التمثال – قصة: ميمون حرش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"ر- س" فنان مشهور، في النحت له صولات وجولات،قرأ كثيراً عن أشهر النحاتين،قلد بعضهم في البدايات ولكنه سرعان ما ثار على آخرين في النهايات، آخذهم على رسم الرؤوس تحديداً. ولكي ينفرد عنهم، انبرى ينحت تماثيل بديعة، يتفنن في تشكيلها، دون رأس، كان يقول: " كل شيء إلا الرأس، الرأس سبب كل النزاعات."
تنتابه حالات سهوم، ورؤى في النهار وهو ينحت.. مرة ظل مدة طويلة يشتغل على "جسد" أتعبه نحتُه، لم يسعفه في تشكيله غير شوق ممزوج بأصباغ حنين الشعراء، إلى أنِ استوى التمثال أخيراً على شكل جذع دون رأس، دون ذراعيْن، دون ساقين، وفي فورة التماهي مع التمثال الذي أرهقه أياماً، وقبل أن يكتمل على الصورة التي يعشق، يسمع صوتاً يهتف له في الصالة، اللكنة إسبانية لبيكاسو، قال له مُستنكراً :
"تمثالك! هل هو من المريخ ؟!.. أسبغ عليه صفات الكائن البشري، هذه نصيحتي لك".

الفنان"ر- س" لم يستغرب الصوت، فمثل هذه الأصوات لفانين كثيرين تناديه يومياً، فهو مشهور بما يكفي، عدل من جلسته، أشعل سيجارة، عب منها نفساً عميقاً، خرج الدخان من فيه رؤوساً صغيرة في صورة حروف، انداحت،في الهواء، لتشكل عمودياً عبارة " ص ف ات ال ك ائ ن ال ب ش ر ي".. قرأها، فرددها مرات، في كل مرة يقولها بنبرة مختلفة. الفنان فكر، وفكر، وفكر، ثم بدأ النحت من جديد، يبدو أنه اقتنع أخيراً، والرأي في النهاية لبيكاسو وليس لسوقي لا يفهم في الفن ، وهذا شرف، ويعني له الكثير. لم يطاوعه التشكيل إلاّ بشق النفس، إذ تمنع الذراعان ساعاتٍ قبل أن تتداعا في شكل بهي ،والساقان تأخرا كثيراً.. فرع الأول، وحرن الثاني، ولم يلتحق بنظيره إلا في اليوم الموالي، لكن بعد لأي.. بقي الرأس، هل كان يجب أن يبدأ به ؟ ! تمنع أياماً، في الأخير شكّله على مقاس رأسه تماماً... حين فرغ من العمل، رجع إلى الخلف خطوات، تأمل التمثال فبدا له متسربلا بين الرأس، والذارعين، والأرجل مثل حيوان محاصر في مربع والنبال تتقاطر عليه، هجم على التمثال، حطمه وهو يصرخ في وجه بيكاسو : " متى فُرضت عليك أشكال رسوماتك أيها المأفون؟ !"
ارتاح لهذا القرار، أحس خفة نفسية لذيذة، ما أجمل أن يرسم الفنان ما يشاء دون إملاءات!. لكن هذه كانت الجولة الأولى فقط مع مُنتقديه، إذ حين عرض "ر- س "،بعد مدة، تماثيله في معرض باذخ كعادته، واجه آراء أخرى حولها ، يومها كانت المنحوتات مركونة في المعرض بدون رؤوس ، منزوية، في أماكن منتقاة من الصالة ، وتبدو جميلة حقاً، لكن المتأمل، وفي لحظات عشقية معينة، كلما تماهى مع تأمل الرسم، يحس أن التماثيل تتألم، ومعطوبة من الداخل ؛ والزوار الذين حجوا للمعرض، انبهروا بما شاهدوه حقاً، بعضهم أسروا له في آخر الزيارة : "فكر في الرأس، تماثيلك بها ستحيى.."
