أنفاسإذا كانت القرصنة الثقافية إحدى مظاهر الرداءة في الحياة العربية، فإن بعض عواملها تكمن في الانقطاع الذي يصل حدّ الاغتراب والتغريب بين السيرورة الاجتماعية والسيرورة الثقافية داخل المجتمع. ثمة حالة اغتراب وتغريب يعيشها الكاتب العربي في مجتمعه، تعود بأسبابها إلى جذور تاريخية وبيئية تربوية راسخة وإفرازات معاصرة. ان حالة الرفض الاجتماعي هي التي تدفع المبدع إلى الانتقال إلى العاصمة أو إلى بلد آخر، يعاني فيه من الغربة ولكنه يتخلص من تغريب المجتمع له ونظرته إليه ككائن خرج من نمطية القطيع إلى مستوى فكري وعقلي مختلف. بكلمة أخرى، انه التنافر السلبي بين المتخلف والمختلف. ولا يشترط أن يكون الاختلاف (الفكري) هنا حقيقياً، قدر ما هو حكم مسبق (على بياض) ناجم من النظرة السلبية للعلوم والفنون والآداب. على خلاف ذلك يحظى بالحفاوة والفخر من مجتمعاتنا من يتخذ سبيل الدين أو الشعوذة منهجاً. بل أن العاملين في هذا المجال يعامَلون كأحد أفراد الجماعة والمنطقة حتى لو كانوا من مناطق أو بلدان بعيدة. ذلك أن المتعامل بالدين أو الشعوذة يستخدم أدوات قريبة من واقع الناس وفهمهم، أو يخاطب عواطفهم وغرائزهم، فيتمكن من استمالتهم، أو أنهم يلجأون إليه لحاجتهم لما يوحي بالقناعة والطمّأنينة أو فكرة المنقذ والمخلّص الذي يرفع عنهم الخطايا ويعدهم بالفراديس المؤجلة، وهو الاسلوب الذي تتبعه الاحزاب الديماغوجية للاستئثار بالشعبية. بينما يحاول المثقف التماهي مع الحالة المعرفية والتجويد فيها بانتظار ارتفاع الوعي الاجتماعي وأدوات الفهم العامة للمستوى الحضاري الذي يستوعب فكرة الحداثة. دون أن يبتكر الأدوات والوسائل التي تقرب الثقافة من العامة وتساهم في رفع الوعي الاجتماعي للمستوى الذي يؤهله لقبول فكرة التغير والتغيير كسنّة للحياة. ومن المؤسف أن الثورات الثقافية في الشرق كانت دائماً بقيادة المؤسسة العسكرية أو الأيديولوجية. وهي بذلك لا تعلّم وتطور الانسان وانما تمسخه بلغة الأوامر والتهديد بالثواب والعقاب.

ان تحديد حالة الاغتراب ووضع تعريف لها يقتضي نظرة على الحالة العامة للمجتمع بالمعيار الحضاري أو الثقافي والاجتماعي والسياسي وبالتالي مدى صحية هذه الظروف لانتاج مجتمع طبيعي منسجم مع نفسه وامكانياته ومطامحه، وعليه تحديد حجم احتمالات عدم الانسجام أو عدم القدرة على تلبية حاجات جماعات معينة. وبالتالي فأن الاغتراب الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي يمثل معطيات بدهية في المجتمعات المعروفة بالتخلف الحضاري أو التي تعيش حالة عامة من الانسياق والتبعية المطلقة لجملة أحكام وتقاليد موروثة أو مفروضة لا قدرة لها على مناقشتها أو تغييرها.

