أنفاسالجمال نعمة كبرى :
من العواطف التي طبع عليها الإنسان ، وأودعها الله تعالى في روحه الميل إليها ، و جبله على طلبها في كل زمان ومكان : حب الجمال،والتأثر به ، والبحث عنه ، والله جل شأنه جميل يحب الجمال ، وفعل القبيح والقبح تأباه الفطرة السوية  .
والجمال في القديم ، وفي الحديث هو شغل الإنسانية الشاغل ، والبحث عنه ـ لأسباب كثيرة ـ دائم ومتواصل .
كما أن الجمال نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى التي لا تعد ولا تحصى ، بل هو نعمته الكبرى على هذا الوجود ، ومن فضل الله على خلقه أن جعل صور الجمال عديدة ، وألوانه كثيرة متعددة ، فإذا أردنا أن نعرف مدى فضل الله الكريم على هذا الوجود فلنتأمل إبداعه للجمال فيه.
فلنتصور ـ ولو لثوان قليلة ـ خلو الحياة التي نحياها من الجمال ! ، إن ذلك ـ ولا شك ـ سيكون في نظر كل من له قلب ، الفزع الأكبر ، والخوف الأعظم ، الذي يفقد فيه المرء الحب والأمل ، وتلك لحظة من لحظات الضعف التي قد تنتاب الإنسان ، فيفقد فيها الإحساس بالجمال ، فينطلق بالتحطيم لكل شيء حتى نفسه ، والتخريب لكل شيء مهما كان غالياً أو نفيساً ، لأن الشعور والإحساس و الإدراك والوعي بالجمال ، يجعلنا نرى كل شيء في الوجود جميلاً ، والعكس صحيح ، لأن الجمال هو الحياة التي لها قيمة ولها معنى .
بهذه المقابلة نستطيع معاً أن نقف على قيمة الجمال في الوجود ، وندرك أن الإحساس بالجمال معناه السعادة ، ومعناه الأمل في القادم بإذن الله ، ومعناه الحياة المشرقة المفعمة بالبهجة والخير والسرور .
والجمال سر من أسرار المولى عز وجل ، يهبه لمن أحب من عباده ، فيضع في قلبه الأمل ، وفي نفسه الخير ، وفي روحه الصدق ، بل يجعله في شوق دائم إلى الحق والعدل والسلام والتسامح والنقاء .

أنفاسمواقف كثيرة طرحت، وآراء متعددة قدُّمت حول مفهوم الشورى في الإسلام، منها ما كان توصيفاً مثالياً للمفهوم، ومنها ما كان رفضاً عاماً له، وقد مَلأت الدراسات السياسية منذ بداية عصر النهضة على الأقل بكلا الموقفين، فمن الدارسين من عرض الشورى كنظرية إسلامية بديلة عن نظرية الديمقراطية في الحكم، ومنهم من رأى في الشورى مفهوماً فضفاضاً وقوالب تقليدية لا تتناسب مع نظام الحكم اليوم، ومنهم من أسقط مفهوم الشورى من حساباته بإعلانه فصل الدين عن الدولة ولم يعد من المفيد بعدها دراسة مفهوم ديني في دولة لا تعترف بالدين مصدراً أساسياً من مصادر التشريع، وقوةً دافعةً للمجتمع، ومنهجاً أخلاقياً ورؤية خاصة لتداول السلطة، ونحن إذ نحاول اليوم دراسة هذا المفهوم فإننا لا ندرسه، بأي من الموقفين، وإنما أن نعطيَه حقه فلا نضخمه ولا ننفيه. لذلك يتوجّب علينا تقديم ما يشبه التعريف العام الأولي لمفردة الشورى، ومن ثم الانتقال إلى الوظيفة التي جاءت من أجلها فالمفردة مفردة قرآنية بامتياز ولا يمكن أن تكون قد وردت نافلة أو حشواً في النص الإلهي، والقرآن الكريم كما نعلم كتاب مقدس بذاته جمعاً وتفصيلاً متحرك بفهمنا له.‏
