أنفاسأبو حيان التوحيدي شخصية فذة قلما نجد لها مثيلا في تاريخ الحضارة الإسلامية ، شخصية يمكن بسهوله وصفها بأنها شخصية عظيمة بكل معاني الكلمة ، ولعل عمق شخصية هذا الأديب هي السبب الذي حذا بكثير من المؤرخين والباحثين قديما وحديثا إلى مقارنته بأدباء ومفكري عصره بل وبسابقـيه ، ولعل هذه المقارنات إن دلت على شيء فإنما تدل على صعوبة تصنيفه ضمن نطاق ضيـق ، وكلنا نعلم صعوبة تصنيف أمثال هؤلاء العباقرة ضمن التصنيفات الضيقة ، فكل من يتعامل مع التوحيدي ولو من خلال مؤلف واحد يدرك بعمق صعوبة تنميطه وتصنيفه إذ إن ما يثير الاهتمام كثيرا في هذا المفكر هو ذلك الإشعاع النادر الذي ينبع منه ، وما يستفزنا هو ذلك الجانب المشع في شخصيته وفكره ، والمقصود بالإشعاع ليس فـقـط ذلك الجانب الموسوعي في ثـقافـته وفكره ، إذ الأمر أكبر من ذلك بكثير ، إضافة إلى أن صفة الموسوعية صفة يشترك فيها كثير من مؤلفي التراث ، إن المقصود بالإشعاع هو ذلك الجانب الذي يجعل من التوحيدي صورة وافـية دقـيقة الملامح لعـصر كامل بكل ما يحمله من تناقـضات وما يحـبل به من غنى ، إنه ، إن صح التعـبير ، صورة صادقة عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري . إن حادثة إحراق التوحيدي لمؤلفاته على سبيل المثال تمثل حدثا تاريخيا أثار انتباه الكثير من المؤرخين ؛ القدماء منهم والمحدثين على حد سواء ، بحيث إن التوحيدي استطاع من خلال هذا الحدث أن يعبر عن أعمق درجات الوعي بحقيقة الوجود الإنساني ، تعبيرا عن رفض عميق وجدري لأن تتحول حياة الإنسان بكل ما تحمله من معنى إلى مجرد جسد يحمل حلية زائفة ، جسد لا روح فيه ، إن التوحيدي يعـلن صراحة وبشكـل لا هوادة فيه عن رفضه لطغيان القيم المادية على حياة الإنسان ، إنه إعلان لرفضه أن تـنقلب القيم والموازين ، فحينما تـنقـلب هذه الموازين ويصير توزيع الخيرات أمرا موكـولا إلى مقاييس الشطارة والظرف والخفة بل والمكر والخداع ، يصرخ أبو حيان بكل قوة ليعلن انسحابه من اللعبة ، لأنه في مثل هذه الظروف يعجز الكرام من الناس عن نيل المكانة اللائقة بقيمتهم وقدرهم ، وتتاح الفرص للأنذال والساقطين ممن يملكون الاستعداد للتضحـية بكرامتهم وكـبريائهم ـ هذا إذا كانوا أصلا يملكون منها شيئا ـ من أجل لقمة عيش أو حظوة عند أمير أو وزير، التوحيدي يرفض وبكل إصرار أن تصير المقاييس البهلوانية " الظرف والخفة والشطارة…" مقاييس للتفاضل بين الناس ، ويعلن أن ما ينبغي أن يتخذ حكما بين البشر يجب أن يكون شيئا آخر غير ذلك : الخلق والعلم والدين والعقل …سمّها ما شئت لكنها قيم الإنسان الحقيقية التي جاءت الأديان السماوية والأرضية لترسيخها وجعلها قاعدة في حياة البشر ، لهذا فلا غرابة أن يعلن التوحيدي وهو المثقف الحر ، عن رفضه بكل قـوة متخذا كـتبه ـ وهي أغلى ما يملك ـ ليعبر عن رفضه ، كتبه التي تمثل آخر ما فضل من معاناة عمر طويل بعد أن فقد الصاحب والولد ، لقد قرر أن يضحي بهذا الولد البار معلنا بشكل مؤلم عن تفاهة الحياة من غير قيم نبيلة يرجع إليها ويحتكم إليها .

