كثيرا ما أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة أن الفقه الإسلامي لم يعد يعالج قضايا الواقع، بل أصبح فقها يغلب عليه طابع الترديد والتكرار والتقليد، مما أدى إلى الإعراض عن الفقهاء وفتاواهم التي لاتتجاوز سقف الحفظ والاجترار، بل ولم يظهر عليها أثر الاجتهاد. إذ أنهم يعيدون ترديد الفتاوى القديمة ويسقطونها على واقعنا المعاصر دون أدنى تأمل في الواقع ولا أخذه بعين الاعتبار، مما أثر على الفقه الإسلامي بشكل سلبي.

وهنا نطرح السؤال ؛ هل فعلا لم يعد الفقه قادرا على مسايرة العصر وأحداث الواقع التي تتولد يوما بعد يوم، أم أن الفقيه هو الذي لم تعد له القدرة على النظر والتأمل والاجتهاد في الفتاوى وبناء الأحكام؟

لقد سبق وان قلت في مقال سابق إن الفقه ابن زمانه، وإن الواقع له تأثير كبير في إصدار الفتاوى وبناء الأحكام، لكن وعلى ما يبدو أن بعض متفقهة زماننا أضحى يغلب عليهم الجمود، إذ يمكن أن نسميهم فقط "ناقلي فقه" وليسوا فقهاء. ولست أدري هل مثل هؤلاء بالفعل فقهاء، أم يدعون ذلك فقط ، وعلى العموم فإن الفقيه الحقيقي هو الذي ينزل الواقع منزلة النص حين لا وجود لنصوص قطعية في المسائل المعروضة، أما القياس على الفقه الجاهز فإنما يزيد الطين بلة ويجعل فتاوى الفقيه بعيدة كل البعد عن واقعه ومتعارضة معه.

ولعلنا إذا تأملنا في الفتاوى القديمة وجدناها ذات واقعية تامة، إذ كان الفقيه يفتي انطلاقا من واقع المستفتي وحاله. وهذا موجود أيضا حتى في فقهياتنا المعاصرة، وإن بشكل قليل قد لا يراه أكثر الناس، فإذا ما أخذنا بعض الوقائع التي وقعت في زماننا ورجعنا إلى أجوبة الفقهاء عنها، لوجدناها أجوبة تلامس الواقع وتتماشى وكليات الشريعة ومقاصدها في الآن ذاته.

كنت طرحت على نفسي سؤالا لغويا استشكاليا متداخلا مفاده: هل صوت الحرف باللغة اية لغة من اللغات المعاصرة هو ابجدية نحوية؟ ام هو خاصية الافصاح عن معنى الصوت؟ هنا يكون رسم الحرف الابجدي النحوي كتابة يحمل دلالة خاصية المعنى المجرد من الصوت المنطوق جهرا بالكلام.

الحقيقة التي لا يمكننا اغفالها هي ملازمة رسم الحرف للصوت والاختلاف النحوي بينهما هو في معنى الصوت سواء كان الصوت منطوقا غير مرسوم أم مكتوبا .

الفرق بين الحرف المكتوب ضمن نص طباعي لغوي مقروء تداوليا هو ملازمته لصوت له معنى. لا توجد ابجدية قرائية حروفها بلا صوت دلالي له معنى.

اما في رسم الحرف اللغوي على جدار او داخل لوحة فهو يمتلك التعبير المقصود واحيانا يكتسب الجمالية الفنية على حساب فقدانه الصوت الدال الخفي او المسموع. فالحرف داخل نص مكتوب طباعة هو غير الحرف داخل لوحة تشكيلية, فالحرف في كلا التوظيفين هو دلالة تشكيلية بلا صوت لا منطوق ولا صامت.