تعريف الشورى:‏
الشورى مفهوم إسلامي أصيل بلغة عربية مبينة، وهي مفردة ذات مدلول استشاري، ودعوة صادقة صريحة لتداول الرأي والاستفادة من كل آرآء الأمة من أجل الوصول إلى حالة يرتقي فيها الموقف أخلاقياً ليلتقي مع غاية الإسلام، ويعمم الشعور بالمسؤولية.‏
لكن الشورى القرآنية هي عبارة عن أراء يطلبها الأعلى من الأدنى، ولأنها كذلك فإن ممارستها ونتائجها مرتبطة بمدى الاستعداد النفسي لطالبها، ومدى استجابته لقبولها، وقدرته على مناقشة ما يطرح بها، أو الأخذ بمحتواها، فهي قد تفضي إلى حالة من الإيجاب قد تتوافق مع رغبة طالبها، أو يقتنع بمعالجة مسألة بعينها ناتجة عن حادث طارئ، وهنا يتطلب الأمر بحق سمواً أخلاقياً، وليس مجرد استعداد نفسي.‏

أنفاسيـمثـل أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ نموذجا بل مدرسة في الكفاح والجد والعمل المتواصل ، فحياته الطويلة كرسها للعمل الجاد والنضال من أجل تحقيق هدف ، ففي حين نجد الكثير من الناس يبذلون جهـودا جبارة ، في غير هدف ، جهودا قد تعود عليهم بالضرر من حيث كانوا يطلبون المنفعة ، لهذا تمثـل تجـربة الجاحظ مثالا في دقة الهدف ، ثم بعده يأتي الجهد . والآن وبعد قرون من وفاة أبي عثمان ، فمهما بالغنا في تقدير الجهـد الذي قدمه خلال عمره الطويل فإن ما ناله أضعاف أضعاف ما قدمه من جهد ، بل إنه من الصعـب مقارنة ما قدمه الجاحظ بما ناله . فـإذا كان ما أعطاه وقدمه عرق جبين وسهر ليل فإن ما ناله من المجد العريض بعد موته فضلا عن الحظوة لدى الخلفاء والحكام يعوض كل جهد وتعب مهما بلغ قدرهما .
   كان الجاحظ قد نذر حياته في سبيل الأدب ، نذرها بطولها وعرضها ، حيث لم يعرف عنه أنه تـزوج أو أنجب ولدا ، وحينما امتهن التجارة في أول عمره فإنه إنما كان يبيع من أجل العلم ، لا قصد الربح المادي السريع . لـم يثن أبا عثمان عن تحقيق هدفه أي شيء ، وما كان ذلك ممكنا خاصة وأنه آلى على نـفـسه ألا يضيع وقته وجهده وحياته في طرق جانبية تضـيع عليه الجهـد ولا توصله إلى شيء ، بقدر ما ستعيقه عن الوصول ، إن أقرب الطرق إلى الهدف ـ كما نعلم ـ الخط المستقيم ، لهذا لم يقبل صاحبنا أن يهين عمرا عزيزا في أشياء لا يجني منها سوى الحسرة والندامة . لقد حالفه الحظ حين وقف على الهدف واستطاع بعد ذلك أن يشق طريقه بكل ثبات وعزم ، إن الطريق التي سلكها أبو عثمان لم تكن إلا لتوصله إلى المجـد والعـظمة . والكثير الكثير قبل أبي حيان وبعده حددوا هدفا وكانت دقة تحديده باهرة لكنهم لم يمدوه بما يكفي من الجهـد والعرق ، إن مرحلة ما بعد الغرس تمثل مرحلة أولية وبداية وليست نهاية كما قد يتوهم  البعض .    
   لدى البعض ينتفي العمل بعد الغرس فتموت الشتلة ويزول كل شيء .
هناك صنف آخر من الناس تجدهم يعطون من الجهد والطاقة ما يمكن أن يوصلهم إلى مبتغاهم لو كانوا حددوه ، أما وأن الأمر موكول إلى الصدفـة فلا وألف لا.