أنفاس 1 - تمهيد :‏
ليس من السهل أبداً تعقب ابن خلدون في كتاباته قصد الإمساك على موضوعة من الموضوعات التي عالجها في إطار رؤية معرفية شاملة. ذلك أن ابن خلدون إنما ينهج في مقارباته التحليلية إلى ضرب من الرؤى الكلية التي تجمع الأشتات إلى بعضها بعض قصد تأليف حقيقة معاينة. ومن ثم فالرؤية الحضارية التي باشرها ابن خلدون لم تكن لتكتب فصلاً في التاريخ وآخر في السياسة، وثالثاً في الدين... وإنما الهم في رؤية ابن خلدون أن يأتي كل ذلك في نسق معرفي واحد، يبدأ بالتفكير المجرد لينتهي إلى التسجيل المحايث للتجارب التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية.‏
تلك هي الخاصية التي أردت التوقف عندها في معالجتي للكتابة الدينية عند ابن خلدون، باعتباره شاهداً على العصر. غير أنني ـ وقد أكون بعيداً عن المتعارف عليه في شأن الرجل ومنهجيته ـ أقدم فهماً خاصاً، يتفصد عن قراءة متأنية للمقدمة على وجه الخصوص. ومنه أكون طرفاً في الدلالة التي أرادها لمنهجه وكتاباته. وليس أمامي إلا النص أنقض غزله لأصل إلى الوجه الديني في الطرح الخلدوني للشهادة.‏
2 ـ هندسة المقدمة:‏
إن المتصفح لكتب التاريخ العربي التي صنفت قبل ابن خلدون، يلحظ ظاهرة لا تخطئها العين أبداً... فكل مصنف إنما يبدأ من البداية الأولى، ثم يتدرج من بدء الخليقة إلى أيام الناس زمن التحرير، وكأن الكتابة التاريخية إنما هي من قبيل استحصاد القائم في الذاكرة من أخبار وقصص وروايات، سواء تأسست أخبارها على مصادر يقينية ثبتة، أو كانت مجرد أساطير تتدفأ بها الذاكرة القومية في مجالس السمر والحكايات.‏
غير أن هذه الملاحظة لا يمكن لها أن تنتقص من قيمة المرويات ونصوصها، أو تشكك في مصادرها، لأنها استندت في كثير من رواياتها إلى أحاديث صحيحة... ولكن الشك يقع على الأخبار التي استقاها المؤرخون من مصادر شفاهية تقوم مادتها على الرواية وحسب. كما عمد المؤرخون كذلك إلى نظام السنوات، يروون لكل سنة حوادثها الكبرى التي أثرت في واقع الناس، وحولت وجهة الأحداث من طرف إلى آخر.‏
لم تسعف وفرة المادة التاريخية وتداخل رواياتها المؤرخ ليقف منها موقف المتفحص المتأمل، ولم يمهله طول الكتاب وضخامته ليقف منه موقف الناقد. وربما استلذ المؤرخ توارد الأخبار وتتاليها فاستنام لهدهدتها وغرابتها، وفوَّت على نفسه فرص الاستفاقة لها ومراجعتها..

أنفاسالـتـصوف فـلسفـة ونـظـرة إلى الحـياة ورؤيـة للـوجـود . إنـه نـوع مـن الـتـعامـل مـع الحـقـائـق الـكـونـية بـشـكـل عـام ، ومع الـقـضـايا الإنـسـانـيـة بـشـكـل خـاص .
فـعـلى الـمسـتـويـات الاقـتـصادية والـسيـاسـية والاجـتـماعـيـة والأخلاقـية… يـمـثـل الـتـصوف مـوقـفـا بـامتـيـاز . إنـه مـوقـف رافــض للـمـظاهـر الـسـلـبـيـة في كـل مـجـالات الـحـياة الـتي يـلامـسها .
