج إلى الكثير من التريث بغية النظر إليه من مختلف الزوايا الممكنة في تكوين بنيته الخطابية. إن هذا الاختلاف بقدر ما يجسِّد الوعي لدى هؤلاء القراء بأهمية وطبيعة النص الشعري، فإنه يعكس رؤية شعرية منزاحة عن المألوف والمعهود لدى هؤلاء، فلعلّهم نظروا في شعره وظنوا أنهم يطالعون شعرا غزليا حسيّا أو أنهم انتظروا شعرا بسيطا إخباريا مباشرا يتوافق مع المعايير النحوية والبلاغية المعهودة.
إن شاعرنا ومن خلال تمكنه من ناصية الشعر من جهة، ومجاراته لطبيعة شعر الجاهليين المشهود لهم بالباع الطويل في نقل الصور الحسّية من جهة أخرى، ثم الانحراف إلى صور معنوية متراصة تسموا عن المحسوس المُشاهد، نراه أخلط على المتأخرين مجرد تذوق شعره فأنى لهم الحكم عليه!
ومن ضمن هذا العدول في شعر ابن الفارض ما وقفنا عليه في قصيدته التائية الكبرى التي هي بين أيدينا اليوم، خصوصا التراكيب التي حشرها حشرا وحشدها حشدا وزجّ بها في ثنايا هذه القصيدة، فقد تنوعت التراكيب بين البنى الفعلية والإسمية والشرطية والظرفية وهو مستوى الخبر، وظهر المستوى الطلبي في الورود المكثّف للتمني والاستفهام والنداء والنهي بالإضافة إلى قيم أسلوبية أخرى أَثْرَت النص الشعري كحشد الضمائر والروابط وممارسة تبديلات في التركيب مثل التقديم والتأخير والحذف، وهذا ما سنقف عليه في هذه الدراسة.
إن أهم ما يميز تائيتنا هو أنها تحيد عن الخط العام الذي رسمه النحاة وما وضعوه من قواعد،  فهي لا تحترم التركيب المقنن بل تثور عليه، فالبيت كما يبدأ بفعل وفاعل قد يبدأ بالاسم كالمبتدأ، وقد يحدث تقديم وتأخير، فهو ليس كلاما مباشرا، بل غايته تسخير كل الوسائل اللغوية المتاحة لإحداث التأثير، ولهذا:"حرَّض عبد القاهر-الجرجاني-الباحثين على أن يعيدوا قراءة الشعر العربي في ضوء فكرة تنظيم الكلمات"(2)،  أو كما عرَّف العرب القدامى البلاغة على أنها :"بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفيَّة التراكيب حقها"(3).
إن من طموحات البحث الأسلوبي أن يستحوذ على مجالات الأداء اللغوي، لاستكشاف ما تهيئه الأنماط والتراكيب من قيم تعبيرية، ويكون ذلك بواسطة المتابعة والملاحظة للمفردة والجملة، وكيفية استخدام حروف الربط...ومن خلال ذلك كله يمكن رصد مفارق تؤدي في الكثير من الأحيان إلى الإيماء بدلالات معينة، أو الإيحاء بها"(4).
    فاختيار التركيب ليس هدفا في حد ذاته، بل هو طريق نحو فهم الصياغة المختارة وعلاقتها بالسياق ككل، لأن اختيار التراكيب في الشعر وتقديم وتأخير البنى وإظهارها وإضمارها، وحجز بعض التراكيب وتخصيصها لبداية القصيدة، ودفع التراكيب الأخرى وتخصيصها للنهاية والقافية ليس اعتباطا بل هو يصب في بنية كلية هدفها نقل التجربة الشعرية للشاعر إلى المتلقي، وهذا بالضبط ما نقصده بالتركيب في هذا المستوى وما نود التطرق إليه.
و ينقسم التركيب المفيد لإنتاج الدلالة قسمان:
" أحدهما:الذي يُحتمل أن يقال لقائله صدقت أو كذبت من حيث ذات التركيب لا من أمر خارج عن ذات التركيب ويقال له الخبر... والثاني: ما لا يحتمل ذلك ويقال له الطلب.
والأول عبارة عن الجمل الأربع: الاسمية والفعلية والشرطية والظرفية،
والثاني نوعان:
- نوع لا يستدعي في مطلوبه إمكان الحصول وهو التمني.
-ونوع يستدعي في مطلوبه ذلك، ثم إن كان طلب فعل فأمر، وإن كان طلب ترك فنهي، وإن كان طلب فهم فاستفهام، وإن كان طلب إقبال فنداء"(5).
   وبناءا على هذا التقسيم، ستكون دراستنا في التعرف على البنى الواردة في التائية الكبرى لابن الفارض.
المبحث الأول: التركيب الخبري.
وهو ذلك المستوى الذي يحمل أحكاما أو يطلق أحكاما، ونستطيع أن نقيِّم هذه الأحكام بالإيجاب أو السلب، أي أننا نستطيع الميل إلى إحدى الجهتين الإيجابية أو السلبية، أو كما عبَّر عنها الأوائل بالحكم عليها بالصدق أو الكذب، أو كما يعبر عنها حديثا بأنها البنية التقريرية أو التي تتضمن أفعالا مباشرة أي غرضها نقل المعلومة أو شحنة إخبارية، وهي أربع بنى حسب التقسيم السابق:
1- مستوى الفعل.
وهي كل بنية مبتدئة بفعل، و" الفعل عند اللغويين ما دل على الحدث، وعند النحويين ما يدل بنفسه على حدث مقترن وضعا بأحد الأزمنة الثلاثة:الماضي، والحال، والمستقبل. وينقسم الفعل باعتبار الزمن إلى ماض ومضارع وأمر"(6)، وهو عند القدماء" لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين"(7)، وقد امتلأت قصيدتنا هذه بكل أنواع الأفعال من بدايتها حتى النهاية، حتى إن ابن الفارض افتتح قصيدته هذه بفعل ماض"سقتني".
أ- الفعل الماضي: ويدل الفعل الماضي على حدث مَرَّ على وقوعه زمن، مما ينقل المتلقي من الحاضر الذي يقرأ فيه القصيدة إلى الماضي الذي وقع فيه الحدث للشاعر، مما يسمح ببث الإحساس والشعور في المتلقي فيحس بنفس الأحاسيس والعواطف التي  أوردها الشاعر، ونمثل بالأبيات التالية لابن الفارض خاصة مفتاح قصيدته:
سقتني حميَّا الحبِّ راحة ُ مقلتي        (001)   وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ
لم يفتتح ابن الفارض قصيدته بهذا البيت المبتدئ بالفعل الماضي اعتباطا، بل كان لإيراد الفعل الماضي الدال على الشرب دلالة ولا شك، فقد جعل الشاعر المتلقي يحس بالراحة والاطمئنان من خلال إخباره بحصوله على الشراب وكأنها دعوة من الشاعر للمتلقي ليبحث عن هذا الشراب أو على الأقل إغراءه للتقرب منه، وما دام أن الشاعر يصرِّح بأنه لم يسعَ نحو هذا الشراب بل راحةُ مقلته هي التي سقته وهي شيء معنوي، فقد كسر شاعرنا أفق المتلقي ليعلمه أن هذا الشراب ليس هو الشراب المعهود المألوف، وهنا تتضح شعرية النص من خلال خلق التوتر في المتلقي ودفعه إلى متابعة الشاعر للبحث أكثر في الدلالات المنزاحة من أول بيت إلى آخره.
ففي البيت الثاني والثالث يحاول الشاعر إضافة جرعة إضافية في الإيضاح، فيقول:
فأوهمْتُ صَحبي أنّ شُرْبَ شَرَابهِم،    (002)   بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة ِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي ومنْ (003)   شمائلها لا منْ شموليَ نشوتي
 إن إضافة الفعل "أوهمت" الدال على المراوغة والعدول عن المقصد الأصلي، ثم "استغنيت" الدال على المفارقة، كل هذا أحدث في المتلقي نوعا من التفطن والإدراك بأن الدلالة التركيبية هنا جاءت لتزيح اللبس الذي حصل في البيت الأول، فكيف يُسقى الشاعر ثم يوهم صحبه ويستغني عن قدحه ما دام أن الشراب مباح.
وتتوالى الأفعال الماضية لتضيف أحداث شعورية مماثلة مثل هذه الأبيات:
ففي حانِ سكري، حانَ شُكري لفتية ٍ،      (004)   بهمْ تمَّ لي كتمُ الهوى مع شهرتي
ولمَّا انقضى صحوي تقاضيتُ وصلها (005)   ولمْ يغْشَني، في بسْطِها، قبضُ خَشيتي
وأبثثتها ما بي، ولم يكُ حاضِري  (006)   رقيبٌ لها حاظٍ بخلوة ِ جلوتي
وقُلْتُ، وحالي بالصّبابَة ِ شاهدٌ،      (007)   ووجدي بها ماحيَّ والفقدُ مثبتي
هَبي، قبلَ يُفني الحُبُّ مِنّي بقِيّة ً (008)   أراكِ بها، لي نظرَة َ المتَلَفّتِ
فالأفعال(حان، تمّ، انقضى، أبثثتها، قلتُ)، وورودها على هذا الترتيب والتدرّج تبيِّن لنا نجاح الشاعر في تسخير القيم الأسلوبية للفعل للدلالة على الحيلة التي انتهجها للانفصال عن الأصحاب والخلاّن والذهاب لملاقاة محبوبته والحديث معها وجها لوجه(هَبِي)، كما ساهم هذا الاستخدام للأفعال الدالة على نوع الحركات المتتالية في جعل المتلقي يتابع هذه المراحل باهتمام متسائلا: كيف للشاعر أن ينتقل من السكر-أو انقضاء الصحو- المفضي إلى الغيبوبة ليصل إلى المحبوبة ويكلِّمها؟ مع العلم أن تكليم الحبيب يقتضي اليقظة والانتباه. لا شك أن هذا التناقض  الشعوري الموحي بأن هناك رمزية كبيرة مثيرة للتوتّر، سيصحب المتلقي لحثه على فك هذه الألغاز، وحينها يكون الشاعر قد نجح في التأثير المباشر على القارئ جاعلا له طريقا صعبا إلى السكر يجب أن يسير عليه، ومن جهة أخرى مجسِّدا لشعرية نصِّه الشعري الصوفي.
ومن أجل ذلك عمد الشاعر إلى حيلة جديدة مع المتلقي، نكتشفها في هذه الأبيات:
ومِنّي على سَمعي بلَنْ، إن منَعتِ أن    (009)   أراكِ فمنْ قبلي لغيريَ لذَّتِ
فعندي لسكري فاقة ُ لإفاقة ٍ     (010)   لها كبدي لولا الهوى لمْ تفتّتِ
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال وكانَ طو        (011)   رُ سينا بها قبلَ التَّجلِّي لدكَّتِ
هوى عبرة ٌ نمَّتْ بهِ وجوى ً نمتْ       (012)   به حرقٌ أدواؤها بي أودتِ
فطوفانُ نوحٍ، عندَ نَوْحي، كأدْمَعي؛    (013)   وإيقادُ نيرانِ الخليلِ كلوعتي
 لاحظ كيف أخّر الأفعال (لذّت، تفتّت، دكّت، أودت) الدالة على النشوة والانهيار واختتمها ببيت خالٍ من الأفعال وكأنه يريد أن يحبس المتلقي في هذه المرحلة ويشلّ حركته ليبقيه حبيسا متفكّرا معه، وكأنه في غمرة السكر ومناجاة المحبوب تعطّلت قواه الحسيّة والمعنوية فلم يعد يرى شيئا سواه. إنها الطاقة الفائقة لشاعرنا في أسر العاشقين وتكبيل المريدين، وقد أضفى ذلك جمالية وشاعرية فائقة على هذا المقطع الشعري، تتجاوب والمقامات التي يقطعها الصوفي فناءً في معبوده وبقاءً بوجوده.
هذه الهندسة التركيبية للفعل الماضي الذي يظهر ويختفي تعكس الهندسة الحركية والحيوية للصوفي الذي كلما قطع أشواطا من خلال المجاهدات مع المحسوس انقطع لبرهة ليتذوق حصيلة مجاهداته ومنفصلا عن هذا العالم المتعب بحركته التي لا تتوقف، لكنه سرعان ما يفيق من هذه الغيبوبة ليواصل المسير نحو المحطة الأخيرة التي ينشدها ويستميت من أجلها.
ومن أجل ذلك يتحفنا بالأبيات التالية:
وقدْ برَّحَ التَّبريحُ بي وأبادني       (019)   وأبْدى الضنّى مِني خفيَّ حقيقتِي
فنادمتُ في سكري النحولَ مراقبي  (020)   بجملة ِ أسراري وتفصيلِ سيرتِي
ظهرتُ لهُ وصفاً وذاتي بحيثُ لا  (021)   يراها لبلوى منْ جوى الحبِّ أبلتِ
فأبدتْ ولمْ ينطقْ لساني لسمعهِ  (022)   هواجِسُ نفسي سِرَّ ما عنهُ أخْفَتِ
وظَلّتْ لِفِكْري، أُذْنُهُ خَلَداً بها  (023)   يَدُورُ بهِ، عن رُؤْيَة ِ العينِ أغنَتِ
فأخبر من في الحي، عني ظاهرا     (024)   بباطن امري وهو من أهل خبرتِي
انظر كيف نهض شاعرنا متحركا من جديد، مما ألقى على المقطع الشعري نوعا من الانطلاقة الموحية المعبِّرة وأيقظ المتلقي حاثّا إياه على متابعة السير. وبنفس هذه القيم الأسلوبية للفعل الماضي واصل شاعرنا سلوك طريقه الشاق المتعِب.
ب- الفعل المضارع: ويدل الفعل المضارع على حدث آني يقع في اللحظة نفسها التي نقرأ فيها القصيدة مما يجعل المتلقي يعيش حاضره مع الشاعر ولا يغيب عنه، وهي لحظة شعورية تجعل من الفعل مشتركا بين الشاعر والقارئ، مما يسمح بتلاقيهما معا. ومثال ذلك ما يلي:
يُناغَى فيلغي كلَّ كَلٍّ أصابَهُ        (432)   ويُصغي لمَنْ ناغاهُ كالمتنصِّتِ
ويُنسيهِ مُرَّ الخطبِ حلوُ خطابهِ       (433)   ويذكِرهُ نجوى عهودٍ قديمة ِ
ويُعْرِبُ عن حالِ السّماعِ بحالِهِ،     (434)   فيُثْبِتُ، لِلْرَّقصِ، انْتِفاءَ النّقيصَة ِ
إذا هامَ شَوْقاً بالمُناغي، وهمَّ أنْ   (435)   يطيرَ إلى أوطانهِ الأوليَّة ِ
يَسَكَّنُ بالتَّحريكِ، وهو بِمَهدِهِ    (436)   إذا، مالَهُ أيدي مُرَبيّهِ، هَزّتِ
تأمّل تتابع الأفعال المضارعة في هذا المقطع الشعري(يناغى، يصغي، ينسيه، يذكره، يعرب، يثبت، يطير، يسكّن) وتصوّر الحالة النفسية المصاحبة للشاعر من المناجاة والإصغاء الدالان على القرب من المحبوب، والنسيان والذكر الدالان على السكر والصحو، وحركة التحليق المتبوعة بالسكون. إنها شاعرية النص في خلق جمالية التضاد بين النقيضين، ونقل بؤرة الصراع النفسي لدى الشاعر إلى القارئ، وكأن السعادة الحقيقية التي يعبر عنها الشاعر تكمن في القدرة على التوفيق بين هذين العالمين المتناقضين والثبات على الطريق من أجل الإتحاد مع الكمال الأبدي.
ونراه بعدما كان مجرد متحدث عنها، هاهو الآن يرينا تجربته خطوة خطوة، فيقول:
أُسائلُها عنّي، إذا ما لَقيتُها،        (511)   ومِن حيثُ أهدَت لي هدايَ أضلَّتِ
وأَطْلُبُها منّي، وعِنديَ لم تزل        (512)   عجبتُ لها بي كيفَ عني استجنَّتِ
وما زِلْتُ في نَفسي بها مُتَرَدِّداً    (513)   لِنَشْوَة ِ حِسّي، والمَحاسِنُ خَمرَتي
أسافرُ عن علمِ اليقينِ لعينهِ   (514)   إلى حقِّهِ حيثُ الحقيقة ُ رحلتي
وأنْشُدُني عنّي، لأُرْشدني، على (515)   لساني إلى مسترْشدي عندَ نشدتي
وأسألني رفعي الحجابَ بكشفي الـ  (516)   ـنقابَ، وبي كانَتْ إليَّ وسيلَتي
وأنظرُ في مرآة ِ حسنيَ كي أرى   (517)   جَمالَ وُجودي، في شُهوديَ طَلْعتي
فإنْ فُهتُ باسمي أُصغِ نحوي تشوُّقاً    (518)   إلى مُسْمِعي ذِكري بِنُطقي، وأُنصِتِ
وألصقُ بالأحشاءِ كفِّي عسايَ أنْ        (519)   أُعانِقَها في وَضْعِها، عِندَ ضَمّتي
وأهْفُو لأنفاسي لَعلّيَ واجِدي  (520)   بِها مُستَجيزاً أنّها بيَ مَرّتِ
إلى أنْ بَدا منّي، لِعَينيَ، بارِقٌ،    (521)   وبانَ سنَى فجرى وبانتْ دُجنَّتي

