قهوتي...أميرتي – قصة: علي كرزازي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تعرفت إليها في مبتدى شبابي، نشأت بيننا ألفةٌ فصداقةٌ فحبٌّ. رافقتني طيلة هذه السنوات الممتدة من عمري، كنت أهرع إليها في الصباح كما في المساء، ألتمس لديها هدوءا طالما افتقدته وحيوية كثيرا ما أعوزتني.
لم أستطع في يوم من الأيام مفارقتها، أصبحت قريبة إليّ أكثر من أي أحد. في لحظات الفرح كما في لحظات التعاسة أجد فيها سندا لا مثيل له.
هي خدرٌ جميل يتسرّب الى أوردتي ، مفاصلي، مجساتي وكل حواسي، يُفعمنِي بطاقة غير مرئية وبنشاط لا يوصف. لا يضيرها أنها سوداء فيكفي أن الأحزان لا تنزل بساحتها.
عطرُها الفوّاح يجعلني أحلّق بألف جناح ومذاقها الاستثنائي يعلو على كل مذاق.
حينما كانت تستعصي علي القوافي ويهرب مني ألق الكلمات، كنتُ أجدها بجانبي تسعفني كي أُخرِجَ جنِّيّ الكتابة من قمقمه فيندلق كملاك جميل يقول لي: أنا طوع بنانك، أنا عبدك المطيع ! فتورق الخواطرُ وتزهر الأخيلة وينضبط الإيقاع، وقتها تحتفي الذات بذاتها فتندمج في نسغ العالم كحورية تغسل في محيط البحار رموش وحشتها، تتحلل من سجف أحزانها فترتقي إلى عوالم شفيفة لها الجمال والجلال، لها الألق والبهاء.

هكذا هي رفيقتي السمراء، تعلو بي الى مرافئ الانتشاء، تلج بي سراديب الدهشة، توقظ بداخلي كل الخلايا النائمة، تفتح لي كتاب الكون وتقول لي: إقرأ ! فلا أملك إلا أن أُصيخ السمع لهمساتها، أترك جسدي المترهل يرقص على إيقاع وشوشاتها مثل عصفور بلّله القطر.
وحين أتيه في دروب الحياة تكون هي دليلي المختار، تمسك بيدي وتقتحم بي ملكوت الوجود وتهيئ لي طقس البوح، ساعتها أنادي على القلم "وما يسطرون"، أتهجّج بنقيعها وأرحل بالكتابة وفي الكتابة، أستمرئ لوعة خيباتي وأركب صهوة أحلامي، أهرب من نفسي إليها لأرسم خريطة " عودة الابن الضال".
أُسمّيها خمرتي الأثيرة، هي أميرة مزاجي، كاتمة أسراري، بوصلة كياني الراعف بألف نور ونار. يقولون في كتب التاريخ إنها وصلت إلينا في أقصى المغارب من بلاد التركمان، جاءت تمشي على استحياء فصارت في وقت وجيز الملكة المتوجة. وبما أني لست من هواة التاريخ ولا من كتبة الأنساب، فإني أعشقها لذاتها أنا اللامنتمي، يكفيني أن أكون حارسا لديمتها البهية، لعَرْفها الباذخ ، لأثرها الدينوزوسي فحسب.
حاول الوشاة غير ما مرة أن يُوقعوا بيني وبينها، قالوا: إنها متلفة للأعصاب، مدمرة للمعدة وعدوّة للأمعاء...قالوا عنها ما لم يقله مالك في الخمر، لكني بوثوق العاشق ووفاء الصاحب لم ألق بالا لما قالوا ويقولون.
سأظل ألثم كؤوسها وأنصت لدبيب رشفاتها وأنتشي برَوْحها وريحها، إن تكن عربية المنشأ أو برازيلية المحتد أو إفريقية الأصل.
هل عرفتموها أحبتي؟
تلك هي قهوتي وهذا صكُّ اعترافي !

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