أنفاسبيتها مقابل بيته في نفس العمارة . أمام العمارة مساحة واسعة متربة  ، صحيح انه ساكن جديد  إلا أنهما أصبحا صديقين من أول لحظة التقيا فيها ، كأنها صداقة من زمن بعيد . تملكتني الدهشة حين طلبا مني أن انقل لهما حجرين كبيرين من مسافة ليست بعيدة كي يجلسا عليهما بجانب بعضهما متلاصقين .. و قالا لي بفرح غامر : شكرا  يا عمو .
توهج وجهه بابتسامة عريضة حين قال لها : يلا نلعب عروسة وعريس .
قالت ضاحكة : يلا .. فأسرعا و جلسا على الحجرين متلاصقين .
- إنتي بدكيش تلبسي الطرحة .
- لا . بديش البسها ، لأني أنا العريس ..إنته البس الطرحة .. إنته العروسه
- مينفعش .. أنا ولد .. إنتي بنت .. إنتي العروسة ولازم تلبسيها .
- يا سلام !.. يعني كل مرة بنلعب إنته بتكون العريس .. هادي المرة أنا العريس .
- هادي بياخة منك .. إنتي بدك تخربي اللعبة زي كل مرة .
شدت الطرحة - قطعة قماش- عن الأرض بعصبية و زعقت متجهمة : طيب أنا بديش العب .
حاول إقناعها قائلا لها بحماسة : عمرك شفتي عريس شعرة طويل زي شعرك و كمان لابس فستان زي فستانك . فردت عليه بعصبية : إنته عمرك شفت عريس بعرفش يعد للعشرة بالانجليزي ، و ينتش الشوكلاتة من العروسة و يضربها ، أنا بعرف اعد للعشرة .

أنفاس عدت من العمل متعبا . انتبهت إلى ما يشبه الجرس ، يرن في داخل رأسي . قلت أنا في حاجة إلى حمام ساخن . لم أتردد في النهوض و غسل أطرافي الجسدية . رأسي لا يزال كما هو .. فكرت في كتابة  قصيدة من أجل النشر ."المتكلبون في مدينة القمر". قلت العنوان جميل ، غير أنه غير قوي كما أريده .ما أكثر الذين غيروا أفكارهم و سلوكياتهم و قيمهم من أجل أحلام ...أحلام اللحظة لأشخاص فرادى ، يقودون سفينة المجتمع بأكمله إلى الهاوية ..حتى و إن ظلوا محافظين على وجوههم و جلودهم الآدمية . فهم تكلبوا لكن بطريقتهم الخاصة ..أي بأسلوب عصري جذاب ..جلست إلى مكتبي .بعد تحضير فنجان قهوة سوداء.شرعت في كتابة القصيدة قبل أن تطير من ذهني ...
كتبت : تشربني الحروف سائلا أحمرا
و لن  تسرقني
رياح مدينة القمر ،
التراب وطني
و الوطن كلمة يسكنها الغراب ..
و الوهن غذاب ..إن لم يركب موج البحر
و يدفئ الكوخ بشعلة صرخة
من جوف طفل
تسقط أقنعة القمر...