وجدت جوابي الخاص بي ان رسم الحرف غير التشكيلي يشير الى ابجدية نحوية يلازمها صوت له معنى. رسم الحرف بالابجدية اللغوية هو شكل رمز يحمل دلالة صوتية ذات معنى. الحرف الابجدي عماد الكتابة وكي يتوفر على هذه الميزة ضروري ان يكون مرسوما بشكل متفرد عن غيره من حروف لغة ما, والثاني ان يحمل الحرف الابجدي دلالة صوتية ايضا متفردة ليس شرطا صوتا منطوقا لسانيا, والثالث والاخير ان الصوت المدّخرالذي يحمله الحرف نطقا او صمتا يشير الى معنى محدد مقصود.

صوت الحرف عند الانسان هو من ضمن نحو لغوي بينما الاصوات التي تطلقها الحيوانات تحمل في بعضها فقط معنى وغالبية اصوات الحيوان لا معنى لها حتى داخل نوعها كونها تتسم بالعشوائية التي لا يحكمها تفكير عقلي كما هي عند الانسان..


شكل الحرف اللغوي الخاص بالانسان سواء اكان مجردا من قيمته الجمالية الفنية داخل لوحة او عمل فني تشكيلي يؤطره . في انجاز تشكيل لوحة خط او لوحة رسم فنون تشكيلية. اي عندما نرسم الحرف كتابة ضمن نص مقروء او منطوق مكتوب, او نرسمه باسلوب فني كما هو  في التوظيف التشكيلي الجمالي في رسم لوحات الخط او لوحات التشكيل او لوحات البوستر بالرسم على الجدران والامكنة العامة في مختلف اجناس الفنون التشكيلية الجمالية التي تحتاج توظيف رسم الحرف الصامت في اللوحة.

بهذا النوع من الاسلوب التوظيفي الجمالي يكون رسم الحرف داخل لوحة يفقده خاصية الصوت حتى الصامت الملازمة لرسم شكل الحرف كوحدة ابجدية منفصلة او متصلة. كما يفقد بالضرورة الملزمة له خاصيته النحوية التي نجدها بالكتابة العادية التداولية. هنا كتابة حرف البوستر وخط اللافتات المرفوعة بالايدي او الثابتة في اماكن محددة لها لا يفقد الحروف ابجديتها الصوتية الصامتة ذات المعنى المراد المقصود بل يؤكدها قراءة.

الصوت بلا نحو عند الحيوان

الحيوانات لا تمتلك لغة لها ابجدية ذات اشكل تدل على اصوات لها معنى. بل تمتلك اصوات اغلبها عشوائية وبعضها تعبّر عن مداليل استعمالية محدودة. بمعنى ليس كل الاصوات التي تطلقها الحيوانات ذات مداليل قصدية داخل النوع الحيواني من جنسها باستثناء بعض الاصوات التي تكون مفهومة داخل النوع الواحد مثل التنبيه الى خطر محدق, رغبة الجماع الجنسي, قدرة التنبؤ بالتغيرات المناخية الطارئة, وجود طعام يتشارك به القطيع والخ من حاجات مشتركة تبعد نوع الحيوان من الانقراض.

لماذا نقول إن الانسان يمتلك فرادة لغوية لا تشبه وغير موجودة لدى غيره من الكائنات بالطبيعة.؟ للاجابة فقد سبق لي ذكرها بمقال سابق منشور لي اختصرهنا بعض أهم نقاطه:

الانسان يمتلك ابجدية لغوي نحوية منتظمة لا يمتلكها غيره من الكائنات. الابجدية عند الانسان نظام لغوي قائم بذاته نسقيا في التعبير عن كل شيء يدركه العقل.

الصوت اللغوي الانساني صوت يحمل معنى محدد مقصود الدلالة. وهو صوت بدأ عند الانسان بتطور بايولوجيا استخدام الحنجرة صوتيا عنده بمساعدة اللسان على تمكنه اخراج اصوات لغوية تحمل معنى مشترك لقوم من الاقوام يتشاركون العيش المشترك والمصير الواحد ولهم عادات خاصة بهم يقدسونها او يتفقون الحفاظ عليها معنويا...