أنفاسدرجت بعض فروع علم الاجتماع على إمضاء (البدائية) مرحلة طبيعية في تاريخ الوجود الإنساني، ونشأت في هذا النطاق مصفوفة من النظريات والرؤى التي تبحث في المجتمع البدائي، سواء على صعيد بداياته التأريخية وجذوره الزمنية أم على صعيد حقيقة وجوهر المنهاج الحياتي والعقلي لهذا المجتمع.
ويعتمد باحثوا هذه القضية في صياغة رؤيتهم العلمية عن البدائية ومجتمعها على أقوام متواجدين على هذه الأرض يعتبرونها تحاكي أو تطابق المجتمع الانساني في بداياته التاريخية السحيقة، فضلاً عن استيحاء بعض الآثار المادية التي تركها الانسان، وهو يمارس حياته الأولى، علماً أن هذه البحوث تتخذ من الانسان العاقل الذي يرجع تأريخه ـ كما يقولون ـ إلى 20000 سنة، بأنه بداية الكائن الإنساني الحالي، وإن مرحلة البدائية التي يتحدثون عنها تندرج ضمن المساحة التاريخية للإنسان العاقل.
لقد تظافرت علوم الاجتماع الغربية على التعامل مع (البدائية) كحقيقة أولية لابدّ منها، وكان للماركسية الدور الأكبر في تكريس هذا التصور، وقد أفاضت في طرح التصورات والأفكار حول المرحلة البدائية للمجتمع البشري.
ـ عقبات المنهج:
على أن هذا التسالم القبلي اصطدم بجملة عقبات بعد مراجعة نقدية شاملة لقضية البدائية ومجتمعها ومرحلتها.
والعقبة الأولى ذات بعد منهجي:
إن الباحثين هنا يستندون في دراساتهم واستنتاجاتهم إلى معلومات يجمعونها أو يسمعونها عن (أقوام) معاصرة يعدونها بدائية سلفاً، وبالمقارنة بين عاداتها وتقاليدها وأنماط سلوكها، يصممون نظرياتهم عن البدائية وملابساتها.
إن أساسيات هذا المنهج لا تتمتع بالمتانة العلمية والرصانة المنطقية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن هذا المنهج ينطلق من موضوعةٍ يصعُبُ إقرارها مسبَّقاً وهي تحتاج إلى إثبات علمي، وتتجسد هذه الموضوعة في اعتبار بعض الأقوام نماذج بدائية، ولكن اختيار (الأقوام) في الكونغو والأمازون واستراليا، وإخضاعها لحكم أو عنوان اجتماعي أنثروبولوجي هو في حد ذاته عملية غير مقبولة، لأنها نوع من الحكم الأولي في مسألةٍ معقدة للغاية.

أنفاسمقدمة :
كثيرة هي النظريات التي تعد الاختلاف ظاهرة صحية في الحياة المجتمعية. وفعلا فإن طبيعة تكون المجتمع، وتشعب مناحي المعرفة التي يمتح منها الأفراد توجهاتهم السياسية والثقافية والتربوية والاقتصادية، كل ذلك يستتبع مجموعة من القضايا الخلافية التي تحصل بين الأحزاب بقدر ما تحصل بين الأفراد أو بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها أو يجد نفسه متورطا فيها. ومن هنا تصدر إشكالية معروفة تتمثل في كيفية تدبير علاقات الاختلاف في سياق وضعية يطبعها اختلاف العلاقات ؟ ! كيف يمكن إذن، لأطراف متعارضة في التصور والتمثل ونظام الفكر أن تتواصل وتناقش وتتفاهم؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقا من الدرس الفلسفي والسوسيوبنائي الذي نستخلصه من بعض المفاهيم الأساسية التي يستعملها "هابرماس" في كتاباته المختلفة. ويشفع لهذا الاختيار نزوعنا إلى تعرف الفكر الهابرماسي في بعض جوانبه الحداثية والديمقراطية. وذلك من أجل استثماره المفترض في تدبير ما يحدث بيننا من اختلافات سياسية وثقافية ودينية.

1-هابرماس : الولادة والفكر

ولد يورغن هابرماس (Jûrgen Habermas) في مدينة دوسلدورف بألمانيا عام 1929. درس الفلسفة وعلم النفس والأدب والاقتصاد والتاريخ في غوتينجن وزيوريخ وبون وهو في سن العشرين. وفي سنة 1954 حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع حول الفيلسوف الألماني شلينغ shelling ، ثم أصبح أستاذا مساعدا لأدورنو Adorno وهو لايزال شابا. وفي سنة 1964 أصبح أستاذا للفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرنكفورت التي بقي فيها كأستاذ شرفي بعد تقاعده سنة 1994.

قرأ هابرماس لفلاسفة ومفكرين عدة أمثال : كانط، وهيجل، وماركس، وفيبر، ودوركايم. ويعد حاليا الوريث الشرعي لمدرسة فرانكفورت أو مدرسة النقد الجديد. لقد تشرب أفكارها وتأثر بروادها كأدورنو وهوركهايمر وماركوز؛ كما واجه هابرماس هانس جورج غادامير، وألبرت، وأرندت، وبوبر.