أنفاسلقد سبق لياقوت الحموي الرومي أن وصف أبا حيان التوحيدي بأنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء على اعتبار أن هذا الأديب الموسوعي جمع بين مختلف المعارف واستوعب ثقافات عصره بكل شتاتها وفروعها ، حيث عرف عنه تضلعه في الأدب والشعر والنقد والفقه والفلسفة وعلم الكلام والمنطق والتصوف وغيرها ، وإن لم يؤلف فيها جميعا ، إلا أن لائحة بأسماء العلماء والفلاسفة والأدباء الذين أخذ عنهم وتتلمذ على أيديهم تدل أكبر دلالة على مبلغ ما ناله هذا الأديب الألمعي من التحصيل ، فضلا عما حصله من مهنته كناسخ للكتب وكوراق ، من المعلومات والمعارف. وما يهمنا في هذا السياق هو أن نقف عند ملمح من ملامح هذا التكامل المعرفي العلمي في شخصية أبي حيان وفكره ، وفي كتاب واحد من كتبه ، خصصه للفلسفة وتحديدا لحوارات فلاسفة بغداد في القرن الرابع الهجري ، هذا المؤلف هو كتاب" المقابسات ".
    إن الملمح الذي نود الوقوف عنده فـي هذا المجال هو علاقة الأدب بالفلسفة ، أو تحديدا الوقوف على القضايا الأدبية أو ذات الصلة بـالأدب والتي تمت مناقشتها في هذا الكتاب ذي الهم الفلسفي .
      إن أول مـلاحظة تثيرها عملية التأمل في هذا الكتاب تجعلنا نؤكد على أنه يندرج ضمن ما اصطلح عليه بالأدب الفلسفي .
1 ـ تجليات أدبية في كتاب المقابسات :
   يتفق جل الباحثين وأغلب الدارسين من المهتمين بفكر أبي حيان التوحيدي على الطابع الأدبي الذي صيغت به هذه المقابسات ، وإن تناولهم لهذه النقطة قد اتخذ مناحي جلى وسبلا شتى . إذ إننا نجد منهم من يتخذها مسلكا إما لاتهام التوحيدي بتدخله في صياغة هذه المقابسات وربما اصطناعها ونسبتها إلى فلاسفة عصره ، وإما لاعتبار الكتاب خاليا من أية فائدة على غرار المستشرق ماكس مايرهوف الذي يرى أن تدخـل أبي حيان التوحيدي في نصوص الكتاب بالتعديل والتنقيح جعل هذه المقابسات فاقدة لأية قيمة ، في حين اعتبر آخرون هذا التصرف عملا مساهما في تقريب الفلسفة من عامة الناس ، وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش نؤجله إلى حين .