إن الشاعر يريدنا أن نعيش معه هذه اللحظات (أسائلها، أطلبها، أسافر، أنشدني، أسألني، أنظر، أصغ، أنصت، ألصق، أعانقها، أهفو) من الطلب والسفر إلى النظر والمعانقة، أي من مجاهدة النفس والهوى إلى الفوز برؤية النور الإلهي، والتمتع بمشاهدته. إن تجسيد هذه الصورة الفنية الإجمالية بالاعتماد على بنية فعلية خالصة لهو عين شاعرية الشعر، التي تجعل المتلقي متوتّرا يبحث عن الخلاص النهائي من هذا العالم الموحش الذي يشدّه نحوه مانعا إياه من البحث والانتقال نحو الأفضل.
هذه المرتبة المرتقبة يجسدها شاعرنا في الأبيات التالية:

فأسفَرْتُ بِشرَاً، إذ بَلَغْتُ إليّ عن  (523)   يقينِ يقيني شدَّ رحلٍ لسفرتي
وأرشدتُني إذْ كنتُ عنِّي ناشدي  (524)   إليَّ ونفسي بي عليَّ دليلتي
وأشهَدْتُني إيايّ، إذ لا سِوايَ، في     (528)   شُهوديَ، موجودٌ، فيَقضِي بِزَحمة ِ
وأسمعُني في ذكريَ اسميَ ذاكري،  (529)   ونفسي بِنَفيِ الحسّ أصغَتْ وأسمَتِ
وعانقتُني لا بالتزامِ جوارحي الـ        (530)   ـجوانِحَ، لكِنّي اعتَنَقْتُ هُوْيّتي
وأوجَدْتني روحي، وروحُ تَنَفّسي (531)   يعطِّرُ أنفاسَ العبير المفتَّتِ
هنا نجد الشاعر يعبر عن نشوة وفرحة الوصول (أسفرت-عانقتني) حيث تمّ له ما أراد من الاتصال بالحضرة الإلهية، فأصبح يتصرف في الأمور تصرّف الكاملين وينهل من القدرة الربانية:
فأتلُو عُلومَ العالِمينَ بِلَفْظَة ٍ؛           (589)   وأجلو علي َّ العالمينَ بلحظة
وأسْمَعُ أصواتَ الدّعاة ِ وسائِرَ الـ   (590)   لُّغاتِ بوقتٍ دونَ مقدارِ لمحة
وأحضرُ ما قدْ عزَّ للبعدِ حملهُ                 (591)   ولمْ يرتددْ طرفي إليَّ بغمضة
وأنشَقُ أرواحَ الجِنانِ، وعَرْفَ ما     (592)   يُصافحُ أذيالَ الرّياحِ بنَسمَة ِ
وأستَعرِضُ الآفاقَ نحوي بخَطْرَة ٍ،             (593)   وأختَرِقُ السّبعَ الطّباقَ بخَطوَة ِ