ميزة الانسان انه امتلك لغة تداولية متفردة عندما تمكن من رسم الصوت اللغوي وتوزيعه على رموزذات اشكال محفورة او منقوشة على حائط او قطعة جلد او اي شيء اخر يتفق عليه داخل مجموعة من البشر يؤشر مداليل قصدية مشتركة لها اصوات تدل على معانيها.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى. بمعنى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه لا يدركه العقل في فهم معناه. فالعقل تفكير لغوي تجريدي في التعبير عن معنى.

الصوت الصادرمجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار علم النفس السلوكي اللفظي بزعامة فريدريك سكينر1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى. من المهم ذكر ان ادراك العقل يسبق تعبير اللغ عن الشيء ذاته.

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية مجتمعية – معرفية متعددة الاستعمالات داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات تبدأ بالكهفية البدائية وتشكيل ونحت في عصور لاحقة معاصرة التي يجري توظيف اللغة كمنظومة ابجدية جماليا فنيّا فيها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

كما اشرنا له سابقا رسم شكل الحرف باللغة هو خاصية نحوية من جملة قواعد وضوابط في اختراع ابجدية لغوية متكاملة تحتوي عددا محدودا من الاحرف المنتظمة نحويا خاصة بقوم من الاقوام مثل اللغة العربية 28 حرفا اساسيا اضاف لها بعضهم الهمزة كحرف لتصبح 29 حرفا والانكليزية 26 حرفا والسامية 22 حرفا وهكذا مع تعدد اللغات بالعالم. لا حاجة التذكير ان شكل كل حرف في ابجدية لغوية لقوم من الاقوام او امة من الامم يختلف رسمه وصوته عن باقي الحروف الاخرى داخل منظومة القواعد النحوية.

لكن يبقى رسم شكل الحرف ناقصا يحمل مداليل تاويلية فائضة وقراءات مختلفة ويخلق تصورات متباينة لا يكتمل معناه الدلالي النحوي بالنسبة لكل فرد منفردا لوحده او ضمن مجتمعه الا بملازمة صوت معين لكل شكل حرف مرسوم او مكتوب متفق على اساسيات تحكمه مثل شكل الحرف , صوته الدال عليه, معنى دلالة ذلك الصوت الخاص به.. الحرف خارج منظومة القواعد العامة التي ذكرناها لا قيمة حقيقية له كرسم لشكل معيّن متفرد.

مثال تاكيد ما ذهبنا له توظيف رسم شكل الحرف باللوحة التشكيلية الفنية او بلوحات انواع الخطوط كما عندنا بلغتنا العربية كرمز جمالي تكويني فني يدخل جزءا بصميم تكوين جمالية اللوحة لكنه مقطوع الصلة عن التنظيمية النحوية القواعدية لتلك اللغة.

حروف لوحات الخطوط العربية تطورت عبر العصور فنيّا جماليا وكان لدور رائد الخطاطين من غير العرب المعاصرين الشيخ ابو حامد الآمدي التركي دورا كبيرا جدا في تلمذة الخطاطين العرب على يديه واجازتهم ممارسة الخط العربي. لتستقرالخطوط العربية اليوم في ابرزها على عدد من الخطوط والاشكال منها خط النسخ, الثلث, الرقعة, الكوفي, الديواني, الجلي الديواني, الفارسي "التعليق",خط الطغراء, خط الاجازة, والخط المغربي وخطوط رسومات حروفية اخرى تدخل في المنحى الجمالي. وتعتبر لوحات الخط العربي اليوم من نفائس تراثنا الثقافي العربي المتناقل عربيا وعالميا.

