أنفاسفي هذا المجال هناك مجموعة من الملاحظات لابد من الأخذ بها لتمهيد التربة في اتجاه تحقيق شروط هذا الجدل البنّاء وتحوله إلى تعايش مخصب ومثمر يستفيد منه الإسلام وتستفيد منه الحداثة.
أـ ينبغي الإدراك أن عدم التوافق وأن الصدام لا ينبعان من وجود منظومتين أو منطقين مختلفين، فعلى الصعيد العقدي والرمزي ليس هنا إلا منطق واحد لدى المجتمعات وفي كل زمان ومكان، هو منطق التداعي والربط التعسفي والاعتباطي واعادة توظيف العلامات والرموز والمفاهيم والصور واعطائها المعاني الجديدة. ويكفي من أجل ذلك القيام بإعادة تفسير المنظومتين كما فعل العرب والمسلمون أنفسهم حتى الآن وكما سوف يفعلون في المستقبل. إذ ليس هناك أي حل تاريخي آخر، وليس هناك أي امكانية كي تغير أمة أو جماعة كلياً منظومة قيمها وتتبنى منظومة أخرى. وحتى الاسلام لم يفعل ذلك، وانما عمل إلى حد كبير من خلال اعادة توظيف المعطيات الثقافية العربية وتوجيهها في اتجاهات جديدة ارتبطت هي نفسها بتغيير المجال الجغرافي والسياسي تغييراً كاملاً حتى أمكن لها النجاح والانتصار. والأزمة التي يعرفها العرب مع الإسلام اليوم ليست جديدة وإنما هي حلقة من الحلقات الطويلة على طريق اعادة التفكير وتجديد المفاهيم والقيم والمعاني، أي وضع الاسلام والمنظومة القيمية الاسلامية في العصر والتطبيق العصري. وإذا كان الصراع قد تفجر في هذه الحقبة التي نعيش فلأن تأخراً قد حصل في العمل الفكري الضروري من أجل تجديد الأفكار وتنظيم القيم الوافدة والسيطرة عليها، أي اخضاعها لمنطق الثقافة المحلية وآلياتها ووضعها في سياق رؤيتها العامة وغاياتها. والسبب الرئيسي في هذا التأخر هو إلغاء حرية التعبير والتفكير والنشاط السياسي.
ب_ إن الموقف الجماعي والاجتماعي، وبالعمق السياسي أيضاً، من الدين، لا يمكن أن يتحدد بالنظر إلى حادث عارض أو موقف جزئي أو حركة سياسية أو موقف فلسفي أو فرضية نظرية. ولابد من أن ندرك أننا لا نستطيع الخروج من المأزق إذا ما بقيت اشكاليتنا الرئيسية فيما يتعلق بالدين مرتبطة وقائمة على أفكار مبتسرة سريعة حول الدين أو الدولة أو التعصب أو عدم التعصب، وإذا ما استمرت مرتبطة بدوافع وقتية سياسية أو غير سياسية، تكتيكية، أو إذا ما بقيت قائمة على المخاوف وعلى الرياء والغش والخوف من الدولة أو من رجال الدين أو من الجمهور. فلا بد لنا، ونحن نواجه هذه المسألة الكبرى؛ من أن نتجاوز أفكارنا المجتزأة وحساسياتنا الشخصية ورؤيتنا المصلحية الضيقة التي كثيراً ما تخفي عنا حقيقة الوضع.

أنفاسفي الفكر العربي وظاهرة الدين:
لقد أثر الدين في المعرفة والبحث في المجتمع العربي من حيث اختيار النظريات والمناهج والميادين. ووضع الحدود التي لا تتعارض مع تعاليم الدين وروحه. وفكرة العلم النافع وغير النافع التي ترد في التراث كثيراً تعبّر عن تدخّل الدين أو توجيهه المعرفة المطلوبة حتى تأتي ملبية الحاجات المجتمعية والفكرية، ولكي تحافظ على الوحدة والتماسك في كثير من الأحوال. وقد كانت كلمة العلم والعلماء، وما زالت _في بعض الحالات _ ترتبط بالمعارف الدينية وأهلها. أما الظاهرة الدينية، الموضوع، فقد ظلت خارج ميدان الدراسة العلمية لأنها تتضمن فوق البشري والمتعالي. وتنتهي حدود أي دراسة عن الدين عند الشرح أو التأويل الذي يُمكّن الدين من مسايرة مستجدات التاريخ والتطور.
أخذت دراسة الظاهرة الدينية حيزاً كبيراً في الفكر العربي _ الاسلامي المعاصر، ولكن علم الاجتماع في الوطن العربي بتعريفه ومحاولاته المعروفة في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والبحثية لم يساهم بقدر وافٍ في دراسة الظاهرة الدينية بوسائله وتحليلاته الخاصة رغم أهمية الظاهرة.
كذلك نعني بالتفسير الاجتماعي _ التاريخي للظاهرة الدينية الاجابة عن نشأة الدين ووظائفه وتوظيفه، بتتبع التطور الزمني والسياق الاجتماعي والثقافي للظاهرة. ونستطيع القول، بحسب الفهم المعروف لعلم الاجتماع والمقصود من الدراسة الاجتماعية للدين، إن الميدان في كليته ما زال بعيداً عن البحث والتناول رغم وجود دراسات عديدة بالذات الفلسفية والفكرية والسياسية في الفترة الأخيرة جاءت تبحث في عجلة عن الواقع الذي تنامت ضمنه الاتجاهات والتيارات الدينية.
هذا قصور في علم الاجتماع العربي، وشكل من ملامح أزمته الراهنة، إذ يفتقد التحليل السوسيولوجي ظاهرة البعد التاريخي والوعاء الاجتماعي الذي تتفاعل وتنمو الظاهرة داخله، وتعالج غالباً كموضوع لا تاريخي، مجرد خارج المجتمع. ودراسة الظاهرة الدينية اجتماعياً مثال ساطع على هذا التناول الناقص الذي لا يتعرض للتأثير المتبادل بين الدين وبقية الظواهر الاجتماعية والمجتمع الكلي.
يمكن أن نعيد أسباب انتشار هذا التناول التناقصي الى ظهور منهج أو دعوة الى منهج يتضمن العقيدة او الايديولوجيا الدينية كجزء أساسي.