لقد أمسك الشاعر بيد القارئ ولم يسمح له بالانفلات من يديه وأحضره بقوة الفعل مصطحبا إياه في كل المراحل التي قطعها فشاركه انفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه، وأشربه شِعره وشاعريته، حتى وصل القارئ إلى نفس المقام وهو مقام المشاهدة الذي وصل إليه شاعره وأمسى يرى ما رآه شيخه:
تَرَى ذا مُغيْراً، باذِلاً نَفْسَهُ، وذا        (694)   يولّي كسيراً تحتَ ذلِّ الهزيمة ِ
وتَشْهَدُ رَميَ المَنجَنيقِ، ونَصْبَهُ          (695)   لهدمِ الصَّياصي والحصونِ المنيعة ِ
وتلحظُ أشباحاً تراءي بأنفسٍ     (696)   مُجَرَّدَة ٍ، في أرضِها، مُستَجِنَّة ِ
تُباينُ أنْسَ الإنسِ صُورَة ُ لَبسِها،  (697)   لِوحشَتِها، والجِنُّ غيرُ أنيسَة ِ
وتطرحُ في النّهرِ الشِّباكَ فتخرجُ الـ          (698)   ـسّماكَ يَدُ الصّيّادِ منها، بِسُرْعة ِ
ويحتالُ بالأشراكِ ناصبها على    (699)   وُقوعِ خِماصِ الطّيرِ فيها بِحبّة ِ
ويكسرُ سفنَ اليمِّ ضاري دوابهِ  (700)   وتظفرُ آسادُ الشَّرى بالفريسة ِ
ويصطادُ بعضُ الطَّيرِ بعضاً منَ الفضا   (701)   ويقنصُ بعضُ الوحشِ بعضاً بقفرة ِ
وتَلْمَحُ مِنها ما تَخطَّيتُ ذِكْرَهُ،          (702)   ولم أعتَمِد إلاّ على خيرِ مُلْحَة ِ
وهكذا يتجلى دور الفعل المضارع في إضفاء الحضور الدائم والفعلي لمشاعر الشاعر وإثارة نفس هذه الأحاسيس والمشاعر في المتلقي.
ج- فعل الاستقبال: ويهدف فعل الاستقبال إلى التطلع إلى المستقبل بالنظر إلى الحدث الذي سيقع لاحقا، كما أنه ينقل اهتمام المتلقي من الماضي والحاضر ويُبعده أزمنة نحو الأمام، مما يوسع أفق المتلقي ويجعله ينتظر هذا الحدث، وقد وردت أفعال قليلة جدا في هذه القصيدة الطويلة جدا الأمر الذي يمكننا أن نقف على الدلالة الحقيقية له بدراسة أبيات الشاعر:
سأجلو إشارات عليك خفيّـــــة    (220)   بها كعبارات لديك جليّـــة
وأُعرِبُ عنها، مُغرِباً، حيثُ لاتَ حيـ  (221)   ـنَ لَبْسٍ، بتَبْيانَيْ سَماعٍ ورؤيَة
وأثْبِتُ بالبُرْهانِ قوليَ، ضارباً      (222)   مثالَ محقٍّ والحقيقة ُ عُمدَتي
لقد وردت الأفعال (سأجلو، أعرب، أثبت) في الثلث الأول من القصيدة وتضمنت ثلاث مراتب(الإجلاء، الإعراب، الإثبات) وهي نفسها مراتب الصوفي التي ينوي تحقيقها في حياته الروحية العرفانية، وقد نجح شاعرنا في اختيار هذه الأفعال لبعث الإحساس في المتلقي من جهة، وليثري شعرية نصه في الثلثين المتبقيين من القصيدة، وقد غذّت هذه القيم الأسلوبية لفعل الاستقبال أفق الانتظار لدى المتلقي ففي كل بيت آتٍ سيظل يتذكر بأنه يتلقى توضيحات وشروحا وبراهين من شيخه تُقوّي عزيمته أكثر على مواصلة الدرب، وفي الوقت نفسه يبيِّن لنا الشاعر بأن تجربته لا تستعجل المستقبل ولا تستحضره لأنها مدركته بالمجاهدات لا محالة، مما انعكس على ندرة أفعال الاستقبال في قصيدته.
ونلاحظ في ختام هذا المطلب كيف استطاع شاعرنا أن يوظف القيمة الأسلوبية للفعل لإثارة الحركة وجعل القصيدة الشعرية تهتز حيوية ونشاطا مما أبقى على القارئ مرتبطا بها متفاعلا معها. كما عكست رغبة الشاعر في بناء فعل التواصل مع المتلقي أهمية الخطاب الشعري الصوفي في نقل المواهب العرفانية للآخرين باعتباره رسالة ذات أثر ديني وفني معا.
2- مستوى الاسم.
        الاسم عند اللغويين ما دل على مسمى وعند النحويين ما يدل بنفسه على معنى مستقل بالفهم غير مقترن وضعا بزمن من الأزمان الثلاثة: الماضي، والمستقبل، والحال(8). فالاسم يفيد الدلالة منفردا ولا نستشف منه الدلالة على الزمن فكأنه معزول عنه مثل قولنا "يوسف" دلالة على شخص إنساني، وقد حشد شاعرنا عدة أسماء في قصيدته التائية لأغراض أسلوبية وغايات تعبيرية لبناء شعرية نصه وتشييد جمالية خاصة به يمكن أن نكتشفها من أول بيت من قصيدته:
سقتني حميَّا الحبِّ راحةُ  مقلتي        (001)   وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ
 لقد وردت في هذا البيت الأول من القصيدة سبعة أسماء، وكلها محصورة بين فعلين اثنين فما دلالة ذلك يا ترى؟ وما علاقة هذا التركيب الاسمي الغالب الذي اختاره الشاعر بالمعنى؟
تدل الأسماء على الثبات والاستقرار وقد جعلها الشاعر كثيفة في مستهل قصيدته، لتكون نصب عينيه على الدوام وليكون هدفه الأسمى استحضارها باستمرار لأن السعي متوجه إليها، وأن الغاية لدى الشاعر هو الحصول على هذا الاستقرار الدائم، ونلاحظ كيف أنه زاوج بين كل اسمين مثنى مثنى وأفرد الاسم الأخير، فما تفسير ذلك يا ترى؟
إنها عبقرية الشاعر الإبداعية في تطويع اللغة وتوليدها لدلالات إيحائية منذ أول وهلة، وجمالية الخطة الفنية التي سينتهجها إلى آخر بيت من قصيدته لبناء شعرية نصه الشعري الصوفي. لقد عمد الشاعر إلى المزاوجة بين الاسمين لإيهامنا بأن له أصحاب وخلّان ورفقاء يخففون عنه عناء السفر الطويل وأنهم هدف في حد ذاتهم لأنه يخشى على الحبيب الغائب النهائي الواحد الأوحد الذي هو مقصده الأسمى، وهو نفسه الطريق الصوفي الذي يسلكه أتباعه بالاستعانة أول الأمر بالشريعة ثم الانفصال تدريجيا للوصول إلى الحقيقة الخالدة.
       في كامل القصيدة جاءت جل الأسماء متضامة جنبا إلى جنب لا يفصل بينها أي حرف، مثلما ورد في الأبيات التالية:
وقُلْتُ، وحالي بالصّبابَة ِ شاهدٌ،      (007)   ووجدي بها ماحيَّ والفقدُ مثبتي
هَبي، قبلَ يُفني الحُبُّ مِنّي بقِيّة ً (008)   أراكِ بها، لي نظرَة َ المتَلَفّتِ
فالتحام الأسماء(الفقد، مثبتي-نظرة، المتلفت) هو صورة من نفس الشاعر توحي بدلالة إرادة الاتحاد مع المحبوب المطلوب، كما أن جعل هذه الأسماء في نهاية البيت جعلنا نلاقي الشاعر ونحس معه بأن الغاية النهائية المبتغاة هي تلك السعادة الأبدية في ملاقاة النور الإلهي والفناء فيه. ولنتأمل هذه الأبيات:
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال وكانَ طو        (011)   رُ سينا بها قبلَ التَّجلِّي لدكَّتِ
هوى عبرة ٌ نمَّتْ بهِ وجوى ً نمتْ       (012)   به حرقٌ أدواؤها بي أودتِ
 فطوفانُ نوحٍ، عندَ نَوْحي، كأدْمَعي؛   (013)   وإيقادُ نيرانِ الخليلِ كلوعتي
 ولولا زفيري أغرقتني أدمعي      (014)   ولولا دموعي أحرقتني زفرتي
وحزني ما يعقوبُ بثَّ أقلَّهُ    (015)   وكُلُّ بِلى أيوبَ بعْضُ بَلِيّتي
وآخرُ ما لاقى الألى عشقوا إلي الرَّ     (016)   ـرّدى ، بعْضُ ما لاقيتُ، أوّلَ محْنَتي
فلو  سمعت اذن الدليل تأوهي      (017)   لآلامِ أسقامٍ، بجِسمي، أضرّتِ
لأَذكَرَهُ كَرْبي أَذى عيشِ أزْمَة ٍ    (018)   بمُنْقَطِعي ركْبٍ، إذا العيسُ زُمّتِ

  إن توالي الأسماء المتضامة والملتحمة معاً(طور سينا، هوى عبرة، طوفان نوح، نيران الخليل، بِلى أيوب، أول مِحنتي، آلام أسقام، أذى عيش أزمة) بالإضافة إلى التلاحم الكلّي لهذه الأسماء في المقطع الشعري أضفى حالة شعورية حزينة مؤثّرة توحي بالبداية المتعثرة لسالك طريق التصوف والذي كان شاعرنا من أوائل سالكيه. إن تلاحم القيم الأسلوبية للأسماء المتضامة مع صدق التجربة الصوفية لدى شاعرنا قد أضفى شاعرية كبيرة على المقطع الشعري والقصيدة ككل كما أن جماليته تبدّت في أبهى صورها وهي تنقل انفعالاتنا مباشرة نحو هذه الكبوة والانتكاسة غير المرغوب فيها التي تُشِيك طريق السالكين.
 ثم ينتقل شاعرنا بنا إلى الأبيات التالية:
ويَحسُنُ إظهارُ التّجلّدِ للعِدى ،      (043)   ويقبحُ غيرُ العجزِ عندَ الأحبَّة ِ
ويَمنَعُني شكوَايَ حُسْنُ تَصبّري،      (044)   ولو أشكُ للأعداء ما بي لأشكَتِ
وعُقبى اصطِباري، في هَواكِ، حمِيدَة ٌ   (045)   عليكِ ولكنْ عنكِ غيرُ حميدة ِ
وما حَلّ بي من مِحنَة ٍ، فهو مِنحَة ٌ،  (046)   وقد سَلِمَتْ، من حَلّ عَقدٍ، عزيمتِي
وكَلّ أذًى في الحبّ مِنكِ، إذا بَدا،    (047)   جعلتُ لهُ شكري مكانَ شكيَّتِي
نَعَمْ وتَباريحُ الصّبابَة ِ، إنْ عَدَتْ        (048)   على َّ منَ النعماءِ في الحبِّ عدَّتِ
ومنكِ شقائي بلْ بلائي منة ٌ     (049)   وفيكِ لباسُ البؤسِ أسبَغُ نِعمَة ِ
أرانِيَ ما أولِيتُهُ خيرَ قِنْيَة ٍ،    (050)   قديمُ وَلائي فيكِ من شرّ فِتْيَة ِ