نحوية الحرف اللغوي

نحوية الحرف باللغة لا يحددها رسم شكله خارج الكتابة التداولية المطبوعة اليوم. بالكتابة الحرف لا يفقد ابجديته الدلالية في التعبير عن معنى يلازمه صوت خافت او منطوق. بل يفقد القيمة الجمالية الفنية في توظيفه الفني داخل تكوين رسومات ولوحات ما لا حصر له. الحرف بالكتابة المجتمعية اللغوي الخاصة بقوم من الاقوام (وظيفة) غير جمالية ولا فنية بمعيارية مقارنة توظيف الحرف بالفنون التشكيلية والمنحوتات واللوحات الجدارية والمتنقلة ولوحات الخط العربي عندنا وهكذا.

في اللوحة التشكيلية وتوظيف الحرف جماليا يفقد الحرف العربي قيمته النحوية القواعدية كابجدية منضبطة. رسم الحرف باللوحة هو (فن) ورسم الحرف بالكتابة اللغوية المعرفية والادبية هي ( نحوية ) ابجدية منتظمة. والحرف في التوظيف الفني باللوحة متحرر تماما من اي التزام لغوي سوى توكيد حضور الناحية الجمالية الفنيّة.

اي هو في الوقت الذي يشكل حضوره داخل تكوين عملية الابداع المهني باللوحة كقيمة جمالية لا يستهان بها الا ان الحرف الجمالي داخل اللوحة يفقد نحويته الابجدية القواعدية بسبب عشوائية التوظيف الحروفي داخل تكوين اللوحة.. حينما يكون شكل الحرف الفني الجمالي داخل اللوحة (ثابتا) كحيّز امتلائي كتلوي لسد فراغ في تقنية اللوحة فنيّا في سد الفراغات وتوزيع الالوان والكتل وغيرها.

حين اشرنا سابقا قبل اسطر ان رسم الحرف داخل اللوحة هو بمثابة تحنيط نحتي له يحرره من كافة الالتزامات النحوية واللغوية حتى بالمعنى والصوت, فمرد هذا الاستنتاج ان توزيع اشكال الحرف داخل اللوحة يكون اعتباطيا عشوائيا يغلب عليه اللاشعور في طغيان الحس الجمالي المبهر له. فرسم شكل الحرف داخل اللوحة يستنفده توزيعه الكتلوي (المكان) وانتقالاته اللونية داخل اللوحة بكل اريحية فنية جمالية حسب اسلوبية الفنان.

متى ما اكتسب الحرف الصوت تحرر من المهنية الاسلوبية الجمالية ويخرج من تشكيل اللوحة ليعود الحرف الى حقيقته الاصلية على انه رمز لغوي نحوي له دلالة تعبير تجريدية داخل منظومة لغوية تحكمه خاصيتي الصوت والمعنى. الحرف صوت ومعنى من خلالهما وبهما يكتسب تراتيبية تسلسله ضمن القواعد النحوية للغة.لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى.

علي محمد اليوسف

ايها الطير الطائر!
لا افهم لغتك، ولا تفهم لغتي
فلماذا لا نتفاهم بلغة الحب
ما دام كلانا يلهج باسم المحبوب؟

قراءة "كتاب المحب والمحبوب" للفيلسوف رامون لول المكتوب في الاصل باللغة الكتالانية تقودنا على الفور الى الاستنتاج بان هذا الفيلسوف يستلهم شعر الحسين ابن منصور الحلاج والشعر الصوفي الاسلامي اجمالا في هذا النص الذي اراد له ان يكون بمثابة سيرته الصوفية. وهناك ايضا نصوص اخرى يؤكد من اطلع عليها بلغتها الاصلية انها تستلهم هي ايضا قصائد الحلاج الذي عاش بين عامي 244 - 309 هـ (858 - 922 م). لكن كيف اطلع رامون لول الذي عاش بين عامي 1235 و1313 على قصائد الحلاج في تلك الفترة من الحياة الثقافية لاوروبا الوسيطة والمظلمة؟