أنفاسإننا نضع كلمة اسلامي بين قوسين لكي نلفت الانتباه إلى مسألة خاصة تتعلق بشرعية إطلاق مثل هذا التعبير بالنسبة للمسلم الذي يقبل ـ حتى ولو قليلاً ـ أن يخضع لمعطيات التاريخ وعلم الاجتماع والتيولوجيا والتحليلات الخاصة بها. إذا كان الوعي يستأهل صفة (اسلامي) من وجهة نظر ذاتية ـ أي من وجهة نظر المسلم نفسه ـ فإنه من غير الممكن وصفه بذلك من وجهة نظر موضوعية إلا ضمن الحدود التي يكشفها التحليل النقدي.
كيف يمكن مقاربة بهذا الوعي؟ أين يمكن لنا استكشاف أمثلته الحقيقية ذات الأهمية؟ هل يجب أن نعطي امتيازاً خاصاً لأولئك الذين يحرسون المؤسسات والأملاك الدينية ويضمنون استمراريتها؟ ما المكانة التي ينبغي تخصيصها للخطابات الرسمية التي تمجد خصائص الاسلام بحماس لا حد له، ولتلك المؤلفات المدرسية والمحاضرات الثانوية والجامعية، والمؤتمرات ومقالات الصحف: وحتى المجلات الاختصاصية؟
الخطاب الاسلامي اليوم ذائع ومنتشر أكثر من أي وقت مضى. ووفرته وتكاثره وانتشاره الواسع كانت قد أدت في وقت قصير إلى غلبة الشخصية الجماعية على الشخصية الفردية. من الممكن إذن أن نختار من هذه الخطابات الكثيرة التي لا تنفك تتزايد وتطغى عينة تحتوي على الموضوعات والمعايير والفرضيات الأساسية التي تشكل الشخصية الجماعية بأسرها. سوف نقترح للدراسة والتحليل هنا خاتمة أحد كتب مؤلف مصري معروف هو أنور الجندي.
1 ـ الاسلام هو الذي حرر العقل والنفس الانسانية من الوثنيات من عبادة غير الله، وحرر الفكر والإرادة والعمل. ورفض استعلاء الوجدانيين والعقلانيين، وقرر أن أبرز مفاهيمه هي المطابقة بين العقيدة والعمل والكلمة والسلوك.
2 ـ اعترف الاسلام بميول وعواطف الانسان، فقرر أن في الانسان ميولاً وعواطف مختلفة، وكلها فيه غريزية طبيعية أودعها فطرته لتكمل في شخصه ونوعه. ولقد كانت الدعوة إلى الحرمات ووقف تيار هذه الميول بالرياضيات قبل الاسلام سبباً في تعطيل قوى النفس الانسانية. وقد أنكر الاسلام طريقين لتحرير الانسان هما التقشف والإباحة. ووضع الاسلام طراق لتطهير النفس كالعبادات والصوم. وتهذيب النفس أصل من أصول الحضارة الاسلامية. ذلك أن على الانسان أن يتحرر من ميول النفس ورغائبها وأهوائها وخضوعها لخير الله.