أنفاس هذا الكرسي مفروش برصيف أسمنتي .هو كرسي ليس كجميع الكراسي .فكرت أكثر من مرة ، في غفلة النادل ، أن أكسر ما تبقى من شكله المهترئ ، لكن سيبدو ذلك عملا جنونيا .في الحقيقة هو يثير الرأفة ،أكثر مما يثير  أي شيء آخر .لكن ، ما الذي يجعل كل من دخل إلى المقهى يسأل و يبحث ، بكل جدية و غير جدية ، عن الكرسي الأعرج ...، و هو الاسم الذي عرف به عند الزبناء .فأنا لست أدري لماذا يتشبت هؤلاء به كل هذا التشبت ، رغم عيوبه الواضحة و البارزة حتى للعميان . إن هذا هو ما يستفزني أكثر في الموضوع .
كرسي يجوز أن نسميه كل شيء غير الكرسي .أحسن مكان يليق به هو إحدى المتاحف العريقة في البلاد .حقا ، فهو يحتمل أجساد الجالسين عليه . هذه ميزة تحسب له . لكن المهم ليس هو الجلوس ، و إنما الراحة في الجلوس ،و يبدو أن كل من جلس عليه يتمنى أن لا ينفصل عنه ، بل يزداد جسمه التصاقا ..إن لم أقل امتدادا ، إلى درجة الذوبان فيه ..مع العلم ، أنه مجرد كرسي أقل من عادي ، جد قديم ، يعود تاريخه إلى أكثر من المدة ، التي عشتها في هذه المدينة الصغيرة و المهمشة . كرسي سبق لي أن دققت نظري في شكله الذي يغري ، إلا أن رجله الرابعة تبدو لي اصطناعية ، و أصغر من الأرجل الأخرى . بالفعل ، حين تنعكس عليه أشعة الشمس الصباحية ، تلمع جنباته ، و تكون "ظهريته" المملوءة بالأرقام الهاتفية ، أكثر دفئا و انجدابا للزبناء .لهذا كثيرا ما طرحت على نفسي سؤال السر، الذي يدفع كل من جاء إلى هذا المقهى يقصد، بشكل غريب و مباشر، الكرسي الأعرج  .هل الأمر يعود إلى لونه الأبيض ، الذي يوحي بأجواء السلم و السلام ، المنقوشة في دواخل المواطنين ..؟ أم الأمرلا يعدو أن يكون مجرد صدفة ، كوجود المستوصف بالقرب من هذا المقهى .

أنفاس انحسر الظلام شيئا فشيئا ، وتخلّله ضياء نهار جديد . وانبلج الصباح على غابة سفوح جبال سبل في يوم قاتم جدا . واستيقظت المخلوقات في هذه الغابة ، كل يسعى من أجل أمر ما في نفسه . كان يوما من أيّام الشتاء الباردة ، وقد انتشرت الغيوم الكثيفة الحالكة في السواد في أرجاء السماء الفسيحة ، تنتقل من مكان إلى آخر في الاتجاه الذي تحدده الرياح . كان الجوّ  ينذر من هول أمر شديد ذي بأس سيقع قريبا ، ومن أحداث مؤلمة ستجري في حياة البعض من مقيمي هذه الغابة الكثيفة التي تقع في الشمال من قرية تركلان . انتشرت القرية ، وتناثرت أطرافها مع إنتشار وتناثر الحقول والمزارع والبساتين . وكان سكان القرية عبارة عن بضع عوائل أو يزيد من الفلاحين الذين يشتغلون في الزراعة وتربية الأبقار والماعز والأغنام والدواجن .
كان الفلاحون يقصدون هذه الغابة بين فترة وأخرى لسدّ احتياجاتهم من الحطب وجني محصول بعض الأشجار المثمرة المنتشرة في أماكن عديدة منها أو للتسلية وقضاء أوقات الفراغ أو صيد الطيور والأرانب والغزلان . ومن غير ذلك ، وخاصة في فصل الشتاء ، تظلّ الغابة مسكونة بأهلها من الأشجار والشجيرات والأعشاب والحشرات والطيور والحيوانات الوحشية وما خلق الله من أحياء ترى بالعين المجرّدة أو تخفى على الانسان رؤيتها . تعيش هذه المخلوقات وتحيا وتموت وتضمحلّ حسب قوانين الغاب المعروفة .
 لو تركت الطبيعة على حالها لكان كل شيء ولاشك على ما يرام . فالطبيعة قادرة على إدارة نفسها بنفسها . ولكن أنّى يدرك الانسان ذلك ؟ فهو يتدخّل في كل صغيرة وكبيرة .