لنلاحظ اولا ان مؤلفات رامون لول ظلت مجهولة تماما في الاوساط الفلسفية الغربية حتى فترة قريبة وبشكل مستغرب رغم الشهرة الواسعة التي نالها كرائد لفلسفة الحب الالهي في الغرب المسيحي الكلاسيكي وكأحد اهم ثلاثة مفكرين عرفتهم اوروبا القرن الثالث عشر الميلادي الى جانب توما الاكويني في ايطاليا ودون سكوت في انكلترا. حيث ظل كتابه "الفن الكبير في الكشف عن الحقيقة" المكتوب باللغة اللاتينية في عام 1276 بمثابة المرجع الوحيد حول افكاره، في حين وجدنا ان الفترة ما بين صدور ذلك الكتاب ووفاة لول في 1313 هي الفترة الاهم في الخصب والنضج الفلسفي لديه. اما السبب الرئيس المباشر الذي وقف وراء اغفال مؤلفاته اللاحقة فيتمثل كما نعتقد بقيام البابا غريغوار الحادي عشر باصدر مرسوم كهنوتي بادانة الآراء الصوفية لرامون لول وبحظر تداول مؤلفاته ما كرس انصراف المهتمين والمترجمين عنها.

والحال ان لول الذي يلقبه الباحثون الآن بفيلسوف الحب الروحي، كان من نوادر الفلاسفة المسيحيين الذين تشبعوا بالثقافة العربية - الاسلامية فأحبها وانتمى لها كأحد ابنائها. فقد اندفع لتعلم اللغة العربية منذ شبابه واتقنها اتقانا مثيرا فراح يدرسها في الاديرة والمعاهد ثم قام منذ عام 1275 بتأسيس دير لتدريس اللغات الشرقية وخصوصا اللغة العربية. وقد توج ذلك بكتابة العديد من مؤلفاته الفلسفية واللاهوتية باللغة العربية مباشرة يأمل الباحثون ان يتم العثور عليها بعد ان اصبحت مفقودة تماما.

في علاقة الدين بالتدين تسود في بيئاتنا العربية  مقاربتان اثنتان ، الأولى مكتفية  بظاهر النص من غير اهتمام كبير بتأثير العقل وسياقات التاريخ والاجتماع والمذهب في فهمه  وتنزيله ، ففهم فـئـة  للنص هو ذات النص[1]، وبذلك فإن فهم السلف حجة على من دونهم دونما اعتبار للسياقات الموضوعية الداعية لترجيح فهم على فهم ، وحكم على حكم[2]، وتقف المقاربة الثانية على النقيض من الأولى  ، فتنفي أصلا أن يكون للنص وجودا في ذاته، إنما هي أفهام وتمثلات في أذهان أصحابها وفق إكراهات التاريخ وإغراءاته ، فالنص يذوب في ذهن صاحبه بمجرد تلقيه ، وتغيب حقيقته وراء حجاب كثيف من الأفهام والتمثلات المحكومة بالواقع ، المنضبطة به والمسيجة بسياجه[3]، وبهذا تتم إزاحة النص وأحكامه إزاحة كلية  أو شبه كلية ، فلا يبق إلا الواقع، ولا يتم الاعتراف إلا به.

نتيجة المقاربة الأولى أن يتم الاستغناء بظاهر النص عن ضوابط فهمه وتنزيله من حافات السياق والقرائن[4]، ونتيجة الثانية أن يتم  الاستغناء بالتدين عن الدين  ، وبالعقل عن النقل ، وبالعلم عن الشرع[5] .

وهكذا يجد المتابع نفسه بين خيارين متضادين  ، وموقفين متنافيين ، إما اعتبار النص وإزاحة تأثير الواقع في ذهن المتلقي ، وإما اعتبار الواقع وإزاحة تأثير النص .

فكيف نخرج من منطق الثالث المرفوع هذا ، والذي كثيرا ما يتم حشر الناس فيه دونما إرادة منهم ولا وعي ؟ خاصة وأننا ندرك أن النص قد جاء للتأثير في الواقع هداية وإرشادا من جهة ، وأن هذا النص لا يدرك إلا من خلال سياقي الورود والتنزيل[6] من جهة أخرى .