انفاسسأتحدث في هذا المقام عن أبعاد كلمة الصورة في التراث العربي الإسلامي، مستندا إلى افتراض أصوغه بالشكل التالي: إن العرب المسلمين قد مارسوا "التصوير" وأكثروا منه، وإن دلت التجارب الواقعية أنهم أغفلوه، بمعنى أنهم لم ينسوا أبدا الصورة عكس ما يعتمده الناس، وسأحاول تسويغ ذلك بناء على مستويات غير التصوير المجسم، لأخلص أن الصورة ينبغي أن تطلب لدى العرب في التصوير إذا كان ثمة تصوير، في غير ذلك من كلامهم، وممارساتهم الفكرية، كالفلسفة، والتصوف، وصناعة المعاجم، والشعر والبلاغة والنحو وهلم جرّا…
العلامات في التراث العربي:
لكل ثقافة علاماتها، فما قد يكون مؤشرا Index(1) في الثقافة الفارسية Intention، قد يكون مؤشرا بقصد Index intentionnel في الثقافة العربية، الدخان la fumée مثلا، ليس عند العرب القدامى مجرد مؤشر على وجود النار le feu، وليس وجود النار مؤشرا على وجود الحرارة فحسب، بل إنه بسبب من المواضعة Convention، مرتبط في الثقافة العربية بالكرم والقرى، والكريم تدل عليه ناره، والرجل البخيل لا نار له. ويدلنا على ذلك قول الشاعر يهجو قوما بخلاء بكونهم إذا رأوا ناسا أغرابا قالوا لأمهم بولي على النار.
وبناء على ذلك، فإن العلامة "لا تكتسب دلالاتها إلا من خلال وضعها في الثقافة"(2)، وإذا كانت الثقافة عبارة عن علامات بأنواعها الثلاثة: مؤشر Index، رمز Symbole(3)، وأيقونة Icône(4)، فإننا لا يمكن أن نفهم في ثقافة، "أيقونة" كالصورة مثلا ما لم نربطها بالمجالات العلامية الأخرى، ولهذا فلا يمكن الحديث عن علامة مفردة: "الصورة" مثلا، بل المفروض إدخالها في "أنظمة دالة، أي مجموعات من العلامات"(5)، ويجب ربط المجال العلامي الخاص بغيره من أجل اكتشاف التداخل، والالتقاء والاندماج، ونحن نرى أن علامة ما إذا لم تكن ظاهرة للعيان، فقد تحولت ضرورة في الثقافة التي تنتمي إليها، إلى علامة من نوع آخر… ومن ثم استقر رأينا على وجوب البحث عن علامة "الصورة" في العلامات اللغوية، أي في المكتوب الثقافي لا المصور المجسم. وبهذا الشكل نستطيع أن نبحث في مجالات التشكيل عموما عن الأسئلة المعرفية التي تؤسسها في لا وعينا تراثيا، كما نرى وجوب أن تحتضن آفاق الأبحاث مثل هذا التوجه الحفري archéologique .

انفاسحول كتاب "مفهوم العقل" لعبد الله العروي
ربما لن يرضى الأستاذ العروي بـهذا العنوان تقديما لكتابه  في مفهوم العقل. فهو يجره إلى سياق لم يرد، وربما لا يريد أن ينخرط فيه، وأعني ذلك الجدال الذي يكثر فيه الحديث اليوم والذي تتزعمه كتابات محمد عابد الجابري ومحمد عركون.
وحتى إن لم يكن في استطاعتنا أن ننفي دخول صاحب هذا الكتاب في ذلك الجدال، فإنه مع ذلك لا يرد بشكل صريح على أية أطروحة من الأطروحات الواردة في الساحة النقدية في هذا المضمار. وربما كانت هذه سمة تميز كتابة العروي بصفة عامة، وهو صمته عما يجري بالقرب منه، وتفضيله محاورة البعيد عن مجادلة القريب.
وعلى رغم ذلك فسيتضح لنا خلال هذا العرض الوجيز لمضمون هذا الكتاب القيم أن الأمر يتعلق أساسا بنقد العقل الإسلامي.

مسألة أخرى ربما لن يرضاها أستاذنا هي كذلك، وهي ما تحمله كلمة نقد من شحنة فلسفية. والمعروف أن العروي يأبى لكتاباته أن تدرج ضمن الإنتاج الفلسفي، وهو يفضل أن يصنفها بالأولى، ضمن اجتماعيـات الثقافة. وعلى أية حال فإن كان بإمكاننا أن نسلم بأن الكتب الأخرى التي تعرض فيها لسلسلة المفاهيم كمفهوم الأدلوجـة ومفهوم الدولة ومفهوم الحرية ومفهوم التاريخ هي أقرب إلى اجتماعيات الثقافة، فإن الكتاب الذي بين أيدينا كتاب في الفلسفة، منهجا ولغة ومضمونا وموضوعا، بل إن صاحبه يبين عن تمكن كبير وإطلاع واسع على الفكر الفلسفي عربيّه وغربيه، لذا فهو حوار مزدوج مع التراث الغربي والتراث الإسلامي.

وهنا تعترضنا نقطة ثالثة لم يكن الأستاذ العروي ليعترف بـها فيما قبل. وهي الحوار مع التراث، بل وضرورة تفكيكه. لا استعمل كملة تفكيك هنا إتباعا لموضة ثقافية، فهي واردة في الكتاب. أستعملها لأشير فقط إلى أن هذا الكتاب ينطوي على مفهوم عن القطيعة لم يكن الأستاذ العروي ليقبله، وهو أن الانفصال عن التراث ليس عملية تلقائية. كما أنه ليس خصاما وإنما تملكا وإحياء.