أنفاس متعثراً في الإمساك بالهواء اللاهث من رئتيه ، ألقَى في وجهها بيمين الطلاق البائن ثم انهار فوق كرسيه المسند إلى الجدار.
مرتعش الأنامل يعاود محاولة زند عود ثقاب يعاند قلقه ، ما تبقى في العلبة الثانية هذا اليوم ، قد لا يكفيه لليلة ساخنة . 
نفث عميقا وهو يسترق نظرة جانبية لانزوائها المفاجئ على غير عادتها حين يفرغ ما في جعبته من جام الغضب على احتقارها له ، تثور'' مليكة '' غاضبة من كل كلمة يتفوه بها مملوحة برائحة الخمر ، فلا تراه إلا مستكينا يستنجد بحشر جسده بين العيال ، أكثر من مرة ، وجد في الصباح علامات تَمَكُّنِها من مواقع شتى في جسده ، لا يسألها عن اليد التي عبثت لا يدري كيف بعنقه ، يلعن الشيطان ثم يلوم نفسه على ما كان فيه من حالة السكر .
يحمل حزنه الدفين ليلقي به في بحر التناسي ، حتى الرفاق الذين واسوه في البداية بعد فقدانه لعمله ، تفرقوا شيعا بين دروب همومهم الشخصية ، شعر بدفء غريب حين استمرت حياته في الشهرين الأولين ، عادية بل أحسن ، اتفقوا على تخصيص نصيب من رواتبهم لسد ثغرات الطرد التعسفي المشؤوم ، في انتظار صدور الحكم ، فابتهجت '' مليكة '' لتأمين مصروف حاجات البيت ، سمعتها تدعو لهم إكبارا لمواقفهم ، ثم سمعتها تدعو عليهم بالويل والثبور ، حين توقف عون المساندة .
أصر على البحث لها عن أعذار تبرر عدوانيتها ضده ، قبل أن يقرر عدم رؤية وجهها إلى يوم الدين ، لكن قدميه تقودانه خطأ إلى البيت كلما أغرق في الشرب ، من كان يتصور أن '' القاعسراسي '' بتاريخه النضالي في الحزب كما في النقابة ، يمكن أن يأتي عليه يوم يخلط فيه كحول الحريق بماء الصنبور .

أنفاسالتحقت بالفصل الدراسي باكرا حتى أتمكن من كتابة أمثلة الدرس اللغوي قبل حضور التلاميذ . حجرة هذا الفصل تثير أعصابي فهي مقابلة لمكتب الحراسة العامة وأدنى حركة تقع في القسم يهرع لها طاقم الحراسة بكامله ويقتحم الحجرة بطريقة تشبه فرقة التدخل السريع ،كنت في البداية أظن أنهم يبالغون في أداء الواجب والسهر على انضباط المؤسسة ،إلا أن زميلا  أخبرني أن ما يصدر في الفصل من ضجيج يقلق راحتهم ويعكر صفو الهدوء الذي ينعمون به،وكم من مرة طلبوا من رئيس المؤسسة تغيير مكان مكتب الحراسة العامة،وكم فرحت لهذا الطلب فهو رغبة متبادلة بيننا رغم اختلاف الحسابات.
دخل التلاميذ الفصل وشرعوا في نقل الأمثلة على دفاترهم ،فانتهزت فرصة الفراغ الذي أوجد فيه وتوجهت نحو النافذة لأستطلع ما يدور بداخل مكتب الحراسة العامة ، أحسست بغبطة كبيرة وصلت حد الحسد وأنا أشاهد الطاقم الإداري يعيش لحظة استغراق في تصفح الجريدة أو ملء الشبكة المسهمة ومنهم من ذهب بعيدا إلى حد التمايل فوق مقعده منسجما مع ما يسمعه عبر سماعات يضعها في أذنيه.
ما أسعد هذه اللحظات، بينما أنا غارق في هذا الفصل أصرخ وأتراقص بين التلاميذ، أكتب وأمسح، والغبار يثناتر على جسمي كالرذاذ ،فلماذا لا أنعم أنا أيضا بهذه الراحة ، فجل من أعرفهم من أساتذة غيروا وجهتهم نحو الحراسة العامة بينما أنا أتشبث بالتدريس وأدافع عن رسالته النبيلة وكيف أن المعلم كاد أن يكون رسولا، كما أخذت عن الشاعر أحمد شوقي الذي ورطني حتى أصبحت أعتبر ما قاله حقيقة وليس شعرا .