أنفاس''حين ألقوا عليه القبض في جبال المعاضيد بالجزائر، كان مثخناً بالجراح. فقاموا بسلخ جلده وهو حي. ثم حشوا الجلد تِبْناً ووضعوه في قفص مع قِرْدَيْن. وجابوا به المدن التي خرجت معه على سلطة الفاطميين ومنها القيروان والكاف ومدينة باجة وغيرها من مدن البلاد التونسية''. هذا ما يُجمع عليه المؤرخون التونسيون الذين دونوا وقائع ثورة أبي يزيد صاحب الحمار على الدولة الفاطمية. وهم يلحّون على أن الفاطميين أخذوا الناس بالقهر والغلبة والظلم و''من تكلم أو تحرك قُتل، ومُثل به''. ويذهب القاضي عياض في كتابه ''ترتيب المدارك وتقريب المسالك'' إلى أن صاحب الحمار من قبائل زناتة البربرية يعرف بالأعرج صاحب الحمار، كان يلبس جبة صوف قصيرة الكمين، ويركب حماراً، وقومه له على طاعة عظيمة. ''كان أبو يزيد هذا مؤدب صبيان. لكنه تمكن، بما حققه من عظام الأمور، من محو هالة السواد التي كللت بها صورة معلمي الصبيان في الثقافة العربية. منذ الجاحظ تم الجزم بأن معاشرة الصبيان تورث صاحبها الغفلة والسذاجة وانعدام الروية والحيلة. ووصل الأمر بالجاحظ في ''البيان والتبيين'' إلى حد الجزم بأن معلمي الكتاتيب صاروا مضرب مثل في الحمق حتى قالت العامة ''أحمق من معلّم كتّاب''. ونسب الجاحظ إلى ابن شبرمة رأيا أكثر تشنيعا على المعلمين فقال: ''كان ابن شبرمة لا يقبل شهادة المعلمين''. وإلى الرأي نفسه ذهب ابن الجوزي في ''أخبار الحمقى والمغفلين'' فعلل ما سماه حمق المعلمين قائلا: ''ولا نظن السبب في ذلك إلا معاشرة الصبيان''. وهو يذكر أن المأمون سئل، حين كان صبيا، عن حمق المعلمين فقال: ''ما ظنك بمن يجلو عقولنا بأدبه ويصدأ عقله بجهلنا، ويشحذ أذهاننا بفوائده ويكل ذهنه بغيّنا، فلا يزال يعارض بعلمه جهلنا، وبيقظته غفلتنا، حتى نستغرق محمود خصاله، ويستغرق مذموم خصالنا، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة''.
لا يمكن لشخص ترك في الدنيا دويا مثل أبي يزيد صاحب الحمار أن يدخل دائرة الحمق والغفلة. لقد كان أبويزيد مؤدب صبيان لكنه أحاط صورة معلم الصبيان في تونس والمغرب العربي بأمجاد لا يمكن أن تنسى. فلقد نجح في هز أركان الدولة الفاطمية. ويجمع المؤرخون على أنه نجح في تأليب كل المدن التونسية ومدن الشرق الجزائري على الفاطميين وجيّش قبائل البربر وجاء حتى وصل باب المهدية عاصمة الفاطميين في تونس ممتطيا حماره ودق رمحه على بابها الجنوبي. وحاصرها طيلة أربع سنوات غنم فيها غنائم لا تحصى؛ فتغير حاله، وبدل الحمار ركب جوادا مطهما، وخلع جبة الصوف، وصار يرفل في الثياب الفاخرة؛ فانفضت من حوله بعض قبائل البربر.

أنفاسلا يخفى على أحدٍ أن جزءاً كبيراً من النصّ يسقط منه حالما نفرّغه من رؤوسنا فوق أوراقنا، وأن جزءاً آخر منه يسقط حالما يُترجم، وجزءاً آخر يختفي حين يترجَم إلى لغةٍ ثالثةٍ وهكذا..‏
ومع هذا الفقدان المستمرّ لعناصر النصّ تبرز أمام القارئ الحصيف مهمّةٌ ليست سهلةً، وهي محاولة إعادة ترميم النصّ واستكمال ما فقده، وممارسة ما يمكن أن أسمّيه بعمليّة "استحضار الغائب واستبعاد الحاضر" من أجل الإمساك بالبعد المفقود منه.‏