أنظر كيف بدأت الأسماء المتضامة تتأرجح بين الطُول والقِصر(إظهار التجلد، شكواي حسن تصبري، عقبى اصطباري، حل عقد، شكري مكان شكيتي، تباريح الصبابة، لباس البؤس أسبغ نعمة، خير قنية، شر فتية) فقد انتقل الشاعر من المزاوجة بين اسمين إلى أربعة أسماء (لباس البؤس أسبغ نعمة) مما يعطينا إيحاءات بأنه كلما أوغلنا في الشعاب والدروب الوعرة لطريق التصوف تطلّب ذلك المزيد من الصبر والمعاناة من أجل إدراك ثمرة اللقاء الأخير، وفي هذا التلاحم الشعوري النفسي مع الكمّ الهائل من الدلالات الرمزية تتبدّى القدرة الكبيرة لشاعرنا في إضفاء شعرية خاصة للنص مع الجمالية الفنية المندمجة معها.
ومن نتيجة المجاهدات والصبر التي التزم بها شاعرنا في تجربته نجده يتمنى تحقيق بعضها، فيقول:
ومَطْلِعِ أنوارٍ بطلعتِكِ، التّي        (070)   لبهجتها كلُّ البدورِ استسرَّتِ
ووصفِ كمالٍ فيكِ أحسنُ صورة ٍ   (071)   وأقوَمُها، في الخَلقِ، منهُ استمدّتِ
ونعتِ جلالٍ منكِ يعذبُ دونهُ    (072)   عذابي، وتحلو، عِندَهُ ليَ قتْلَتي
وسِرِّ جَمالٍ، عنكِ كُلّ مَلاحَة ٍ      (073)   بهِ ظهرتْ في العالمينَ وتمَّتِ
وحُسْنٍ بهِ تُسبى النُّهَى دَلّني على   (074)   هوى ً حسنتْ فيهِ لعزِّك ذلَّتي
ومعنًى ، ورَاءَ الحُسنِ، فيكِ شهِدتُهُ، (075)   بهِ دَقّ عن إدراكِ عَينِ بَصيرَتي
لأنتِ مُنى قلبي، وغايَة ُ بُغْيَتي،     (076)   وأقصى مُرادي، واختياري، وخِيرَتي

ها هو يذكر بعض الأسماء المتضامة الدالة (مطلع أنوار، وصف كمال، نعت جلال، سر جمال، عزك ذلتي، إدراك عين بصيرتي، منى قلبي، غاية بغيتي، أقصى مرادي) والتي انطلق من الأنوار متتبعا إياها ليصل إلى أقصى مراده، فهل بلغ مراده؟ كلا. إن الطريق ما زالت في بدايتها بل هو يتوسّل فقط بالذات والصفات ليس إلا(الجمال والكمال والجلال)، ومن أجل الوصول ينبغي له ما يلي:
حليفُ غرامٍ أنتَ لكنْ بنفسهِ    (098)   وإبقاكَ وصفاً منكَ بعضُ أدلَّتي
فلمْ تهوَني ما لمْ تكنْ فيَّ فانياً     (099)   ولمْ تَفْنَ ما لا تُجْتَلى فيكَ صورَتي
فدَعْ عنكَ دعوى الحبّ، وادعُ لِغَيرِهِ  (100)   فؤادَكَ، وادفَعْ عنكَ غَيّكَ بالتي
وجانبْ جَنابَ الوصلِ هيهاتَ لمْ يكنْ    (101)   وهاأنتَ حيٌّ إن تكُنْ صادقاً مُتِ
 إن ورود الأسماء(حليف غرام، إبقاك وصفا، بعض أدلتي، دعوى الحب، جناب الوصل، أنت حي) متفرقة بين الصدر والعجز والتحامها مع الدلالة جعل تركيب المقطع الشعري يحفل بشعرية وجمالية مؤثِّرة تبين أن مسيرة المائة بيت لا يمكنها أبدا أن توصل شاعرنا إلى مقصده وهو الفناء في الذات الإلهية، بل بالعكس عليه بذل مجهود إضافي علّه يلاقي ما يصبو إليه:
ولستُ ملوماً أنْ أبثَّ مواهبي   (750)   وأمنَحَ أتْبَاعي جَزيلَ عَطِيّتي
ولي مِن مُفيض الجَمعِ، عندَ سلامِه      (751)   عليَّ بأوْ أدنى إشارة ُ نسبة ِ
ومنْ نورهِ مشكاة ُ ذاتي أشرقتْ          (752)   عليّ فنارَتْ بي عِشائي، كَضَحَوتي
فأشهدتني كوني هناكَ فكنتهُ      (753)   وشاهدتهُ إيَّايَ والنُّورُ بهجتي
 هذه الأسماء( جزيل عطيتي، مفيض الجمع، إشارة نسبة، مشكاة ذاتي، النور بهجتي) هي أسماء دالة أتى بها الشاعر في ختام تجربته الشعرية لينتزع ذلك الإتحاد المتضام بين الاسمين ويجعله خاصا به موحيا لنا بأنه قد حصل عليه، فقد اتحد مع النور الرباني ونال الفيض الإلهي وحقق سعادته.
ومن هنا نرى بأن الشاعر لم يدمج الاسمين معا بل أشار بذلك إلى حقيقة جوهرية لدى أتباع الصوفية هي تحقيق الأسماء والصفات في ذواتهم من خلال السلوك حتى يسهل عليهم الارتقاء والعروج إلى سدرة المنتهى والاتحاد بنور الأنوار ورب الأرباب، وبالتالي جعل ذلك النور ينعكس على بقية الخلق محققين مفهوم الخلافة الشامل.
3- مستوى الشرط.
وهو ذلك المستوى الذي تظهر فيه أداة شرط، وتتضمن الشرط وأداته وجواب الشرط، وفي هذه المرحلة يحيلنا الشاعر على كرسي الاحتياط ويضعنا على الهامش، وفي هذا الوقت المستقطع يصير أفقنا منتظرا متأملا ما سيؤول إليه الأمر مع إدراك الحالات الموجودة وسبل تحقيقها.ومن أدوات الشرط نجد"لوْ" و"إنْ".
أ- أداة "لوْ": وقد وردت في كثير من الأبيات نذكر منها:
فعندي لسكري فاقة ُ لإفاقة ٍ     (010)   لها كبدي لولا الهوى لمْ تفتّتِ
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال وكانَ طـــو     (011)   رُ سينا بها قبلَ التَّجلِّي لدكَّـــتِ
هوى عبرة ٌ نمَّتْ بهِ وجوى ً نمتْ       (012)   به حرقٌ أدواؤها بي أودتِ

إن إيراد أداة الشرط هنا في أول البيت يكسر أفق التوقع للقارئ ويوقفه عن السير ليجعله منتظرا هذا الطارئ الجديد، وبعد التأمل يدرك أن التجربة الشعرية التي يتابعها تخضع لشروط لا بد منها عَكَسَها تمثّل الشاعر لها بنفس الصيغة التي حدثت للنبي موسى على جبل طور سيناء. وفي هذا التركيب الشرطي إيحاء جمالي فني متميّز بأن الصدق في التجربة الصوفية وإتباع ما يجيء عن الشيخ سيؤدي إلى تكرار المشهد النبوي الموسوي كدلالة على أن السعي لرؤية الكمال سيتحقق ولو بعد المجاهدات المشروطة، وحصول جواب الشرط في عجز البيت دلالة على أن العسر سَيَلِيه يسر.
ومن الأبيات التي فيها أداة الشرط بـ"لو"نذكر ما يلي:
فلو سمعت أذن الدليل تأوهــي     (017)   لآلامِ أسقامٍ، بجِسمي، أضـــرّتِ
لأَذكَرَهُ كَرْبي أَذى عيشِ أزْمَة ٍ    (018)   بمُنْقَطِعي ركْبٍ، إذا العيسُ زُمّتِ
فَلو هَمّ مَكروهُ الرّدى بي لمـا دَرى   (031)   مكاني ومنْ إخفاءِ حبِّكِ خفيتـــي
فلوْ لفنائي منْ فنائكِ ردَّ لــــي      (033)   فُؤاديَ، لم يَرْغَبْ إلى دارِ غُرْبَـــة ِ
فلوْ كشفَ العوَّادُ بي وتحقَّقــــوا    (038)   منَ اللوحِ ما مني الصَّبابة ُ أبقــتِ
لما شاهدتْ منِّي بصائرهمْ سوى   (039)   تخلل روح بين أثواب ميِّتِ
ولو أُبْعِدَتْ بالصّدّ والهجْرِ والقِلــى       (063)   وقَطْعِ الرّجا، عن خُلّتي، ما تَخَلّـتِ
ولوْ خطرتْ لي في ســـواكِ إرادة ٌ       (065)   على خاطري سهواً قضيتُ بردَّتــي
وهكذا تتكرر القيم الأسلوبية للشرط لتندمج دلالاتها الإيحائية المعبرة مع ضرورات السلوك الصوفي في كلٍّ متناغم يعبر عن التجربة الناجحة للشاعر الصوفي في الفوز بأرقى معارج الأنس والقرب. ويضيف الشاعر تحقيق ذاته من خلال الأبيات التالية:

ولو كنتَ بي من نقطة ِ الباءِ خفضـة ً    (094)   رُفعتَ إلى ما لَمْ تنلهُ بحيلـــــة ِ
فلو قيلَ من تهوى وصرَّحتُ باسمِها          (127)                لقيل كنى أو مسه طيف جِنّة
ولو عَزّ فيها الذّلُّ ما لَذّ لي الهـوى ،       (128)   ولم تك لولا الحب في الذل عزّتــي
فلو واحِداً أمسَيتَ أصبحْتَ واجِـداً،   (226)   مُناَزلة ً ما قلتهُ عن حقيقـــــة ِ
فلو ْمنحتْ كلّ الوَرى بعضَ حُسنها،      (380)   خَلا يوسُفٍ، ما فاتَهُمْ بِمَزِيّــــة ِ
فلو بسطت جسمي رأت كل جوهـر      (387)   بهِ كلُّ قلبٍ فيهِ كلُّ محبَّـــــة ِ