الدين وضع إلهي علوي ثابت[7] ، والتدين كسب إنساني أرضي متغير[8]  ، وليس العلوي المطلق كالأرضي المتغير ، من حمل هذا على ذاك فرط في الثوابت فأضاع البوصلة ، أو جمد المتغيرات فكبح تقدم الحياة ، وكل ذلك واقع معاش ، وتاريخ منقول .

  • في مدارسة المقاربة الأولى:

إن الأصول الكلية للشريعة جاءت لأجل تحقيق مقاصد الشارع، وبالتالي فإن كل ما يوافق الشرع من أصول اجتهادية كالمصلحة المرسلة...، وإن لم يوجد مايشهد له بالصحة من الأدلة النقلية، فإنه يعتبر أصلا صحيحا، ذلك لأنه وإن لم يشر الشارع إليه، إلا أنه وافق مقتضى عموم الكتاب والسنة، بل والمقصد العام من التشريع، أي جلب المصالح ودرء المفاسد، فالذي يشهد لمثل هذه الأصول الاجتهادية هو عموم الكليات المصلحية للشريعة.
فإذا كانت هذه الكليات تشهد لهذا الأصل أو ذاك بالصحة والضبط ، فأنه يلزم الأخذ به وجعله أصلا معتبرا من أصول التشريع، لأن الأصول الكلية تبقى عامة تجري على كل ما يوافقها ويحقق المصلحة المعتبرة شرعا.
لقد أنزل الشارع سبحانه الخطاب ليبين للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة على التمام والكمال، وهذا البيان الذي جاء به الخطاب الشرعي إذا فهمه المكلف فهما جيدا سليما أدى به إلى تحقيق مراد الشارع الذي قصده منه، وهو عمارة الأرض وإصلاحها وحسن الخلافة فيها، هذا إذا ما فهم المكلف ماجاء به الخطاب من أوامر ونواهي وأحكام...، فإن هذه الأحكام ليس مقصودة في ذاتها بقدر ماهي وسائل يتوسل بها للوصول إلى تحقيق مراد الشارع من هذه الرسالة الربانية الخالدة. إنه إعمار الأرض وبناء حضارة إنسانية راقية على أسس متينة وقوية تجمع بين المادي والروحي على حد سواء، وتسعى إلى إصلاح أحوال الناس دينا ودنيا، وهذا فيه معنى كمال الشريعة، ولا يبقى إلا الفهم السليم لها، ذلك لأن الفهم السليم يؤدي إلى التنزيل السليم للأحكام، حسب الأحوال والأزمان والأماكن...، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الوقوف على معاني الخطاب ودلالاته واستنباط أحكامه وحكمه. فإن الفقه والأصول وعلوم الآلة من العربية كلها وضعت لأجل فهم الخطاب الشرعي فهما سليما صحيحا بعيدا عن الشبهات والهوى.

لقد كان الفقه كل شيء عند المسلمين، لقد كان بمثابة النظام السياسي للدولة الإسلامية الأولى، إذ أن كل النقاشات السياسية والمعاملات والعلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الإسلامي ترجع إلى الفقه للحسم فيها انطلاقا مما هو مقرر من أدلة وقواعد أصولية وفقهية مختلفة، وكذا انفتاح الفقهاء على الواقع وثقافات الناس المختلفة نظرا لكون المجتمع الإسلامي في مرحلة توسع الدولة اللإسلامية أصبح مجتمعا يجمع بين ثقافات مختلفة، وهذا كله كان له تأثير في المجتمع الإسلامي، وبالتالي تأثير في الفقه الإسلامي من حيث النظر في النوازل وإصدار الفتاوى والأحكام التي تعتبر بمثابة القانون التشريعي للدولة والمجتمع عامة.
وقد كانت هذه الفتاوى تتماشى مع تطورات المجتمع والواقع، وكأني بالفقه هنا، كان يمثل قانون الدولة بلغة العصر، الذي ينظم أحوال الأمة مجتمعا ودولة على حد سواء،" ولعل هذا الدور وأقصد تعبير الفقه عن كل مجالات الحياة كان سببا قويا في انتشاره ورسوخ قدمه في الثقافة والمجتمع الإسلامي"[1]،إذ أنه كان يعالج مجمل القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية داخل الدولة الإسلامية، فقد كانت له سلطة سياسية ذات طابع ديني محض، وقد افلح في التوفيق بين هاتين السلطتين(الدينية والسياسية) إلى حد بعيد، وأصبح الفقه بمثابة القانون التنظيمي للدولة والمجتمع، بحيث أن الفقهاء كانت لهم سلطة وضع شروط الإمامة و إمارة الدولة، وكذا الولاية في الحروب العسكرية والقضاء ونظام الحسبة والحدود والتعازير...، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بجانب المعاملات والإلتزامات في العقود التجارية وماشاكلها في سائر المعاملات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع.