أنفاسيأتي حضور الدّين بشكله المؤسّسي في الغرب، من بين أكثر الأنماط المؤسّسية الاجتماعية تركيبا وتداخلا ونشاطا، وفي مقابل ذلك يحضر التديّن بمفهومه الفِطْري الرّوحي دون ذلك بكثير، لضمور أثره وتواري ملامحه. خلّف ذلك التوّازي اللاّمتوازن أوجه عدّة من التّضارب، كانت وراء توليد أزمات مختلفة داخل الهيكل الدّيني العام، انعكست آثارها في الدّاخل كما الشّأن في الخارج. من ذلك التضارب، بين الدّين كمؤسّسة، والتديّن كتفعيل، نحاول استعراض بعض أوجه تلك الأزمة.
1- الكنيسة وخيار المحرومين أو المترفين:
برغم فسيفساء النّحل والعقائد التي تميّز الواقع الدّيني المسيحي الغربي، يجمع رابط مشترك بين كنائسه المختلفة، مما يجوّز إطلاق نعت كنيسة على شتاته المتنوّع، نظرا لوحدة الإيقاعات التي تضبط علاقاته الدّاخلية ونظرته للآخر الحضاري. فجرّاء القوّة المادّية التي تميّز الغرب الحالي، وسمات الهيمنة التي تطبع سياسته الخارجية، رافقتها قناعة لدى السّاهرين على مؤسّساته الدّينية، ترنو للعب نفس الدّور في مجال النّفوذ الرّوحي على العالم أيضا. تلخّص ذلك في السّعي للوصاية على "الأخلاق الدّينية"، والتطلّع لإعادة تربية الجنس البّشري، بغرض إعادة تهيئته روحيّا عبر مداخل مختلفة، منها ما سمّي بالأنجلة، أو بإعادة الأنجلة، أو بحوار الأديان أو بحوار الحضارات. وهو ما جعل بعض المفكّرين واللاّهوتيين المنشقّين، ينتقدون بشدّة هذه المركزية، فقد دعا اللاّهوتي الألماني السّويسري هانس كونغ لأخلاق كونية شاملة كبديل لمركزية طروحات الكنيسة الحالية.
وتحاول الكنيسة، في التاريخ المعاصر، وخصوصا منها تفرّعيها الكاثوليكي والإنجيلي الأمريكي، أن تبقى عين الغرب الرّاصدة في الخارج، عبر تنبيه العقل السّياسي وإشعاره، بنقاط التحذير والانتقاد للعالم الإسلامي أو للعالم الكنفشيوسي، وغيرها من الفضاءات الحضارية التي تشهد تدافعا مع الغرب أو مع الكنيسة. فنظرا لما تملكه المؤسّسة الدّينية الغربية من قدرات علمية وإمكانيات، متمثّلة في مراصد ومعاهد ورجالات وخبراء، تحاول من خلالهم صنع تلك الهيمنة، تعضدها في بلوغ مقصدها ارتباطات مع أقلّيات دينية منتشرة في أرجاء العالم، استطاعت أن تستوعبها وتحتضنها، تارة عبر التحذير من الذّوبان في الدّاخل وطورا عبر الإغراء بربط مصالحها بالخارج، موظّفة إياها لصنع الحدث السّياسي الدّيني الإشكالي الذي تنتَقَد منه بلدانها، أو مجتمعاتها، خصوصا إذا ما كانت متعدّدة الأعراق والدّيانات، سواء في خياراتها الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية. وضمن لعبة التوظيف تلك، غالبا ما أخطأ مسيحيو الشّرق التّقدير حين اعتبروا الغرب حامي المسيحية وراعيها، ولم يدركوا أنه مجموعة من المصالح الوطنية المختلفة، استغلّ مسيحيي الشّرق لتفتيت عديد المجتمعات، وفي أيّامنا لصياغة توازنات قوى خارجية وربط تطلّعات الأهالي المحلّيين وإرادتهم بالخارج.