إنـه بـشـكـل أو بـآخـر سـعي إلى تـصحـيـح الأوضاع الـتي تـعـاني اعـوجـاجـا واضطـرابا .
فـعـلى الـمـستـوى الـسيـاسي يـمـثـل الـتـصوف رفـضا لـكـل أشـكـال الـمـرض الـسيـاسي من تـنـازع عـلى الـسـلـطـة وتـعـال وظــلـم واستــبــداد ، إنـه سـعي إلى تــلـطــيـف أجــواء الـنــزوع الـسيـاسي نـحـو الاستـعـلاء وتـحـطـيـم الآخـر بـشـكـل مـن الأشـكـال سـواء مـنـها ما كـان مشـروعـا أو مـا كـان بـخـلاف ذلك .
وعـلى الـمسـتـوى الأخـلاقي ، يـمـثـل الـتـصـوف تـصحـيـحـا للـسـلـوكـيـات الـمـرضـية الـقـائـمة عـلى حـب الـعـاجـلة دون الآجـلـة ، وتـكـريـسا لمـبـدأ الـعـدل والـتـوازن بـيـن الـقـيـم الـروحـيـة والـقـيـم الـمـاديـة . فــقـد اكـتـفى الـكـثـيـر مـن الـنـاس في الـعـصر الأمـوي الـذي ظـهـر فـيه الـتـصوف ـ  على سـبـيـل الـمـثـال ـ بـالـسـعي إلى جـني أكــبـر قــدر مـمـكـن مـن الـمـال ، وتـحـقـيـق أكـبـر حـظ مـمـكـن مـن الـمـتـع واللـذائــذ الـدنـيـويـة الـمـادية ، ضـاربـيـن عـرض الـحـائـط بـالـقـيـم الـروحـيـة والإنـسانـيـة الـتي أتى بـهـا الإسـلام وســعى إلى تـرسـيخـها ، فـقـد تحـولـت حـيـاتـهم إلى حـيـاة فـارغـة من الـمـعـنى ومن الـروح ، حـياة تـعـتـبـر كـل شيء في الـمـال والجـاه . وكـل مـجـتـمع تـسـود فـيـه هذه الـقــيـم يـستـحـيـل أن تـتـحـقـق فـيه الـعـدالـة الاجـتـماعـية في تـوزيـع الخـيـرات بـشـكـل يـراعي حـق الـضعـيـف ونـصيب الـفـقـيـر ، وهـذا الـنـوع من الحـياة يـحـيا بـالـمـال ويـموت بمـوتـه وفـقـدانـه ، وتـصـيـر الحـيـاة بـعـد الـمـوت سعـيـا إلى نـيـل الـمـال أو إلى استـرجـاع مـا ضاع مـنـه أو أنـفـق بـشـتى الـطرق والـوسائـل ، المـشـروع مـنها والـمحـرم عـلى حـد سـواء . في هـذا السـيـاق يـأتي الـتـصوف لـيعـيـد الاعـتـبـار للـقـيم الـروحـية ، ولـيعـيـد الأمـور إلى نـصابـها .
   إن نـقـطـة قـوة الـتـصوف في هـذا الـمجـال لـيـست في محـاولـتـه إصلاح الـوضع بـقـدر ما تـكـمـن الـقـوة في طريـقـة معـالجـتـه لهـذه الأوضاع  وطريـقـة تـعـامـلـه مع هذه الأمـراض .

أنفاستتجلى أزمة الموقف الحضاري في موقفنا من كل بُعد فيه، سواء كان التراث القديم أو التراث الغربي أو الواقع المعاش للناس.