إن توظيف الشاعر لأداة الشرط"لو" حاول من خلالها تبيان الموانع والعوائق التي تحيط بالطريق وتعيق سبيل العاشقين الراغبين في القرب من الذات الإلهية، كما أن القيمة التي اتخذتها أداة الشرط وهي تقف على عتبات البيت الشعري جعلتنا نوقن بألا سبيل أمامنا سوى تحقيقها أولا ثم الانتقال لما بعدها وفي ذلك شعرية نصية وجمالية شعرية سمت بالقصيدة إلى الأدبية والإبداعية وحققت ذات الشاعر في ابتكار أسلوب خاص به.
ب- أداة "إنْ": هذه الأداة هي من أدوات الشرط أيضا وقد أثرت الأبيات الشعرية التالية دلالة وإيحاءً:
وإنْ فتنَ النُّساكِ بعض محاســـــن      (082)   لديكِ، فكُلٌّ منكِ موْضِعُ فِتنَتـــي
وإنْ لمْ أفُزْ حَقاً إليكِ بِنِسبَـــــة ٍ      (107)   لعزَّتها حسبي افتخاراً بتهمـــــة ِ
فإنْ صحَّ هذا القالُ منكِ رفعتِنـــي    (113)   وأعليتِ مقداري وأغليتِ قيمتـــي
فإن أجنِ مِن غرْسِ المُنى ثَمَرَ العَنــا،      (135)   فِلَّلهِ نفسٌ في مُناها تمنَّــــــتِ
فإن طرقتْ سرّاً من الوهمِ خاطــري       (138)   بِلا حاظِر، أطرَقْتُ إجلالَ هيبَـــة ِ
فإن دُعِيَتْ كنتُ المُجيبَ وإن أكــنْ   (216)   منادًى أجابت منْ دعاني ولبَّـــتِ
وإن نَطَقَتْ كنْتُ المُناجي، كــذاك إن  (217)   قصَصتُ حديثاً إنَّما هي قصَّـــتِ
فإن لم يُجوِّزْ رؤية َ اثنين واحــــداً (219)   حِجَاكَ ولم يثبت لبُعدِ تثبُّـــــتُ
فإنْ سيلَ عن مَعنًى أتَى بغرائـــبٍ،    (320)   عن الفهمِ جلَّتِ بلْ عنْ الوهمِ دقَّـتِ
وإن طَرَقتْ لَيلاً، فشَهرِيَ كُلّــــهُ (371)   بها ليلة ُ القدرِ ابتهاجاً بــــزورة ِ
وإن قَرُبَتْ داري، فعاميَ كُلّــــهُ    (372)   ربيعُ اعتدالٍ، في رِياضٍ أريضَـــة ِ
وإنْ رَضيتْ عني، فعُمريَ كُلُّــــهُ    (373)   زمانُ الصّبا، طيباً، وعصرُ الشبيبَــة ِ
فإنْ فُهتُ باسمي أُصغِ نحوي تشوُّقــاً  (518)   إلى مُسْمِعي ذِكري بِنُطقي، وأُنصِـتِ
وفي قولِهِ إنْ  مانَ فالحَقّ ضارِبٌ     (658)   بهِ مثلاً والنفسُ غيرَ مجدَّة ِ
فإنْ ناحَ في الأيكِ الهزارُ وغرَّدتْ    (727)   جواباً لهُ، الأطيارُ في كلّ دَوحَة ِ
وإنْ نارَ بالتَّنزيلِ محرابُ مسجدٍ      (733)   فما بارَ بالإنجيلِ هيكلُ بيعة ِ
وإن خَرَّ للأحجارِ، في البُدّ، عاكِفٌ،  (735)   فلا وجهَ للإنكارِ بالعصبيَّة ِ
وإنْ عبدَ النَّارَ المجوسُ وما انطفتْ   (740)   كما جاءَ في الأخبارِ في ألفِ حجة ِ

لقد توزّعت أداة الشرط"إنْ" بشكل متوازن في كامل القصيدة، فكان حضورها في الأبيات الأولى من القصيدة والوسط والنهاية، وقد أضفى هذا الحضور شعورا نفسيا في المتلقي من الشاعر الناصح الأمين بأنه إلى جانبه لا يفارقه، وهو يسعى في سبيل إيصاله إلى بر الأمان، كما انعكست الدلالة الشرطية لتضفي حضور العناية الربانية في كامل الطريق، وأن ما يراه المريد أحيانا من أحوال شاذة لا يعدو كونه صورة للتفرد على هيئة التعدد( خر للأحجار، عبد النار)، فالسالكون كُثُر وطرق الوصول إلى الغاية الواحدة متشعِّبة ومختلفة من طائفة لأخرى.
4- مستوى الظرف(9).
وهو ذلك المستوى الذي يتركّب من الظرف وهو المسمى المفعول فيه، وينقسم إلى ظرف زمان وظرف مكان.
أ- ظرف الزمان:
ويتضمن أقسام الزمان والأوقات المختلفة كاليوم والشهر والسنة والدقيقة، ولا شك أن هذا التركيب الزماني له دلالة شعورية تنقل أفق التلقي من الحاضر الذي يتواصل فيه القارئ مع الشاعر وهو ماضٍ في مطالعة القصيدة لتجعله متنقلا متجولا في أزمان مختلفة ومتباعدة، ونذكر منها هذه الأبيات التي أوردها الشاعر في تائيته:
وصُمتُ نهاري رغبة ً في مثوبـــة ٍ       (270)   وأَحْيَيْتُ ليلي، رَهبْة ً مِن عُقوبَـــة
وكلُّ اللَّيالي ليلة ُ القدرِ إنْ دنَـــتْ      (356)   كما كُلُّ أيَّامِ اللِّقا يومُ جُمعــــة ِ
نهاري أصيلٌ كلُّهُ إن تنسَّمــــتْ      (369)   أوائيلُهُ مِنها برَدّ تحِيّتـــــــي
وليلي فيها كلهُ سحَــــــرٌ إذا (370)   سرَى لي منها فيهِ عرفُ نُسيمـــة ِ
وإن طَرَقتْ لَيلاً، فشَهرِيَ كُلّــــهُ (371)   بها ليلة ُ القدرِ ابتهاجاً بــــزورة ِ
وإن قَرُبَتْ داري، فعاميَ كُلّــــهُ    (372)   ربيعُ اعتدالٍ، في رِياضٍ أريضَـــة ِ
وإنْ رَضيتْ عني، فعُمريَ كُلُّــــهُ    (373)   زمانُ الصّبا، طيباً، وعصرُ الشبيبَــة ِ
وينعمُ طرفي إن روتهُ عشيَّـــــة ً      (422)   لإنْسانِهِ عَنها بُروقٌ، وأهْــــدَتِ

لنتأمل الأزمان المذكورة آنفا(نهاري، ليلي، ليلة القدر، أصيل، سحر، شهري، عامي، ربيع، عمري، عصر، عشية) وكيف شكّل بعضها أجزاء النهار(أصيل، عصر، عشية) وبعضها الآخر أجزاء الليل(سحر) والبعض أجزاء السنة( شهري، ربيع) والبعض أجزاء عمر الشاعر (شهري، عامي) كما أحالتنا (ليلة القدر، العصر، سحر) على أجلّ مواقيت ذكر الخالق وعبادته. إن هذا التركيب الزماني المشتمل على كلّ الأوقات القصيرة والطويلة جعلت المتلقي يحس ويشعر أنه في كامل هذه الأوقات له وظائف محددة، لأن الأوقات المذكورة لها ما يناسبها من أعمال محددة يجب أن يقوم بها العبد المجتهد، فاندمجت هذه البنى الظرفية مع السياق التعبيري لتنقلنا من مجرد ذكرها المباشر إلى الطابع الرمزي الإيحائي الغني بالدلالات التي تتجاوب مع الحالة الشعورية للشاعر المرتقب للفيض الإلهي بعد جهد المجاهدات وطول الانتظار.
ب- ظرف المكان:
وهو كل ظرف دل على المكان، ويساهم ذكره في النص نقل المتلقي من مكان إلى آخر باستمرار مما يبعث بالحيوية في نفسه، وكأنها جولة سياحية من الشاعر، مثل "أينَ" و"فوق" و"تحت" وعموما على الأمكنة مثل قوله:
فقلت لها: روحي لديك، وقَبضها    (103)   إليكِ، ومَن لي أن تكونَ بقبضَتي
فطورك قد بلغته ، وبلغت فَــــوْ (308)   ـق طورِكَ حيثُ النَّفسُ لم تكُ ظُنَّـتِ
وثَمَّ أمورٌ تم لي كشفُ سِترهــــا      (394)   بصحوِ مفيقٍ عن سوايَ تغطَّـــتِ
فلا أينَ بعدَ العَينِ، والسّكْرُ منهُ قــدْ     (479)   أفَقْتُ، وعينُ الغينِ بالصَّحوِ أصحَـتِ
فما فَوْقَ طَوْرِ العَقلِ أوّلُ فَيضَـــة ٍ،    (492)   كما تحتَ طورِ النَّقلِ آخرُ قبضــة ِ