ويتحكّم بنا أثناء عمليّة القراءة ذاكرتنا اللغويّة والثقافيّة الجاهزة، بما تراكم فيها من سبائك تعبيريّةٍ تقليديّةٍ اعتدنا قراءتها أو كتابتها، وأضحت جزءاً عضوياً من بناء شخصيّتنا اللغويّة. وسنجد أنّ من الصعب علينا أن نتخلّى عن هذه الوحدات أو السبائك التي توارثناها لأجيالٍ عديدة، أو ربّما لجيلٍ واحدٍ أو جيلين لا أكثر. وبدون التخلّص من هيمنة هذه السبائك على ذاكرتنا لن نكون قادرين على تحكيم أنفسنا فيما نقرأ، والخروجِ بأحكامٍ عادلةٍ على الكاتب والنص.‏
وأقصد بالوحدات أو السبائك التعبيريّة الجاهزة تلك التي وُلدنا ونحن نسمعها في أحضان أمّهاتنا، فبتنا لانرى فيها أكثر من بُعدٍ واحد، فلا تثير فينا، مثلاً، غرابةً أو استهجاناً، حتى إن كان فيها ما يدعو إلى ذلك حقاً، فالألفة قد قتلت عندنا القدرة على قراءة البعد الخفيّ فيها والذي لا يراه عادةً إلاّ الآخرون ممّن لم يقعوا في أسْر هذه الألفة.‏
ونلمس ذلك في أمثلةٍ بسيطةٍ من وقائع حياتنا اليوميّة. فلا يوجد شاميٌّ يستغرب أن يسمع من أمّه الكلمة المحبّبة التي تدلّل بها أمّهات الشام أطفالها (انشالله تقبرني). فقط عندما يسمعها مصريُّ أو خليجيٌّ أو مغاربيٌّ ينتفض استهجاناً واحتجاجاً على هذا الدعاء العجيب الذي تدعو به الأمّ على نفسها، حتى إن كانت تتمنّى به لولدها طول العمر بحيث يتاح له أن يدفنها بنفسه؛ وأنا شخصيّاً لم أتنبّه إلى ما في هذا التعبير من قسوةٍ وغرابة، بل لم أحاول ربط اللفظ (تقبرني) مطلقاً بالمعنى الأصليّ والحقيقيّ لهذا الفعل وهو الدفن، حتى نبّهني، وقد تجاوزت الثلاثين، زميلٌ لي من مصر: ما هذا التعبير الغريب الذي تستعمله الأمّهات عندكم في الشام؟!‏

أنفاسملخص الدراسة :
تناولت الدراسة ظاهرة التدرج الاجتماعي في المجتمعات وفق التراث النظري لها، والاتجاهات المعاصرة لها، وسعى الباحث لإبراز الجهود العلمية التي بذلها المفكرون والفلاسفة في المجتمعات العربية والإسلامية في مجال التدرج الاجتماعي، من خلال مقارنة ذلك بما كتب في التراث العربي الإسلامي في هذا المجال، للوصول إلى تحديد دقيق لمدى الاختلاف والاتفاق بين تلك الاتجاهات الفكرية، كما هدفت الدراسة إلى تسليط الضوء على آراء المفكرين في التراث العربي والإسلامي وأطروحاتهم في ظاهرة التمايز والتفاضل بين الناس، وهو ما يعرف اليوم بالتدرج الاجتماعي، ولطبيعة موضوع البحث اعتمدت هذه الدراسة على منهجين هما: المنهج المقارن والمنهج التاريخي، باستخدام أداة تحليل المضمون. وقد توصلت الدراسة من خلال استعراضها لجهود المفكرين في التراث العربي الإسلامي إلى أسبقيتهم على علماء الاجتماع في العصور الحديثة، الذين تناولوا ظاهرة التدرج الاجتماعي، وأن محددات ومعايير التدرج الاجتماعي التي تعرضها الاتجاهات النظرية لعلم الاجتماع، كانت قد حددها مفكرو التراث العربي الإسلامي، باعتبار أن ظاهرة التدرج الاجتماعي حظيت باهتمام كبير في المجتمعات العربية الإسلامية، وأن لها جذورها التاريخية والاجتماعية، وإدراكاً رئيساً لأهميتها ودورها في تقدم ونمو المجتمع المبنية على وحدته، مع إتاحة الفرصة للناس لكي يتفوّقوا دون أذى بغيرهم، ووفق ضوابط معينة. كما توصلت الدراسة إلى أن غالبية الدراسات الاجتماعية العربية المعاصرة،الخاصة بالتدرج الاجتماعي، تأثرت في تفسيرها لظاهرة التدرج الاجتماعي، بالاتجاهات النظرية الغربية، ولم تكن هناك إشارة لأي من مفكري التراث العربي الإسلامي، وكان هناك شبه تغييب لجهود هؤلاء المفكرين، عند تفسير نتائج تلك الدراسات، مما قد يكون حرم المجتمعات العربية من الإفادة من نتائج تلك الدراسات.‏