1 -  فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين وكأننا متفرّجون عليه ولسنا أصحابه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسؤولين عنه. نكرّر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أنّ التراث القديم ليس منفصلا عنّا، بل هو جزء منّا، ونحن جزء منه، كوّننا وأعطانا تصوّراتنا للعالم، وأمدّنا بموجهات للسلوك. نحن مسؤولون عنه بقراءتنا له مثل مسؤولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منّا إزاءه في القراءة والتفسير والفهم والتأويل. نكرّر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة ولا نعرف كيف نشأت وأيّ أغراض خدمت. وبالرغم من تغيّر الظروف القديمة ونشأة ظروف جديدة تتطلّب اختيارات بديلة، فإننا نكرّر الاختيارات النمطية القديمة التي تعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروف الجديدة التي نعيشها اليوم وكأنّ التراث جسم ميت، وجثّة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور أو أصحاب أو أهل، ومن ثمّ يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيّاً يتصوّرونه "كتباً صفراء"، و"قيل وقال"، لا أمَل فيه، لا يثير قضيةً، ولا يقدّم حلاّ، فيتوجّهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد "التغريب"، ممّا يجعل بعضهم يقوم بردّ فعلٍ على ذلك فيتمسّك بالقديم كلّه، ويرفض المعاصرة كلّها، فتنقسم الأمة إلى فريقين: فريق يرى صِلته بالتراث صِلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثُمّ وصال. الأول يرى في التراث كلّ شيء والثاني لا يرى في التراث أي شيء.
ولم ندرس علم أصول الفقه بأكمله وهو ما يعبر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيداً عن الإشراق، وأحكام منطق اللغة بعيداً عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيداً عن الروايات الموضوعة التي تُلهب الخيال وتتحوّل إلى جزء من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهج للسلوك بعيداً عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهج للرواية لضبط النقل أو وضع أصول المنطق الحسي الذي يقوم على المشاهدة ومجرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطق بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهِد، وقياس الأولى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. لم نعتنِ بكيفيّة نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلاّ في إطار (تاريخ العلوم والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلاّ في إطار "تاريخ العلوم عند العرب" كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نحاول نحن معرفة الصّلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوُضِعَ ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابن خلدون مع باقي المؤرخين دون إدراك للنوعية والاختيار.

أنفاس يتحدث هذا المقال عن إحدى الأساطير العربية القديمة هي أسطورة ثمود، وذلك من خلال ما جاء في القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسرد كتب التاريخ والمغازي، بهدف إعادة بناء تلك الأسطورة، وذلك من خلال كتاب (العرب والغصن الذهبي إعادة بناء الأسطورة العربية) للمستشرق الأوكراني الأصل، الأمريكي الجنسية الدكتور ياروسلاف ستيتكيفيتش،  وقام بالترجمة الناقد العراقي أ/ سعيد الغانمي، والصادر عن المركز الثقافي العربي بيروت – الدار البيضاء 2005 .
**عرض موجز:
في هذا الكتاب «العرب والغصن الذهبي» يفتح المؤلف آفاقاً أمام القارئ العربي لم يعهدها في قراءة التراث الأدبي، فهو إذ يقرأ قصة ثمود، تلك القبيلة العربية البائدة، من خلال ما كتبه عنها الإخباريون والقصاص والمفسرون، فإنه يعيد قراءة تاريخها على صعيدين: يعنى الأول بكشف التاريخ الفعلي الذي عاشته ثمود عبر التاريخ، كما كتب في الوثائق والمدونات، ويعنى الثاني بكشف الأسطورة التي تركتها ثمود في الخيال العربي قبل الإسلام.  وما إن تمّ ترميم هذه الأسطورة العربية، حتى صارت أساساً للدراسة المقارنة للأسطورة والرمز، بدءاً من غصن ثمود الذهبي، وصولاً إلى نقاش أدبي شديد التركيز للملاحم الكلاسيكية الأولى والثانوية (جلجامش وهوميروس وفرجيل) .
تدافع المقدمة عن وجود «ميثولوجيا» عربية، وتتابع في قسمها الأكبر، الآثار المبعثرة لأوصال الأسطورة في الثقافة العربية.  ويقدم الفصل الأول المصادر النصية الأساسية للكشف عن الغصن الذهبي، ومن بينها القرآن الكريم، وكتب الحديث، والسيرة النبوية، وقصص الأنبياء، وكتب التفسير، ودوائر المعارف. وعلى أساس هذه المواد نستطيع ترميم أسطورة ثمود العربية، ونبدأ معها بتلمس المعضلة الملغزة للغصن الذهبي الثمودي الذهبي.