لقد وردت في هذه الأبيات الوحدات اللغوية التالية(لديكِ، فوق، ثمَّ، أينَ، تحت) وهي الوحدات التي تكرّر حضورها بشكل لافت للانتباه في كامل القصيدة وإذا رتّبناها بالشكل التالي(تحت، فوق، لديكِ، ثَمَّ) تبيّنت دلالاتها العرفانية المصاحبة لشاعرنا في سلوك طريق التصوف، فهذا الترتيب أصبح يوحي بالمراتب والمقامات التي قطعها الشاعر للوصول إلى أرقى الدرجات عند مليك مقتدر. وبالتالي فإن ظرف المكان في التجربة الشعرية لدى ابن الفارض غدا ذا قيمة أسلوبية فنية لها امتداداتها الشعرية الجمالية التي أثرت النص الشعري لابن الفارض.
المبحث الثاني: التركيب الطلبي.
وهو ذلك المستوى الذي لا تحتمل فيه البنية الحكم عليها بالصدق أو الكذب، أي أنها ليست تقريرية أو تتضمن أفعالا مباشرة، وهي نوعان:
1- البنية التي لا تستدعي في مطلوبها إمكان الحصول: أي تلك البنية التي لا تتناهى إلى فهمنا أن حصولها ممكن وهي التمني، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وقد وردت في التائية بأداة "لوْ".
التمني بـ "لو ": مثل قول ابن الفارض:
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال وكانَ طو        (011)   رُ سينا بها قبلَ التَّجلِّي لدكَّــــتِ
فَلو هَمّ مَكروهُ الرّدى بي لمـــا دَرى (031)   مكاني ومنْ إخفاءِ حبِّكِ خفيتـــي
فلوْ لفنائي منْء فنائكِ ردَّ لــــي     (033)   فُؤاديَ، لم يَرْغَبْ إلى دارِ غُرْبَـــة ِ
فلوْ كشفَ العوَّادُ بي وتحقَّقــــوا    (038)   منَ اللوحِ ما مني الصَّبابة ُ أبقـــتِ
ولو أُبْعِدَتْ بالصّدّ والهجْرِ والقِلى (063)   وقَطْعِ الرّجا، عن خُلّتي، ما تَخَلّــتِ
ولوْ خطرتْ لي في سواكِ إرادة ٌ  (065)   على خاطري سهواً قضيتُ بردَّتــي
ولو كنتَ بي من نقطة ِ الباءِ خفضـة ً    (094)   رُفعتَ إلى ما لَمْ تنلهُ بحيلـــــة ِ
ولو عَزّ فيها الذّلُّ ما لَذّ لي الهــوى ،      (128)   ولم تك لولا الحب في الذل عزّتــي
فلو منحتْ كلّ الوَرى بعضَ حُسنهـا،      (380)   خَلا يوسُفٍ، ما فاتَهُمْ بِمَزِيّــــة ِ
لقد تكرّر التمني في البدايات المبكّرة للقصيدة مما جعلها تومئ بالترجي المستمر من جانب الشاعر، وتلقي بظلالها على المتلقي كي يساير هذه الحركة المتوسّلة والساعية إلى ملاقاة الأنوار القدسية علَّها تخفف العبء عليه في طريق المجاهدات وتعينه على الثبات ومواصلة الدرب.
2- البنية التي تستدعي في مطلوبها إمكان الحصول وهي أنواع: أي تلك البنية التي يمكن لها أن تتحقق وهي أنواع منها: الأمر، النهي، الاستفهام، والنداء.
أ- الأمر: وهو طلب القيام بالفعل، وقد يتحقق ذلك خاصة إذا كان هذا الطلب موجها من الشيخ أو يقتضيه الحصول على الجمال الحقيقي الإلهي، مثلما ورد في قول ابن الفارض:
فدَعْ عنكَ دعوى الحبّ، وادعُ لِغَيرِهِ  (100)   فؤادَكَ، وادفَعْ عنكَ غَيّكَ بالتــي
وجانبْ جَنابَ الوصلِ هيهاتَ لمْ يكنْ    (101)   وهاأنتَ حيٌّ إن تكُنْ صادقاً مُــتِ
فَخَلِّ لها، خُلّي، مُرادَكَ، مُعْطِيـــاً      (175)   قِيادَك من نفسٍ بها مطمئنَّــــة ِ
وأمسِ خَليّاً من حُظوظِكَ، واسمُ عن     (176)   حضيضِكَ، واثبُتْ، بعد ذلكَ تنبُـتِ
وسدّد وقارب واعتصم واستقم لهـا  (177)   مجيبا إليها عن إنابة مخبـــــتِ
        وعُدْ من قريب واستجب واجتنب غداً       (178)    أشمر عن ساق اجتهاد بنهضــــةِ
        وكُنْ صارِماً كالوقتِ، فالمَقْتُ في عسى        (179)   وإيَّاك علاَّ فهيَ أخطرُ علَّــةِ
تأمل بنية الأمر الواردة في المقطع الشعري (دعْ، ادعُ، ادفعْ، جانبْ، مُتِ- خلِّ، أمسِ، اسمُ، اثبتْ، سدّدْ، قاربْ، اعتصمْ، استقمْ، عدْ، استجبْ، اجتنبْ، كنْ) وكيف تراكبت من أجل غاية تعبيرية ودلالة روحية مثلت ذلك الارتقاء العرفاني المتدرج الذي يأمر به الشيخ أتباعه، وما بعثه من تدفق شعوري في المتلقي ليجعله في حالة استعداد للانطلاق نحو الكمال الأبدي. إن الامتزاج الدلالي لبنية الأمر الممثلة لإيجابية الفعل مع فعل العروج الصوفي نحو الحقيقة الخالدة التي تتوق إليها أنفسُ العباد أغنى شعرية النص الشعري وقذف بقوة العبارة الناصحة الهادية لتشكيل جمالية أخلاقية ذات أبعاد عقائدية حالمة.
ومع هذه الصرخة المدوِّية الموقنة بالحصول على النتيجة النهائية السارة، تتواصل الأوامر بكل حزم:
        وسِر زمناً، وانهض كسيراً، فَحَظّك الـ  (181)   ـبطالة ما أخرت عزما لصحّـــة
وَأقدِمْ، وقَدّمْ ما قَعدتَ لهُ معَ الــ        (182)   ـخوالِفِ، وَاخرُجْ عن قيود التّلفّتِ
وجُذّ بسيفِ العزمِ سوفَ فإن تجُــدْ     (183)   تجِد نفساً فالنَّفسُ إن جُدتَ جَـدَّتِ
وأقبِلْ إليها، وانحُها مُفلِساُ، فقــدْ (184)   وصَيتَ لِنُصحي، إن قبِلتَ نصيحتـي
وتتكرر من جديد هذه الأوامر:

وعادِ دواعي القيلِ والقالِ، وانجُ من    (190)   عوادي دعاو ٍصدقُها قصدُ سُمعـة ِ
        فكُنْ بصراً وانظر وسمعاً وعهْ وكــنْ   (194)   لساناً وقُل فالجمعُ أهدَى طريقــة ِ
ودَعْ ما عداهَا واعدُ نفسكَ فهي منْ     (196)   عِدَاها وعذ منها بأحصَنِ جُنَّـــة ِ

ويبدأ بالظهور الوعد الموعود، فتتعمق الأوامر أكثر كي لا يحصل الغرور في النفس:

فجاهِدْ تُشاهدْ فيكَ منكَ وراءَ مــا    (236)   وصَفْتُ، سُكوناً عن وُجودِ سَكينـة
وفارِقْ ضَلالَ الفَرْقِ، فالجمْعُ مُنتِـجٌ      (240)   هُدى فِرْقَة ٍ، بالاتّحادِ تَحَـــدّتِ
وصرِّحْ باطلاقِ الجمالِ ولا تقــلْ      (241)   بِتَقْييدهِ، مَيلاً لزُخْرُفِ زينَـــــة
     فطِبْ بالهَوَى نَفساً، فقد سُدتَ أنفُسَ الـ       (296)   ـعِبادِ مِنَ العُبّادِ، في كُلّ أُمّـــة ِ
وفُزْ بالعلى، وافخر على ناسك علا ،      (297)   بظاهِرِ أعمالٍ ونفسٍ تزكــــتِ
وجُزْ مُثْقَلاً، ولو خَفّ طَفّ موُكَّـلاً       (298)   بمنقولِ أحكامٍ، وَمَعْقولِ حِكْمـــة
وحُز بالولا ميراثَ أرفعِ عـــارفٍ       (299)   غدا همُّهُ إيثارَ تأثيرِ هِمَّــــــة ِ
وتِهْ ساحباً، بالسُّحبِ، أذيالَ عاشِقٍ، (300)   بوصلٍ على أعلى المجرَّة ِ جُـــرَّتِ
وجُلْ في فُنونِ الإتّحادِ ولاتَحِـــدْ  (301)   إلى فِئة ٍ، في غيرِهِ العُمْرَ أفنَـــتِ
فمتَّ بمعناهُ وعِشْ فيهِ أو فمُـــتْ    (303)   مُعَنّاهُ، واتْبَعْ أمّة ً فيهِ أمّـــــتِ
وحَدُّكَ هذا، عندَهُ قفْ، فَعنهُ لــوْ  (309)   تقدَّمتَ شيئاً لاحترقتِ بجـــذوة ِ
وعند الوصول إلى الحد الأقصى يجب التوقف من أجل إدراك حقيقة السلوك وأخذ العبر:

فذرْ لي ما قبلَ الظهورِ عرفتُــــهُ     (314)   خصوصاً وبي لم تدرِ في الذَّرِّ رُفقتـي
وألغِ الكُنى عنِّي ولا تَلغُ ألكَنـــاً (316)   بها فهيَ من آثارِ صيغة ِ صنعَتـــي
تنبَّهْ لنقلٍ الحسِّ للنَّفسِ راغبــــاً        (419)   عن الدَّرسِ ما أبدت بوحي البديهـة ِ
فخذْ علمَ أعلامِ الصِّفاتِ بظاهرِ الـ   (537)   ـمعالمِ من نفسٍ بذاكَ عليمـــة ِ
لا شك أن بنية الأمر الحاثة على القيام بالفعل نقلت النص من السرد العادي الذي يجد فيه المتلقي نفسه مجرد مُصطحَب مع تجربة الشاعر إلى المباشرة والمواجهة التي يتفاعل معها من أجل إنجاز الفعل المطلوب بنفسه وبالتالي الاستغناء عن الشيخ، مما حوّل النص من الرتابة إلى الحيوية والتوتّر الذي خلق شعرية خاصة للنص الشعري الفارضي، وأضفى عليه جمالية كبيرة.
ب- النهي: وهو طلب الامتناع عن الفعل، ويوحي في النص الشعري أن هناك سبلا لا يجب أن تُطرق وأَنَّ على المتلقي أن يتلقّفها لأن له فيها سعادته المرجوّة، وأدات النهي الغالبة "لا" مثل قول الشاعر:
ولا تتّبِعْ منْ سَوّلَتْ نفسُهُ لَــــهُ،       (195)   فصارَتْ لهُ أمَّارة ً واستمــــرَّتِ
فلا تَكُ مفتوناً بِحُسْنِكَ، مُعْجبــــاً       (239)   بنفسِك موقوفاً على لبس غـــرَّة ِ
ولا تَقْرَبوا مالَ اليتيــــمِ، إشَارَة ٌ       (289)   لكفِّ يدٍ صُدَّتْ له إذ تصــــدّتِ
فلا تَعشُ عن آثارِ سَيريَ، واخشَ غَيْـ  (291)   ـنَ إيثار ِغيري، واغشَ عَينَ طريقتـي
ولا تُسمِني فيها مُريداً فمَنْ دُعـــي  (315)   مُراداً لها جَذباً فقيرٌ لعصمتــــي
ولا تدعُني فيها بنَعتٍ مُقَــــرَّبٍ،   (321)   أراهُ بِحُكمِ الجمعِ فَرْقَ جريـــرَة ِ
فلا تَعدُ خَطّي المُستقيمَ، فإنّ في الـــ       (502)   ـزَّوايا خبايا فانتهزْ خيرَ فرصـــة ِ
تكرّر الفعل المضارع في أوائل الأبيات وهو فعل يدل على الحركة لكنه مسبوق بأداة النهي"لا" مما جعلها تقوم بتعطيل هذه الحركة، وإذا لاحظنا أن أداة النهي حاضرة في مواضع متفرقة في القصيدة، فإن في ذلك دلالات أراد الشاعر أن يوصلها إلى متلقي شعره ومن ثمَّ إلى كلِّ أتباعه بأنه حاضر وحريص عليهم أشدّ الحرص لئلا يسقطوا في الطريق، وأن المريد إذا لازم شيخه وأطاعه فإنه لن يجد التفريط منه حتى يرِد باب المكاشفات الربانية.
ج- الاستفهام: وهو طلب الفهم، وقد يأتي على سبيل البيان بما يتناسب والطرق التعليمية، وتكمن أهمية ذلك في منح المتعلم فرصة التفكر وتحضير الإجابة وكذا خلق التواصل من خلال تبادل الأفكار والتأكيد عليها، وقد قيل أن:"الاستفهام يلزمه معنيان:أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم، والثاني طلب معرفة أحدهما"(10)، وجاء الاستفهام قليلا في تائية ابن الفارض وهي هذه الأبيات:

أجبريلُ قُل لي كانَ دحيةُ إذ بـــدا     (281)   لِمُهدي الهُدى ، في هَيئة ٍ بَشَريّــة
أغَيرُكَ فيها لاحَ، أمْ أنتَ ناظِرٌ     (661)   إليكَ بها عندَ انعكاسِ الأشعة ِ
أَهَلْ كانَ منْ ناجاكَ ثمَّ سواكَ أمْ           (663)   سَمِعتَ خِطاباً عن صَداكَ المُصَوّتِ
وقُل ليَ :مَن ألقى إليكَ عُلُومَهُ،     (664)   وقد رَكدتْ منكَ الحواسُ بغَفوَة ِ
أَتحسبُ من جاراكَ في سنة ِ الكرى        (667)   سِواكَ بأنواعِ العُلُومِ الجليلَة
أول ملاحظة تبدو جليّة هي ظهور الاستفهام في نهاية القصيدة، ثم نوعية الاستفهام في حد ذاته، فالشاعر هنا لا يسعى إلى فهم شيء يجهله بل يهدف من خلال هذا الاستفهام التعليمي التواصل مع مريديه وأتباعه، ولعل الدليل على ذلك وجود الهمزة التي تدلّ على نداء القريب، فبعدما رافق الشيخ تلميذه من أول خطوة في مسيرته الطويلة هانحن نراه في النهاية يستخلص له العبر ويعطيه زبدة المجاهدات التي حثّهُ عليها. إن جمالية نقل أفق القراءة من التفكير في المسير إلى التوقف ومشاركة الشاعر في التفكّر، والتأكيد من خلال التساؤل على المسائل الجوهرية في التجربة الشعرية الصوفية الروحية والعرفانية، خلقت شاعرية للنص وأعطته لمسة إبداعية متفرّدة.
د- النداء: وهو طلب إقبال، ويجيء في الشعر لغايات إبداعية عديدة، وله عدة أدوات نوجزها في البيتين التاليين لابن مالك:
وللمنادى الناءِ أو كالناءِ يا     --*--                 وأي وآكذا أيا ثم هيا
والهمز للداني ووَا لمن ندب     --*--     أو يا وغير وَا لدى اللبس اجتنب(11)
فهناك إذن نداء البعيد ونداء القريب، نذكر منهما هذه الأبيات لابن الفارض:
- نداء البعيد:مثل هذه الأبيات:
فيا مُهجتي ذوبي جوى ً وصبابـــة ً       (340)   ويا لوعَتي كوني، كذاكَ، مُذيبتـــي
ويا جَلَدي في جنبِ طاعة ِ حُبِّهـــا    (343)   تحمَّل عَداَكَ الكَلُّ كُلَّ عظيمــــة
ويا حُسنَ صبري في رِضى من أُحبُّهـا     (342)   تجمّلْ، وكُنْ للدّهرِ بي غيرَ مُشمِــتِ
ويا سقَمي لا تُبْقِ لي رمقاً فقــــدْ   (345)   أبيتُ، لبُقيْا العِزِّ، ذُلّ البَقيّــــة ِ
ويا صحَّتي ما كانَ من صُحبتي انْقضـى    (346)   ووصلُك في الأحشاءِ ميتاً كهجــرَة
ويا كلّ ما أبقى الضّنى منّيَ ارتحِــلْ، (347)   فما لكَ مأوى ً في عظامٍ رَميمـــة ِ
ويا ما عسَى منّي أُناجي، تَوَهّمــــاً  (348)   بياءِ النَّدا أُونِستُ منكَ بوحشـــة ِ
ويا نارَ أحشائي أقيمي من الجـــوَى      (341)   حنايَا ضُلوعي فهيَ غيرُ قويمــــة ِ
الشاعر هنا ينادي (مهجتي، لوعتي، جَلدي، حسن صبري، سقمي، صحتي، نار أحشائي) وهي كلها معنوية وقد ناداها بنداء البعيد مع أنها ملتصقة به بدليل إضافتها إليه، فهل بعدت عنه؟
   إنها ألِفت الدار الفانية وهو يريد الانصراف إلى السعادة الباقية فالشاعر يناديها كي تصحبه وتشدّ أزره ولكنها لا تلبي له نداءً بل انسلخت عنه واختارت لنفسها طريق الهرب فتباعدت عنه وتوارت بالحجاب، وما كان من نداءاته إلا أن ذهبت أدراج الرياح، وهذا هو حال النفس الأمارة بالسوء التي لا تجيب صاحبها في طريق الخير.
- نداء القريب:ويوحي هذا النداء بالقرب، ويشد القارئ ليجعله يندمج مع النص ليشترك في النداء مع الشاعر، وقد ورد بيت وحيد في القصيدة هو:
أجبريلُ قُل لي كانَ دحية ُ إذ بـــدا    (281)   لِمُهدي الهُدى ، في هَيئة ٍ بَشَريّـــةِ
لقد استدعى الشاعر هنا الملَك جبريل ليسأله، وقد جعله قريبا منه ليوحي للقارئ بأنه قد وصل إلى أرقى الدرجات حتى لاقى الملائكة، كما أن استحضار الرسول الروح الأمين وسماع منه الجواب يقطع كل شك يراود القارئ ويدفعه لتصديق الشاعر بالقوة، وهذا هو دأب الواصلين يعتمدون على أقوى حُجّة وأصدق برهان.
المبحث الثالث:أحوال التركيب.
بعدما تعرفنا على المستويين الخبري والطلبي، يجب أن نعلم أن لكليهما ركنين هما:
1-المسند: ويسمى المحكوم به أو المخبر به، والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو ما في معناه من نحو المصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل والظرف.
2-المسند إليه: ويسمى المحكوم عليه أو المخبر عنه، والنسبة التي بين المسند والمسند إليه تسمى الإسناد(12).
والمسند والمسند إليه ...قد تلحقهما لأغراض بلاغية أحوال من الذكر والحذف، أو التقديم والتأخير، أو التعريف والتنكير، أو التقييد، أو القصر، أو الخروج عن مقتضى الظاهر في المسند إليه وفي غيره "(13).
وسنكتفي هنا بالتطرق إلى التقديم والتأخير والحذف فقط وهما ميزتان أسلوبيتان نلحظهما في التائية الكبرى لابن الفارض بشكل كثيف وبارز.
-       التقديم والتأخير:
يمثِّل التقديم والتأخير في العمل الفني الأدبي قيمة أسلوبية هامة لتشييد أدبية الأدب من جهة ومن جهة أخرى جعل النص ينبض بالإبداع والتجدد، كما تتحدد المستويات التي يرد فيها بالأولوية في لفت انتباه القارئ وتغيير أفق توقعه مما يتناسب والحالة الشعورية للشاعر، وهذه الهندسة التركيبية للتقديم والتأخير تبتغي التأثير في المتلقي من خلال بث التوتر فيه بجعل البنى ذات الأولوية تبرز في المقام الأول وتليها البنى الثانوية لاحقا.
وقد اشتغل شاعرنا على هذه القيمة الأسلوبية منذ أول بيت في القصيدة لإدراكه فعاليتها الخطابية بما يتناسب والغايات التعبيرية التي ينشدها، فيقول:
سقتني حميَّا الحبِّ راحة ُ مقلتي        (001)   وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي ومنْ (003)   شمائلها لا منْ شموليَ نشوتي
فعندي لسكري فاقة ُ لإفاقة ٍ     (010)   لها كبدي لولا الهوى لمْ تفتّتِ
هوى عبرة ٌ نمَّتْ بهِ وجوى ً نمتْ       (012)   به حرقٌ أدواؤها بي أودتِ
فطوفانُ نوحٍ، عندَ نَوْحي، كأدْمَعي؛    (013)   وإيقادُ نيرانِ الخليلِ كلوعتي
اختار الشاعر تقديم الوحدات التعبيرية التالية:(حُميَّا الحب، وبالحدق، ومن شمائلها، لسكري، هوى عبرةٌ، جوى، حرقٌ، طوفان نوح، إيقاد نيران الخليل) في هذا المقطع الشعري الذي افتتح به قصيدته لتكون مفاتيح للنص الشعري يدرك من خلالها المتلقي أهمية هذه الوحدات في التجربة الشعرية لابن الفارض والتي سترافقه من خلال مترادفاتها في كامل القصيدة. إن الالتحام الدلالي لهذه الكلمات المتقدمة مع أحاسيس الشاعر ومشاعره الفياضة التي تَتُوق بكل حُرقة أن تلاقي ذلك الفيض الإلهي وتفنى فيه، شكّل مشهدا مُعبِّرًا تندمج فيه حالة الإلحاح في الوصال من قبل الشاعر وعِزّة المطلوب الذي يُرجى وصاله، مما أضفى جمالية على هذه الأبيات وجعل هذه الكلمات تبرز أكثر. وهاهو يورد أبيات أخرى فيما يلي:
ومُحْكَمِ عهدٍ، لم يُخامِرْهُ بيننا     (067)   تَخَيّلُ نَسْخٍ، وهوَ خيرُ أليّة
وسابِقِ عهدٍ لم يَحُلْ مُذْ عَهِدْتُهُ  (069)   ولاحِقِ عَقدٍ، جَلّ عن حَلّ فترَة
ومَطْلِعِ أنوارٍ بطلعتِكِ، التّي        (070)   لبهجتها كلُّ البدورِ استسرَّتِ
ووصفِ كمالٍ فيكِ أحسنُ صورة ٍ   (071)   وأقوَمُها، في الخَلقِ، منهُ استمدّتِ
ونعتِ جلالٍ منكِ يعذبُ دونهُ    (072)   عذابي، وتحلو، عِندَهُ ليَ قتْلَتي
وسِرِّ جَمالٍ، عنكِ كُلّ مَلاحَة ٍ      (073)   بهِ ظهرتْ في العالمينَ وتمَّتِ
وحُسْنٍ بهِ تُسبى النُّهَى دَلّني على   (074)   هوى ً حسنتْ فيهِ لعزِّك ذلَّتي
ومعنًى ، ورَاءَ الحُسنِ، فيكِ شهِدتُهُ، (075)   بهِ دَقّ عن إدراكِ عَينِ بَصيرَتي
لأنتِ مُنى قلبي، وغايَة ُ بُغْيَتي،     (076)   وأقصى مُرادي، واختياري، وخِيرَتي