أنفاسانتظار وراء انتظار ، انتظار يعمي البصيرة ، كأن الزمن رماد ينثره الهرج بسخرية سوداء . لم يبق سوى ساعة واحدة على بدء عرض المسرحية ، فصولها مرة و حامضة .  تدور أحداثها حول التطبيع وإشاعته ، يكثر المخرج النظر إلى ساعة يده متأففا :" أوف " ممطوطة ممدودة و مؤرقة . يسرع الممثلون إلى التواجد و الاستعداد لبدء العرض و الدقائق تمر مرا دقيقة بعد دقيقة ، ها هم الممثلون وراء الكواليس يعدون أنفسهم وملابسهم للحظة البدء . بعض الممثلين بربطات عنق مزركشة مزوقة بألوان شتى ، مصنوعة في أمريكا ، و ربما في إسرائيل .. البعض منهم بأحذية  لها بوز رفيع و بالبوية السوداء مطلية ، و أخرى ببوز عريض لامعة و براقة.. هنالك من هم  بكوفية ربطت بإتقان و تؤدة مثبتتة بعقال مدّور فبدت رؤوسهم كالطبلة البلدية .. منهم من يرتدي جلابية طويلة تجر على الأرض لونها ابيض ناصع مثل البفتة . تمتد أمامهم كروش كبراميل النفط ، وأجساد ملظلظة مكتنزة باللحم والشحم ومترهلة .. مع قلة الهموم يزداد حجم البدن أحيانا ليمتلئ بالفجوات والتلال .
أما الممثلات فقد بقين أيضا وراء الكواليس بصدورهن النافرة والعامرة بأثدائهن المشدودة شدا بسنتيانات أصلية قريبة إلى قلوبهن قرب حكوماتهن و تتكئ عليها ظهورهن و تستند. هن في غاية الجمال و لا يوجد أحلى منهن ، بالرغم من أن وجوههن مدهونة وملغمطة بالمساحيق إلا أن أجسادهن منحوتة نحتا بالجوع الاختياري -  الرجيم - فظهرن كعرائس بلاستيكية .. ارتدين تنانير ميني جيب إلى ما فوق الركبة بمسافة شبر فبدت سيقانهن مدّورة مثل شموع أعياد الميلاد البرتستنتي .

أنفاس تمايل جسده على السرير .يزداد مذاق النوم حلاوة في أيام البرد القارس.هكذا فكر،قبل أن يرن جرس المنبه ،على يسار وسادته، للمرة الخامسة. وقف فجأة متعصبا . مفعول سهرة البارحة الخمرية ، في أفخم صالونات المدينة ، ما يزال ساريا في دواليب دمه . سار حافيا تجاه المرحاض . وجد هناك ماءا دافئا جاهزا .غسل بسرعة فائقة . فعاد إلى المطبخ . تناول وجبة الفطور. بعدها أفرغ كأس "بيرة" في جوفه الغائر . نظر إلى وجهه في المرآة . وجده وجه خفاش أشقر ، كما كان منذ زمن بعيد . وبعد لحظات ، أراد له أن يكون وجه طائر وديع ، يوزع البسمات على شجيرات هذه الغابة ، فكان له ذلك.الجو جد بارد .أفرغ كأسا ثانية في جوفه العطشان .تحولت أنيابه ،في رمشة عين ،إلى منقار بهي ، وقرناه الحادان انهارا انهيار جبل ثلجي في بياض إشراقة شمس . من عادته أن يعاملنا بكل احترام و تقدير، في وطن الورود والأشجار المغـتـالة ، والقـطيع المدجج بسلاح الخوف والصمت القاتل ، والنار المحاصرة في زنزانة النار ، تأكل ذاتها ،عند عتبات الحرف والغضب الوهاج ... إن هذا الخفاش الأنيق ، ليس غريبا أن يعيش أكثر غربة و غرابة  في مغارتنا ..مغارة جسد حي ، كله حيوية و نشاط ، ينتج كل طاقة البلد ..،بما فيها طاقة الخفافيش الذين يحكموننا ..،في غابة ،يكاد يشلها الصراع غير المجدي ،صراع يشبه دورة العجلة المملة  .
هو خفاش من هيئة الخفافيش الوازنة .. مدمن على امتصاص دم الشجر و البحر ..بحرنا الذي يعترف التاريخ بقوته وعزة نفسه ،و الذي يبحث لنفسه، عن جهة أخرى ،غير جهة الصراع ضد العواصف الحديثة..تائها ضائعا بين دهاليز الليل العاتي .لا هو ليس ضائع .بل يؤجل فقط سعادته إلى اليوم المناسب .