غادر الزوار، خلا "ر- س " بنفسه، جلس أمام تماثيله كما المهاتما مهتماً، وحار لماذا يصر الناس على الرؤوس؟.. ألا تكفيهم رؤوسهم التي يحملون، ألا يرون إلى الحروب
القائمة بينهم، وإلى الدمار المقيم يغذيه هذا الرأس الذي به يتبجحون..عجباً ! كيف لا يدركون ؟ !.
واصل الفنان سعيه، وأدار الظهر لكل منتقديه،لكنه سيلحظ، مع مرور الوقت،وهذه جولة ثالثة لكن قاصمة ، أن الناس- الذين يعرفونه تحديداً- بدأوا يلوكون سيرته، مع إشارات بالسبابات، تعريضاً، وتصريحاً ، لم يكن يعلم أن الشرطة عثرت على جثة امرأة مقتولة ببشاعة ، عثروا عليها مرمية جذعاً بلا رأس، بُترت منها الذراعان، والرجلان أيضاً ، مركونة داخل حاويات الأزبال في شارع رئيس، غير بعيد عن بيت الفنان، يبدو أن الجريمة- حسب التحريات- كانت قدِ ارتكبتْ في مكان آخر، مغلق غالباً؛ لأن المجرم أخذ وقته كله بالنظر إلى طريقة تمثيله بالجثة ،وجَزّ الأعضاء تؤكد إلماماً دقيقاً بالجراحة، ودرايته بعلم التشريح واردة بقوة.
مكان الجريمة، تقول ألسنة السوء والظن، هو بيت الفنان "ر- س " لا محالة، وهو وحده المهووس بأجساد جذوعٍ دون رأس، ولا أعضاء تميزه..
كان يقرأ جريدة الصباح حين قرأ عن تفاصيل الجريمة، ودون أن يتمم قهوته، دخل مرسمه، تلك عادته، كل يوم، مع تماثيله، يزورها كما الطبيب يعود مرضاه، ويسجل تقريره عن حالها، أشعل الأضواء ليتمكن من الرؤية بشكل مريح، تداعت الصالة بِروحه، وروحها، تنفست التماثيل الصعداء، نظر إليها وهو يتلمظ، كانت موزعة بين أجساد ذكور ، وإناث ، يقف ، ويتأمل كل تمثال على حدة ، كما لو كان يراه لأول مرة، أو غيره من نحته.. أحس يده خشنة وهو يمسح صدر آخرِ تمثال في ركن منزو من القاعة، إنها المفاجأة؟ أيرى عجباً أو شبحاً.. انعقد لسانه، امتقع لونه، ودون حراك بدا تمثالا هو الآخر،( لكن برأس) ولو بدون روح، (تمثال وسط تماثيل)، لم يتحرك من مكانه، ولم يبعد عينيْه عن التمثال الذي حيره، بل مسح نظارتيه حتى يرى جيداً، صرخ فيه: " ابن من أنت، لستَ من صلبي، لستُ أنا من نحتك.. يا إلهي، إنها مقصلة تلح في طلب رقبتي" .
كيف انضم إلى سمط ما رسم؟، ظل يجزم أن التمثال مدسوس، حيره أمر: كيف استطاعوا أن يدخلوا القاعة، ومفتاحها معه دائماً؟
عاد مرة أخرى ليتأمل التمثال، وكاد أن يغمى عليه حين لمح رأس فتاة آدمية حسناء من لحم ودم، مزروع فوق العنق، والدم خيوط ينسكب من الأذنين، والفم، ويسيح على الجسد كله..
صرخ كما في أفلام الرعب، غادر القاعة هارباً، هام على نفسه، ولا أحد، إلى اليوم، يعرف وجهته..
صحف اليوم الموالي، بعد اختفاء الفنان"ر- س "، تحدثت عن ذكاء المحقق(س- ر) المنتدب للبحث عن المجرم في الجريمة البشعة، والإعلان عن القبض على السفاح في وقت قياسي بدد الشكوك، وحملت نفوس الأسر على الاطمئنان، وعنه أوردت الأخبار أن المجرم اعترف بجريمته، ودل العدالة على بقية الأجزاء، أما الرأس في مرسم الفنان (ر- س) فقد كان لجثة أخرى.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