ويوضح الكتاب كيف يبرز البعد المأساوي للأسطورة الثمودية إلى الصدارة في التراث الشعري العربي الكلاسيكي في مقابل البعد الأخلاقي الذي يبرز في كتب التفسير، ثم يقدم تاريخاً مغايراً للتدوين الأسطوري، لأفول مدينة القوافل الثمودية.  ويناقش السابع الوجه الأسطوري والكارثي في «الصيحة» النهائية التي ميزت دمار ثمود.
أما الفصل الثامن فيتخذ من «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر نقطة انطلاق له ليصل إلى تذييل الدراسة المقارنة للملحمة القديمة والكلاسيكية بنظرة تفضي إلى مزيد من التحديد والتأويل لرمز الغصن الذهبي. وأخيراً تضع الخاتمة الغصن الذهبي العربي في قلب أسطورة عربية تنتج تطابقاً رمزياً لقدار، ذابح ناقة صالح ، وصالح بني ثمود نفسه، وصولاً إلى العصور اللاحقة.

 أنفاسنموذج أسطورة  الكون والحيوان العجائبي
مقدمة

 نسجت الأسطورة  داخل الحقل العربي الإسلامي الوسيط متخيلا دينيا وأدبيا استطاع أن يخترق حدود الزمان ويتسرب داخل كتابات متعددة الأغراض كونت النواة الأولى للثقافة العربية الإسلامية. فظاهرة الوضع التي أثرت في الحديث النبوي وظاهرة ما يسمى " الإسرائيليات " وعلاقتها بكتب التفسير وظاهرة العجائب وعلاقتها بكتب الأدب والجغرافيا والحكايات بصفة عامة، ما هي  إلاّ عناصر تحدثنا عن الصلة الوطيدة بين هذه الأنواع الدينية والأدبية والمتخيل الذي يستمد قوته وتنتعش روحه داخل عالم الأسطورة.
 فالحدث الأسطوري، الذي يمثل " تاريخا مقدسا "، يستغّل أدنى فرصة يعطيها له النص المقدس ( القرآن) أو النص الحديثي أو الأدبي بصورة عامة فيشبعهم سردا. يُتمّم ويصنع الظروف والسياقات ويضيف الحلقات الناقصة داخل سلسلة الحكي.
 ونجد داخل الأغراض الأدبية السالفة الذكر وحدات سردية وحكايات مزركشة مصنوعة بقماش عجائبي وعناصر أسطورية تعطينا فكرة عن الدور الفعّال الذي
لعبه شخص القاص ( أو القصّاص) متلّبسا أقنعة مختلفة (مُذكّرا وواعظا ومفسرا) حيث أثرى هذه الحكايات بواسطة مخيلته الفياضة. فتكوين هذه القصص بهذه العناصر جعلها تحفظ لنا جانبا من جوانب المتخيل الديني والأدبي الذي كان سائدا في السرد العربي الإسلامي الوسيط .
  وبناءا على ما سلف فقد عرفت قصة خلق الكون عملية أسطرة باعتبارها الحدث التأسيسي الأول الذي أخرج  إلى الوجود كل الوحدات المكونة للكون، وأنتجت هذه الأسطورة داخل الحقل العربي الإسلامي متخيلا دينيا وعجائبيا وليد عمليات تفسيرية و تأويلية    متنوعة . سنحاول في  الجزء الأول من هذا المقال تسليط الأضواء على مكونات وتجليات هذه الأسطورة انطلاقا مما ذكره  الراو   يأبو  اسحاق        الثعلبي  من مواضيع وعناصر مختلفة لأسطورة خلق الكون -الأرض والسماء والشمس والقمر  - في عرائس المجالس).أما فيما يخص الجزء الثاني من  المقال   المتعلق بالحيوان العجائبي فسنتطرق للأسئلة التالية:  كيف أدرج الثعلبي الحيوان العجائبي في سرده؟ وما هو دوره داخل سرديات قصص الأنبياء ؟ما هي المكوّنات    والعناصر التي ساهمت في تصويره؟ أسئلة نحاول الإجابة عليها انطلاقا من أمثلة سردية.