موضوع الدراسة:‏
يعد التدرج الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية المعقدة، التي تعتمد على العديد من العوامل التي تختلف من مجتمع لآخر، كما تعد هذه الظاهرة في معظم المجتمعات بمثابة عملية دينامية تسمح بمزيد من التغيرات في تكوينها وكذلك في الخصائص العامة للمستويات والدرجات المتباينة، كما أن التدرج الاجتماعي من العمليات الاجتماعية المهمة التي تعمل داخل البناء الاجتماعي للمجتمع ويلقي الضوء على ما يحدث في البناء الاجتماعي ويساهم في تحديد طبيعة هذا البناء ومدى استقراره وديناميته والمرحلة التطويرية والتنموية التي يمر بها(1).‏

أنفاستعتمد دراستنا لهذا الموضوع على تفكيك البناء الفني للسيرة، وهذا من خلال الكشف عن الأسس الفنية والأدوات التعبيرية التي وظفها الراوي لإنجاز عمله والمتمثل في سيرة الملك الظاهر بيبرس، ومن أبرز الأسس:‏
1 ـ دراسة البناء السردي للسيرة:‏
إن الكشف عن البناء السردي المتبع في السيرة لا يمكن تجليته للقارئ إلا بعد تفكيكه إلى وحدات تعبيرية تقنية ارتكز عليها السارد في تقديم السيرة، ومن هذه الوحدات:‏
الراوي، حيث يكثر استعمال هذا المصطلح في السيرة الشعبية عامة وفي سيرة الظاهر خاصة، حيث إن المؤلف في كل انتقال من حكاية لأخرى يلجأ إلى تقنية تعبيرية كرّرها كثيراً، فألفها القارئ وحفظها السامع، هذه التقنية هي: "قال الراوي"، وهو بهذا العمل يعيد إنتاجاً مروياً، وأحداثاً وقصصاً.. إلى متلقين هم في أغلب الأحوال لم يطلعوا بعد على الأحداث، أو هذا المروي الجديد.‏
وإذا علمنا أن الراوي في السير الشعبية عامة ينتظم في نمطين:‏
1. راوٍ مفارق لمرويّه: يتدخل دائماً فيما يرويه.‏
2. راوٍ متماهٍ2 بمرويّه: يترك للمروي أن يروى دونما تدخل مباشر فيه.‏
ومن خلال تحليل البناء الفني للسيرة يظهر لنا أن الراوي المفارق لمرويه يحتل مساحة كبرى داخل العملية السردية المتحكمة في بناء السيرة، أما الراوي المتماهي في مرويه، فإن وجوده بالسيرة جدّ قليل فمن أمثلة النوع الأول: "قال الراوي: وأما ما كان من أمر المقدم إبراهيم وسعد"(3) وكذلك قوله: "ثمّ إن الملك أعطى الكتاب إلى النجاب، وقال لوكيل الخزنة: أعط خلعتين، واحدة إلى جمال الدين شيحة، والثانية لأبي علي البطرلي"(4)، وقوله أيضاً: "أما ما كان من أمر المقدم معروف بينما هو في دير الشقيف، وإذا داخل عليه رجل تاجر، وقدم إليه هدية قماش وغيره، وقال له: إكراماً إلى جدك أبي السبطين الإمام علي عليه السلام، أن تأخذ مني هذه الهدية، فقال له المقدم معروف: قبلتها.‏
ولكن لأي شيء تقدم لي هذه الهدية"(5)، والسيرة عموماً تعج بهذا النوع من الراوي، فلا يترك مجالاً لأبطال وشخصيات السيرة أنْ تعبر عن أفعالها، وإنما يدفعها بتدخله إلى قول ما يريده الراوي.‏