أنفاسإذا كان العوام أقل حظا فى العلم من الطبقات الأخرى، فقد حفظ لنا التاريخ نماذج عن علماء وأدباء وفنانين كانوا فى الأصل مزارعين أو رعاة أو حرفيين. ولا أدل على ذلك من أن مشاهير المعتزلة كانوا من أهل الحرف والصناعات أو المشتغلين بالتجارة. إلا أنه لا يمكن إنكار حقيقة تدني ثقافة العوام فى مجملها، إذا ما قيست بثقافة الطبقة الوسطى التى تبنت العلوم والفنون والآداب، وأبدعت الحضارة والثقافة الإسلامية. فثقافة العوام من ثم عمتها الخرافات والشعوذات، خصوصا فى العصور المتأخرة التى شهدت انتشار التصوف الطرقي. ومع ذلك فإن هذا النوع من التصوف المتخلف لم يكن كله أوهاما وتهويمات وشعوذات وهرطقات. فقد شذت عن تلك القاعدة بعض الطرق الصوفية التى كانت تحض على طلب المعرفة والتعلم.
يقول أحد المتصوفة: "إن الله لا يعبد إلا بالعلم". ويقول آخر: "آخر الأشياء صوفي جاهل". على أن المعتقدات الصوفية من كرامات وتقديس للأولياء كانت تنطوى على مضامين اجتماعية وثقافية كانت فى التحليل الأخير تعبيرا عن طبيعة مجتمع متأزم، استعصت حلول مشكلاته، اللهم إلا الاستعانة عليها بالصبر من ناحية، أو طلب الخلاص فى نعيم الآخرة من ناحية أخرى. وإذا كانت ثقافة العوام "شفاهية" أو غير مكتوبة، فقد حفلت الحوليات التاريخية بالكثير من المعلومات عن "الذهنيات" الخاصة بالمأكل واللباس والمسكن وطرائق التفكير والعادات والتقاليد والفضائل والرذائل.. إلخ.. كما كشف "الطب الشعبي" عن ابداعات للعوام تجاوز الكثير منها طور الخرافة ومال الى التجريب واكتساب الخبرات فى علاج الأمراض والتداوي، مازال الكثير منها صالحا للتداول حتى عصرنا هذا. أبدع العوام ايضا أدبا جهاديا نضاليا يعانق قيم الدين وفضائل الفروسية، لكن من أسف أن معظمه عصفت به أيدي التخريب والحرق. كما خلفوا أدبا شعبيا عرف باسم "أدب الزهد والرقائق". الذى يعبر عن موقف العامة إزاء الحكام الجائرين والموسرين،
وكانت مجالس الوعظ منتشرة فى الحواضر الإسلامية، يرتادها العوام فى المساجد والزوايا والساحات الخالية، ويؤمها الرجال والنساء على السواء طلبا للثقافة الدينية. لكنها تحولت تحت تأثير تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى بؤر "ثورية" حيث عرض فيها العوام شكاواهم ضد الحكام وعمالهم وسياساتهم المشتطة، ووجدوا استجابة لها من "الوعاظ" الذين دعوا العوام إلى "تغيير المنكر" بالقوة. لذلك كانت السلطات الحاكمة تفرض على هذه المجالس رقابة صادمة، وصلت فى الكثير من الأحيان إلى القيام بإغلاقها. كما وجد من العوام من أسهم بنصيب وافر فى مجال الأدب، نثرا وشعرا. فأدب "المقامات" على سبيل المثال عبر عن معاناة المكدودين والمتسولين وبؤس الشرائح الاجتماعية المهمشة.