1.1الثعلبي وأسطورة الكون

أنفاس مثلما استطاع جمال الدين أن يوفق بين تفكيره الإسلاموي وتفكيره القومي استطاع , بالمثل , أن يوجد نوعاً من الروح المشتركة التي تجمع فيما بين الاسلام والعروبة .
وانسجاماً مع هذا الموقف حمل جمال الدين لواء الدفاع عن اللغة العربية لكونها الرابط الذي لابديل منه بين أفراد الأمة . فهي تؤدي الى التحام , ورأي التحام , في نسيج الأمة وبنيتها . وأكثر من ذلك حيث شاهد أن ( الجامعة اللغوية ),وهي التسمية التي أطلقها الأفغاني على وحدة اللسان العربي , تنطوي على ما هو أخطر من تلك الصيغ والتعابير والمفردات اللغوية . فهي ( الجامعة )التي تحفظ تراث الأمة وآدابها وحضارتها وتاريخها , كما أنها – وهذا شيء مهم بذاته – تنطق بقرآنها .
 ولم يكن جمال الدين , في دفاعه عن اللغة العربية , ينطلق من فراغ , وإنما انطلق في ذلك الوقت من حالة كانت سائدة في بلدان المشرق العربي, وهي حالة العجمة في اللسان العربي . وقد أفرزتها سياسة التتريك التي كانت متبعة آنذاك في بلدان المشرق.) فثمة تيار مستعجم , محتقر للغة العربية وآدابها وتراثها , راح يطل برأسه , وكان " اسلوباً عجيباً لإضعاف لغة القوم , والتدرج بقتل التعليم القومي "كما يصفه الأفغاني .وقد رفع الصوت منبهاً دور التعليم والقيمين عليها الى هذا الخطر المحدق بالعرب الذين باتوا مستهدفين لا في أوطانهم وحسب وإنما أيضاً في تراثهم وحضارتهم وآدابهم , والأهم أنهم باتوا مستهدفين في قرآنهم .
ولعل أكثر ما كان يقزز نفس الأفغاني مشاهدته لواحد من العرب وهو يرطن في لغته ويتباهى بازدرائها . ومما أثار حفيظته أن ظاهرتي الرطانة وازدراء اللغة انتشرتا بشكل لم يسبق له مثيل في أوساط المثقفين والأدباء . وهذا ما حدا الأفغاني , على التأسيس لتيار من المنشئين والأدباء المتمسكين بأصول لغتهم وتقاليدها , والرافضين لأي رطانة أعجمية أو سجع أو تزويق لغوي مبالغ فيه , وهي أمراض ثلاثة كانت تعث في جسد اللغة العربية وتحيله الى جسد رخو , ميت ,ولا حياة فيه .
وفي كل ذلك كان الافغاني يصدر عن خطة واعية إذ أن اللغة العربية هي العمود الفقري للثقافة العربية , وأن القضاء على الأولى يعني القضاء على الثانية . وأكثر من ذلك حيث أن لاشيء يجمع فيما بين العرب مثلما تجمع بينهم لغتهم. فهي عنصر أول وأساس في وحدتهم وجمع شملهم . وحفاظاً على هذه الوحدة يجب أن تنهض نخبة من الأدباء والمثقفين للذود عن لغة الضاد . ليس هذا وحسب وبل لتطوير وتحديث أساليب الكتابة الأدبية والفكرية بحيث تصبح اللغة العربية لغة عصرية بمكنتها استيعاب وهضم كل ما يجد على صعيد الأدب والفكر والعلم . وعندها يسقط أي ادعاء آخر بقصور اللغة العربية وبعدم قدرتها على هضم المعارف الحديثة , وعندها أيضاً – وهذا الأهم – يحافظ العرب على وحدتهم الثقافية والسياسية " فلا جامعة ( وحدة ) لقوم لالسان لهم – يقول الافغاني – ولا لسان لقوم لاآداب لهم , ولا عز لقوم لا تاريخ لهم , ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم ".