يعرض المجتمع العديد من النوازل والقضايا التي تحتاج جوابا في كل وقت وحين، مما يجعل الأمر قد يلتبس على بعض العامة الذين يظنون أن الأحكام الشرعية كلها أحكام ثابتة لا تتغير، وهذا مما يخلق لهم تضاربا في الأفكار، بل وربما يوهم بعضهم بأن العلماء يتلاعبون بالدين، أو لا يستطيعون إصدار فتاوى لكل مايعرض لهم.

دعونا أولا نقف عند مفهوم الواقع وأثره على بناء الحكم الفقهي أو بالأحرى أثره فالاجتهاد وصناعة الفتوى، هذا الذي يجعلنا نتساءل، هل من حق الفقيه أن يجتهد ويصدر الفتوى خارج الواقع كما يظن البعض، أم أنه لابد أن يجعل نفسه جزءا من هذا الواقع الذي هو بصدد دراسة عينية لقضاياه وإشكالاته؟

إن الواقع هو تلك الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أبدا، بل يجب الاعتراف بها وتكييف الأحكام حسب ماتعرضه هذه الحقيقة من ظواهر اجتماعية مختلفة، وعليه فإنه من الوهلة الأولى يتبين لنا أنه لايمكن للفقيه أن يجتهد خارج حيزه الزماني والمكاني والحالي، وإلا فإن اجتهاده سيؤول به إلى ماهو مخالف لواقع الناس، وبالتالي مخالف لمقصد الشارع.

في الإصحاح الرابع من إنجيـل يوحنـا نجد حواراً مشهوراً بين السيد المسيح وامرأة سامرية، ويستمرّ هذا الحوار لـ 42 آيةً تحكي عن أنّ يسـوع، وهو يجتاز السامرة، أتـى على مدينةٍ تُدعـى "سُـوخـار" بقرب الضيعة التي وهبها النبيّ يعقـوب لابنـه يـوسف، فجلس ليستريح من تعب السّفر بجانب بئرٍ هي بئـرُ يعقـوب. وسرعان ما جاءت امرأة سامريةٌ لتستقي ماءً فالتقت بيسوع، الذّي كان مجهولاً بالنسبة لها، ودار بينهما حديثٌ، ليس بالطّويل ولا بالقصير، انتهى إلى معرفة السامرية بالسيد المسيح وأنّه هو المُخلّص فآمنت به وآمن كثيرون من مدينتها بسببها. 

لكن هذا الحديث ليس كأيّ حديثٍ ـــــــ ربما ينطبق هذا على كلّ أحاديث السيد المسيح ـــــــ بل هو ’’ مليءٌ بالأسرار، إنّه طعامٌ للجائع وراحةُ للنّفس المًتعبة‘‘ على حدّ قول القديس أوغسطين الذّي كتب كُتيّباً عن هذا الحديث عنونه بـ "حديث الربّ مع السامرية"[1] حيث قام بتأويلٍ روحيٍّ لهذا الحديث مكتشفاً فيه الأسرار المُحتجبة عن العقول التي لا تفهم سوى لغة الحرف.