أنفاسالمشكلة الأساسية التي يعاني منها مصطلح الايديولوجيا هو سعة مدلوله وتنوع استعمالاته، مثله في ذلك مثل العديد من مصطلحات العلوم الإنسانية كالثقافة والاستلاب والوعي وغيرها.
وبالاضافة إلى ذلك فهو مصطلح تزاحمه العديد من المصطلحات المقاربة مثل ذهنية، وعقلية وعقيدة، ومذهب، ورأي، وفكر ومنظومة فكرية، وسياسة وثقافة وما ماثلها من المصطلحات (رؤية العالم، رؤية كونية).
بل إن معناها ذاته يتراوح بين المعنى الواسع الذي يشمل ما تسميه الأنتروبولوجيا الثقافية بالثقافة أي كل مظاهر النشاط والانتاج الفكري والروحي في المجتمع، وبين المعنى الضيق الذي يستعمل به في سياق علم الاجتماع السياسي أو في علم السياسة وهو جملة الآراء والأفكار والتمثلات المرتبطة بسلطة سياسية.
حين نوسع المفهوم بالنظر إلى الايديولوجيا باعتبارها الظاهرة الفكرية والثقافية العامة المؤطرة للمجتمع تصبح الايديولوجيا أقرب ما تكون إلى الثقافة المهيمنة أو الثقافة التلقائية للمجتمع. وهذا المعنى يجعلها تماثل ما يدعوه دوركهايم بالوعي الجماعي.
لكننا نستطيع أن نميز داخل تصور الثقافة بين الثقافة كمعارف وخبرات، والثقافة كتوجيهات أخلاقية وسلوكية وكتأطير اجتماعي للفرد. وهذا الشقّ الثاني هو الأقرب إلى مدلول الايديولوجيا أو هو الوجه الايديولوجي للثقافة.
ومن ثمة فإن وظيفة الايديولوجيا في هذه الحالة هي تزويد المجتمع والأفراد بهويتهم الجماعية المميزة. الايديولوجيا هنا حكاية تقدم للمجتمع صورة عن نفسه من خلال وعبر مسار تاريخي يعود إلى أصلٍ متدرج عبر تعرجات الزمن. وهذا يصدق بالدرجة الأولى على الايديولوجيات الاجتماعية المحليّة الاثنية (كالوطنية والقومية) أكثر مما يصدق على الايديولوجيات الطوباوية (كالاشتراكية). فالايديولوجيا الأمريكية تعود إلى حرب التحرير وإلى بطولاتها وأبطالها كمنطلق، فهي تشكل الحدث المؤسس المرجعي للدولة الأمريكية الحديثة. والايديولوجيا السوفياتية الحديثة تعود باستمرار إلى الحدث المؤسس للدولة السوفياتية الحديثة وهو الثورة الروسية في 1917 كمرجع رئيسي يكسب كل الأحداث اللاحقة والسابقة معناها ودلالتها ويعيد ترتيبها وتصنيفها. والايدولوجيا الفرنسية هي نوع من العودة الدائمة إلى الحدث المؤسس لفرنسا الحديثة وهو الثورة الفرنسية في 1789 والذي تستلهم كافة القوى السياسية مغازيه ودلالاته. أما بالنسبة لدول العالم الثالث فأغلب إيديولوجياتها ترتكز على المرحلة الفاصلة بين النضال من أجل الاستقلال ولحظة الفوز بالاستقلال. فاللحظة الدينامية لاستقلال هذه الشعوب هي في الأغلب الأعم الحدث المرجعي في الايديولوجيات السياسية لدول العالم الثالث إلا في الحالات التي حدث فيها انقلاب سياسي أدى إلى ضرورة إحلال حدث مؤسس آخر محل هذا الحدث المؤسس الأول .

انفاسأصبح من المسلم به اليوم أن استيعاب المعرفة وإنتاجها وتداولها يشكل اليوم وسوف يشكل في المستقبل بشكل أكبر محور التنافس بين المجتمعات وأساس نجاحها في الرد على حاجات أعضائها وبالتالي في استقطاب ولائهم، وذلك بقدر ما أصبحت المعرفة في أيامنا هذه العامل الأول في تقدم المجتمعات والارتقاء بشروط حياتها المادية والمعنوية· وهذا الاستيعاب وما يتبعه من إنتاج وتداول مكثف للمعرفة يشكل اليوم، أكثر من التعبير عن الهوية، التحدي الرئيسي الذي تواجهه الثقافات في مجتمعاتنا المعاصرة· فالثقافة التي تخفق في تحقيقه تجد نفسها شيئا فشيئا مستبعدة من المنافسة التاريخية وتحكم على نفسها بالزوال كثقافة حية وفاعلة حتى لا يبقى منها سوى ذكرى ثقافة أو ثقافة الحنين والذكريات·
وكما بين ذلك تقرير التنمية البشرية للمنطقة العربية لعام ،2002 بصرف النظر عن العديد من نقاط الضعف التي تعتري هذا التقرير،لم تنجح المجتمعات العربية المعاصرة في الرد على هذا التحدي، ولا تزال تعاني من نقص فادح في اكتساب المعرفة وإنتاجها وتداولها، خاصة المعرفة الابداعية العلمية منها، وهي تعتمد في تأمين حاجاتها الأساسية منها على النقل أو الاستعارة أو الاستيراد من الخارج·
وقد تحدثت في مقال سابق عن أثر العوامل السياسية والاجتماعية في تكوين فجوة المعرفة الواسعة التي تفصل العالم العربي ليس عن المجتمعات الصناعية المتقدمة فحسب ولكن حتى عن المجتمعات النامية، على رغم ما يتوفر في مجتمعاتنا من موارد بشرية ومادية· وأود أن أشير في هذا المقال إلى أثر عوامل أخرى لا يمكن لأي سياسة تنموية أن تتجاهلها، وهي السياسات العلمية والثقافية بشكل عام· وإذا كان من الصعب فصل هذه العوامل عن العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أنها تشكل ميدانا للبحث قائما بذاته وبالتالي يحتاج منا إلى التأمل والتفكير والمراجعة· فوجود إرادة التنمية المعرفية لا ينفي ضرورة بلورة سياسات علمية فعالة لتحقيق هذه التنمية· Read Moreولعل ما وسم العقود القليلة الماضية من العمل العربي في هذا المجال هو الافتقار إلى سياسات تنمية معرفية متسقة وناجعة، وفي بعض الحالات إلى غياب أي سياسات علمية على الإطلاق، على رغم الموقع الكبير الذي احتلته مسألة التنمية واكتساب العلوم والتقنيات في الايديولوجية العربية القومية السائدة· وهو ما يمكن أن نلاحظه على مسألة التعليم أيضا· فعلى رغم الجهود الاستثنائية التي بذلتها الدول العربية لتوسيع دائرة المستفيدين من هذه الخدمة الاجتماعية الكبرى إلا أن الاهتمام بتحسين نوعية التعليم وربطه بمسائل التكوين المهني والتعليم المستمر والتأهيل الاجتماعي بقي ضعيفا جدا إن لم نقل معدوما· وربما كان السبب الرئيسي لذلك كامنا في غياب أهداف واضحة ومحددة للتربية والتعليم في جميع مراحلهما وانفصالهما عن عالم العمل والانتاج والاهتمام الاجتماعي· وهكذا لم تنجح الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الدول العربية في هذا القطاع، في تجنيب الدول العربية التبعية شبه الكاملة في تأمين حاجاتها المعرفية على الخبرة الأجنبية· فهي لا تزال تستورد الخبرة الفنية والتقنية بكثافة، ولا تزال تعتمد بشدة، منذ أكثر من قرن، في تكوين الاطر العلمية والفنية والتقنية المتقدمة، على ايفاد البعثات إلى الدول الأجنبية لتلقي العلم، كما لا تزال تعتمد في إعداد البرامج التعليمية على المناهج المصوغة لمجتمعات أخرى·