هنا نجد الشاعر عمد إلى تقديم الكلمات (محكم عهد، سابق عهد، مطلع أنوار، وصف كمال، نعت جلال، سر جمال، حسن، معنى، لأَنْتِ) وكل هذه الدلالات يسعى إليها الشاعر من خلال المجاهدات فقدّمها إليه لتكون قريبة منه ويسهل عليه التعلق بها فإذا نالها هان له الباقي.
والسمة الأسلوبية البارزة في قصيدة ابن الفارض هي تقدّم الاسم على الفعل، كما في هذه الأبيات:
لساني إنْ أبدَى إذا ما تلا اسمها        (142)   له وصفُه سمعي وما صمَّ يصمُتِ
وأذني إن أهدى لساني ذكرَها      (143)   لقلبي ولم يستعبدِ الصَّمتَ صُمّتِ
وكلُّ الجهاتِ السِّتِّ نحوي توجَّهت     (151)   بما تمَّ من نُسكٍ وحجٍّ وعمرة ِ
لها صلواتي بالمقامِ أُقيمها     (152)   وأشهَدُ فيها أنّها ليَ صَلّتِ
فنَفْسيَ كانَتْ، قبلُ، لَوّامَة ً متى   (197)   أُطعّها عصَتْ، أوْ أعصِ عنها مُطيعَتي
وكلُّ مقامٍ عن سلوكٍ قطعتُهُ    (203)   عُبودِيّة ً حَقّقْتُها، بعُبودة ِ
إن تقديم الاسم على الفعل في هذه الأبيات أعطى إيحاءات بشرف المقدم على المؤخر، فإذا كان الاسم يدل على الثبات فإن الشاعر قد جعل نصب عينيه تلك المرحلة التي يلاقي فيها الأنوار الأزلية وينعم بالسعادة الأبدية الخالدة، أما إذا كان لهذه الأسماء مكانتها العزيزة الغالية عند الشاعر والتي لا تدرك بسهولة، فإنه قد استحضرها وأتبعها بالفعل ليجعلها تتحقق في عالمه الافتراضي على الأقل، وبذلك يحقق أيضا شعرية النص بحشد الثابت والمتحوِّل أو من خلال المزج بين الحركة والثبات.
كما قدّم في أبيات كثيرة أيضا الفعل وأتبعه بالاسم مثل قوله:
فأوردتُها ما الموتُ أيسرُ بعضِهِ        (198)   وأتْعَبْتُها، كَيما تَكون مُريحتي
فعادتْ، ومهما حُمّلَتْهُ تحَمّلَتْـ     (199)   ـهُ مِنّي، وإنْ خَفَـفْتُ عنها تأذَّتِ
وكلفْتهُا، لا بلْ كَفلْتُ قيامها        (200)   بتكليفيها حتى كلْفتُ بِكْلفتي
وأذهبتُ في تهذيبها كلَّ لذَّة ٍ (201)   بإبعادِها عن عادِها، فاطمأنّتِ
ولم يبقَ هولٌ دونهَا ما ركبتُهُ (202)   وأشهَدُ نفسي فيهِ غيرَ زَكيّة ِ
وصرتُ بِها صَبّاً، فلمّا تركْتُ ما      (204)   أُريدُ، أرادَتْني لها وأحبّتِ
فَصِرْتُ حبيباً، بل مُحِبّاً لِنفْسِهِ، (205)   وليسَ كقَولٍ مَرّ، نفسي حبيبتي
خَرَجْتُ بها عنّي إليها، فلم أعُدْ      (206)   إليَّ ومثلي لا يقولُ برجعة ِ
وأفْرَدْتُ نفسي عن خُروجي، تكرّماً،     (207)   فلمْ أرضهَا من بعدِ ذاكَ لصحبَتي
وغَيّبْتُ عن إفرادِ نفسي، بحيثُ لا      (208)   يُزاحمُني إبداءُ وصفٍ بحضرَتي
    إن تقديم الفعل على الاسم في بعض المقاطع الشعرية لقصيدة ابن الفارض جعلنا نتفاعل مع تجربة الشاعر ونحس بالمراحل التي نقطعها معه، وفي نفس الوقت نشعر بالارتقاء المستمر ونشوة الاقتراب من الهدف المرجو وهو الإتحاد مع الذات الإلهية والفوز بالمحبة الخالدة.
وقد طغت في القصيدة هاتان الميزتان الأسلوبيتان المتمثلتان في التناوب المستمر بين الفعل والاسم، فمرة يتقدم الاسم ويتأخر الفعل ومرة أخرى يتقدم الفعل ويتأخر الاسم، مما جعل هذا التركيب يوحي بالتجربة المستمرة للشاعر في سلوك طريق التصوف فهو يشرع في الفعل حتى يصل إلى مرحلة معينة، وحينها تتوقف الحركة ليأخذ قسطا من الراحة، ثم ينطلق من جديد وهكذا دواليك حتى المرحلة النهائية، مما أعطى شعرية وطابعا إبداعيا لنصه الشعري.
- الحذف: للحذف في الشعر خاصة جماليته، وهو يعني الاستغناء عن بعض التراكيب في الكلام من أجل الاختصار أو احترام الوزن والقافية، ولا شك أن المتلقي الحاذق يفهم ذلك ويستوعبه مدركا الغاية منه، وقد حفلت هذه التائية بالكثير من عمليات الحذف نذكر منها هذه الأبيات:
وأبثثتها ما بي، ولم يكُ حاضِـــري       (006)   رقيبٌ لها حاظٍ بخلوة ِ جلوتــــي
لكِ الحكمُ في أمري فما شئتِ فاصنعي      (066)   فلمْ تكُ إلاّ فيكِ لا عنكِ رغبتــي
حليفُ غرامٍ أنتَ لكنْ بنفســــهِ        (098)   وإبقاكَ وصفاً منكَ بعضُ أدلَّتـــي
فدَعْ عنكَ دعوى الحبّ، وادعُ لِغَيـرِهِ (100)   فؤادَكَ،وادفَعْ عنكَ غَيّكَ بالتـــي
وما أنا بالشَّاني الوفاة َ على الهـــوَى        (104)   وشأني الوفَا تأبي سِواهُ سجيَّتــــي
أجَلْ أجَلي أرضى انقِضاهُ صبَابَــة ً،  (106)   ولا وصْلَ، إن صَحّتْ، لحبّك، نسبتي
وها أنا مستدعٍ قضاكِ وما بــــهِ        (114)   رضاكِ ولا أختارُ تأخيرَ مدَّتــــي
وكلُّ مقامٍ عن سلوكٍ قطعتُـــــهُ       (203)   عُبودِيّة ً حَقّقْتُها، بعُبــــــودة ِ
فلا تَكُ مفتوناً بِحُسْنِكَ، مُعْجبـــاً        (239)   بنفسِك موقوفاً على لبس غـــرَّة ِ
ولا تحسبن الأمر عني خارجـــــا  (637)   فما ساد إلا داخل في عبودتــــي

لقد ورد الحذف في الكلمات(لم يكُ، لم تكُ، إبقاكَ، بالتي، الشاني، الوفا، انقضاه، قضاكِ، بعبودةِ، فلا تكُ، عبودتِي)، فإذا استثنينا (لم يكُ، لم تكُ، فلا تكُ) لدخول أداة الجزم وحذف حرف النون في(يكنْ، تكنْ)، وحذف الهمزة في(إبقاءكَ، الشانئ، الوفاء، انقضاءه، قضاءكِ)، وحذف الياء في (بعبودتيِ، عبوديتِي)، فإننا نرى أنه تم حذف عبارة كاملة وإبقاء أولها فقط(بالتي هي أحسن) وذلك لكثرة جريانها على الألسن.
إن الحذف هنا وإن خضع لقواعد النحو والصرف حينا(أداة الجزم)، وتخفيفا حينا آخر(حذف الهمزة) أو احترام الوزن الشعري(حذف الياء)، إلا أن ذلك يظل يخفي حالة شعورية كامنة لدى الشاعر، وهي تدل على مبدأ صوفي يركِّز على التجرّد  والتخلية والخلوة مما يعكس التحرر من الأثقال لتمكين النفس من العروج نحو الكمال فكلما خفّت الروح أمكنها الصعود نحو واهب اللذات الحقيقيات.
لقد وقفنا في هذا المستوى على الميزات الأسلوبية الهامة التي استخدمها شاعرنا في تركيب قصيدته والتي تنوعت بين المستوى الخبري والمستوى الطلبي وما رافق ذلك التركيب من تقديم وتأخير وحذف على وجه أخص، كما لاحظنا أنه استخدم كل الأساليب البلاغية المعروفة، مما أعطى القصيدة شاعرية اكبر وجمالية تجسدت في الرؤية الكلية للشاعر الذي حاول جمع وإذابة الكل في بوتقة واحدة تتوافق والرؤية العقائدية القائمة على التجرّد والتخلية من أجل الإتحاد والجمع والتوحد في الذات الواحدة التي لا تقبل التجزئة.
هوامش البحث:
  - هذا المستوى هو جزء من رسالتي للماجستير الموسومة ب:" بنية الخطاب الشعري الصوفي- التائية الكبرى لابن الفارض نموذجا- مقاربة أسلوبية"، والموجودة بمكتبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسيدي بلعباس (غير منشورة).
2 - مصطفى ناصف، نظرية المعنى في النقد العربي، م.س، ص 18.
3- النيسابوري ( نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي-)، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، بهامش تفسير الطبري ( أبي جعفر محمد بن جرير -)، جامع البيان في تفسير القرآن، (لبنان: بيروت، دار المعرفة، ط1، 1986)، ج1، ص184.
4 - رجاء عيد، البحث الأسلوبي معاصرة و تراث، ص25.
5 - النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج1، ص 43.
6 - أحمد الهاشمي، القواعد الأساسية للغة العربية، ( بيروت: دار الكتب العلمية)، ص17.
7 - النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج1، ص53.
8 - أحمد الهاشمي، القواعد الأساسية للغة العربية، ص13.
9- ورد في متن الألفية لابن المالك:
        الظرف وقت أو مكان ضمنا  ---      في باطراد كهنا امكث أزمنا
        فانصبه بالواقع فيه مظهرا      ---           كان وإلا فانوه مقدرا
        وكل وقت قابل ذاك وما     ---            يقبله المكان إلا مبهما
        نحو الجهات والمقادير وما     --- صيغ من الفعل كمرمى من رمى
(ينظر: متن الألفية، ص 21).
10 - النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج1، ص142
11 - متن الألفية، ص 38.
12 - عبد العزيز عتيق، علم المعاني، (بيروت:دار النهضة العربية، 1985)، ص130
13 - المرجع السابق، ص 132

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