أنفاس د- مصطفى صادق الرافعي . . الذي سار بنا في كتابه الرائع [ الدعوة والدعـاة في الإســلام ] .. يدور حول ما أُحبه وأعشقه . . إنها فاكهة القارئ ، وأُنس المتابع ، وقدوة الباحث ، وحكاية الزمان . . إنه ما قال عنه الإمام أبو حنيفة النعمان – رحمه الله تعالى- : ( إن السير أحب إلينا من كثير من الفقه ) فالسير مدرسة الفقه . . وعلم التاريخ . . وتجارب الحياة .
وحكاية الزمان . . والحكايات التاريخية . . عهدتها على الرواة . . ما . لم يتهم . . وهكذا تجلت ريشة الدكتور الرافعي لترسم الحديقة الغناء .
في كتابه آنف الذكر . . واختار عدد من الدعاة والعلماء . . ومنهم الإمام المجدد . .
والسبب لتأليف هذا الكتاب : ( فمن أجل حركة توعية رائدة ، ومن أجل تجهيز دعاة إسلاميين ذوي جدارة وأهلية ، لمواجهة النكبات التي تتوالى على الإسلام والمسلمين منذ أكثر من خمسة قرون ، أقدم هذه العجالة عن بعض الدعاة السابقين المؤهلين "رجال الإسلام" عسى أن يكون فيها بعض ما ينير الظلمات التي تكتنف حياتنا ،وتلف مجتمعاتنا ، وعسى أن تنشأ بوادر انتفاضة صحيحة تقوّم الاعوجاج ، وتزيح أستار الضلالة ، وتدفع بعربة الإسلام في طريق المجد والتقدم ) ومن القدوات لأبناء هذا الجيل إمام الدعوة السلفية المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى- ولنقف مع أديبنا د- مصطفى صادق الرافعي والإمام محمد بن عبدالوهاب .. حيث قال :
الدعوة السلفية
عاش الشرق الإسلامي زهاء خمسة قرون من عمر الزمن ، ينعم في بحبوحة ونعيم ، وحضارة وارفة الظلال ، بفضل نور الإسلام الوهاج الذي عمّم خيراته على كل أرض ، ونشر هدايته لكل قبيل. بعدها اعتراه الوهن والضعف ، فمر في عهود سوداء ، وحاقت به ظلمات حالكة ، فتقلصت هداية الإسلام عن أرضه أو أوشكت ، وأصبح تراث المسلمين نهباً مقسماً بين شذاذ الأمم ، وذئبان الشعوب ، يستغلون علومه ويستأكلون حضارته ، فسيطر على بلاده الغربيون ، فأذاقوها من العذاب أقسـاه ، ومن الألم أشده ، حتى انحدرت بلاد المسلمين إلى هوة عميقة من الضعف والتخلف والانحطاط.
ثم ما إن أطلّ القرن الثامن عشر ، حتى انطلقت صيحة واعية مؤمنة من قلب الجزيرة العربية ، تهيب بالمسلمين أن يتحرروا من الشوائب التي اعترت عقائدهم ، والخرافات والأباطيل التي شوّهت دينهم ، وأن يعودوا في جميع شؤون حياتهم إلى ما كان عليه حال السابقين الأولي من أسلافهم.
وكان مرسل هذه الصيحة ، الداعي إلى الله على بصيرة القائد الفذّ ، محمد بن عبدالوهاب ، وإليه تنسب "الحركة السلفية" التي دعت إلى إصلاح النفوس ، واستعادة مجد الإسلام ، فظهرت بظهورها تباشير صبح جديد ، فيه كل معاني الصباح ، من نور وضياء ، وإشراق ولألاء ، فأيقظ المسلمين من سباتهم العميق الذي رزخوا تحت وطأته حقباً طويلة من الزمن.