انفاسبين الثقافة والدين أكثر من علاقة. لنقرأ ـ هنا ـ وجهين أساسيين من تلك العلاقة لأهميتهما في مضمار تحديد معنى الثقافة وتحديد نظام اشتغالها:
يمثل الدين ـ في مستوى أول ـ ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة. لا يتعلق الأمر، هنا بالدين من حيث هو مجموعة نصوص وتعاليم وقيم فحسب، بل ـ أساساً ـ بما هو كيان مجسد في طقوس اجتماعية وتقاليد وأفعال يمارسها الناس أيضاً، أي من حيث صيرورته نظاماً من الممارسات المادية قد تقوم مسافة ما واقعية بين وضعه النظري ـ في نصوص ـ وبين طريقة استيعابه والتعبير عنه منط رف المؤمنين به تعبيراً مباشراً في حقل اجتماعهم المدني.
يحتسب الدين ثقافة من واقع كونه يعبر عن رؤية للعالم: للطبيعة، والوجود، والانسان؛ ومن واقع كونه يقدم تصوراً لبناء الاجتماع الانساني على نحو يغطي ـ أحياناً ـ أدق تفاصيل هذا الاجتماع: اقتصاداً، وسياسة، وأخلاقاً، وأحوالاً شخصية.. الخ. ليس يهم إن سعت عقيدة ما إلى بناء (أمة روحية) ـ شأن النصرانية ـ أو إلى بناء (أمة اجتماعية وروحية) ـ شأن الاسلام، بل الأهم أنها قامت على تعاليم رسمت للمنتسبين إليها تخوم الجائز وتخوم الممنوع، وقذفت في (روعهم) الجمعي مبادئ تحولت إلى قواعد صارمة للفكر والسلوك، وأفكاراً تحولت إلى عقائد راسخة لا تقبل المراجعة في جانبها اللاهوتي حتى وإن كانت تقبل بعض التغيير في الجوانب المتصلة بميدان الاجتماع المدني.
الدين هنا ثقافة بوصفه نمطاً من المعرفة بالوجود (الطبيعي والاجتماعي)، يختلف في الأسس والمبادئ عن سواه من أنماط المعرفة الأخرى كالعلم، والفلسفة، والأسطورة، وسواها. فله مسلماته التي لا يقوم الإيمان ـ داخل نظامه ـ بغير الإقرار بها، وله طريقته الخاصة في بناء أحكامه ليست تفهم قضاياه وأحكامه بغير ربطها بنمط الاستدلال فيه.. إلخ.