رأيت في المنام أني أذبحه. كان جارا طيبا وصغاره ودودون للغاية، أما الزوجة فلا تظهر إلا صبيحة الأحد لنشر الغسيل. في المرات القليلة التي تقابلنا على الدرج أظهر تواضعا وأدبا جما. يسأل عن الصحة والأولاد ثم يلج شقته بسرعة كأنما يخشى مزيدا من الكلام.

تعودت على هذا الصنف من الجيران الذي يُنشئ حدودا وهمية للإبقاء على الود في نطاق ضيق، فقصص الأسر التي خرّبها تطفل الجيران ودخولهم بين الظفر واللحم عديدة. قدّرت حرصه وأبقيت على تحية خفيفة، وتهنئة بحلول العيد؛ لكن شيئا ما بداخلي كان يهمس بأن خلف جاري ذي الملامح الجنوبية قصة ستنكشف خيوطها يوما ما.

يومها مالت الشمس إلى المغيب بينما كان اللغط في شقة الجار يرتفع. تظاهرنا باللامبالاة لولا أن صراخ زوجته بأن يُعتق أحد روحها دفعنا لطرق الباب. كانت اللحظة اختبارا لأدبه الجم، غير أنه بدا هادئا كأن شيئا لم يكن. شكرنا على حرصنا واهتمامنا، ثم قال بأن الأمر شأن داخلي ولا داعي للتدخل.

  -هل نتصل بالشرطة؟ سألَت زوجتي. أجبت بأن حضور الشرطة قد ينزع فتيل الحرب مؤقتا، لكنه سيكهرب علاقتنا مع الجار لأمد طويل.

- لنتريث قليلا إذن، فإن عادت إلى الصراخ مجددا فلا مناص من إحضارهم.

-1-
Je creuserai la terre/ Jusqu'après ma mort/ Pour couvrir ton corps/ D'or et de lumière/ Je ferai un domaine/ où l'amour sera roi/ où l'amour sera loi/ où tu seras reine/

جاك بْرالْ، يرقرق صوته الفضيّ ما بين الأرض والسّماء. سماء تضيء كلّ أصابعها شموعا احتفالا بليلة الميلاد السّبعين لميسيو رينيه رجل الأعمال التونسيّ الفرنسيّ ومالك سلسلة محلاّت الأحذية وحقائب اليد النسائيّة الحاملة للماركة العالميّة: RenéBOO
ليل مصاب بأرق صيفيّ مزمن، كلّما راود غفوة عن نفسها باغته العشاق. سرير من رمل نديّ يغمّس أصابعه في بحر متهيّج على خلاف الهدوء الوقْر الذي يلبس قامة السّاعة، متضرّمٍ كحقل أحوى تركض فيه الأمواج قطيعا من الجياد البّريّة ترجّع الجوانب الصخريّة صهيلها المحموم، وتغتسل في رغوة أنفاسها الرّمال. قطعة من ساحل مسوّر بمقاطع صخريّة متفاوتة الأحجام رُصّفت بذائقة طبيعيّة ساحرة حتى الرّهبة وانشداه الحواسّ، حدّ الرّغبة في اختلاق سبب ما للبكاء الجنائزيّ علنا يفضي بنا رأسا إلى ضحك عبثيّ يغسل جراحاتنا بمحلول ملحيّ لطيف، حدّ افتعال فجيعة استثنائيّة تليق بذلك الحزن العتيق الغامض المتلألئ فينا كطبقة جوفيّة من الكوارتز تقع على حدود المدّ البحريّ للخيبة..

في يوم من أيام الصيف الحارة، أيام الفراغ التي تراودني بين الفينة و الأخرى، رن جرس الهاتف، وكالعادة بقي لحظة صمت؛ قبل أن ينطق كلماته، قال صباح الخير، هل يمكننا أن نشرب فنجان القهوة معا هذا المساء؟ قبل أن أجيب أغلق الخط؛ من دون حتى كلمة وداع.
انفتحت جروح الذكريات من جديد، وبدأت الأفكار الإيجابية و السلبية في الصراع على سلطة الفكر، فما كان مني إلا أن قطعت هذا الحبل، حتى لا يتدلى بعيدا، بدأت في الاستعداد قبل الموعد بساعات؛ كأنني سأقابل قيصر روما، ارتديت فستاني المخملي المطرز من الذيل، وتعطرت بأفضل العطور عندي، وانتعلت كعبي العالي، ووضعت قبعة رأسي، وتركت شعري منسدلا بين ضفاف كتفي، ولم أضع لمسة الكحل فضلت أن أترك عيوني تظهر بريقها تحت أشعة الشمس؛ عيون تحمل حضارات الحزن القديمة من بغداد إلى آخر العصور.
خرجت مسرعة لا أدري هل من لهفة شوقي أم من لهفة فضولي، أخذت سيارة أجرة، وصلت إلى الموعد المحدد قبله بساعة، دخلت المقهى وأخذت طاولتي، وبدأ توقيت هذه اللحظة في العد التنازلي، وصل في الموعد المحدد، وكان قد مر بون من الزمن على آخر موعد لنا؛ ومع ذلك اكتفى بكلمة مرحبا من دون حتى النظر في وجهي.

احترقت أفكاره هذا الصباح وصارت رمادا ،حاول أن يعيد لها الحياة ،تخيّلها طائر فينيق ينبعث من رماده ،لكن خَياله لم يسعفه ..لم يحدث شيء ،ظلت أفكاره رمادا وظل هو حائرا، مترددا خائفا ،اقترب من كوم الرماد، أقعى ثم حفّن مدّاً ،قربه من أنفه كانت رائحة الرماد زكية ذكرته بعطور فرنسية كانت تضعها زوجته، مثل ايف سان لوران ،أو لولو كاشريل، وربما أيضا " رِيف دور " عِطر أمه وجدته المفضل، أيّ صاعقة لئيمة هذه التي استأثرت بأفكاره فأحالتها على هذا الحال؟
أهو تفريط منه أم هي صدفة لعينة؟ تساؤلات رهيبة تَشج رأسه ولا يجد لها جوابا.

بعد أن غسّلوه كفّنوه، ثم حملوا النعش بخفة إلى مسجد الحي للصلاة عليه. كبّروا أربع تكبيرات، تخللها دعاء بأن الحاج يستحق من ربه ما لاعين رأت ولا أذن سمعت. وعلى الأكتاف مرة أخرى سارت به جموع المصلين إلى حفرته وديدانه، وما قدم في صحيفة أعماله.
تعشوا عشاء المفارق لخليله. بين اللقمة والأخرى تنهيدة واستغفار، وتحذير للعباد من الوثوق بدنيا بنت كلب. رددوا آمين بينما آذانهم تسترق السمع لهذا اللغط المتزايد في حجرة أخرى. لعلها قريبة تبدي لوعة الفراق، وتذكر محاسن الفقيد. بدا صوت ابنه البكر واضحا وهو يؤكد أن الوصية بخط يد المرحوم، لا شك في ذلك، لكنه لن ينفذ منها شيئا ولو على رقبته.
بعد أن تعشوا سار كل منهم إلى حال سبيله وهو يترقب انبلاج الصبح. خبر كهذا قد يصيب الحومة بالأرق، فنصف دورها من عرق الحاج وكدحه في الغربة. مربع سكني صار يعرف باسمه في مكاتب المقاطعة، ويلهج السماسرة بالثناء على ولد "ماما" الذي حل أزمة الكراء في ثلث البلدة، والسعيد من جاور دار الحاج العامرة.
إلى جوارهم طوت ماما عقدين من عمرها دون مشاكل. وحين أظهر رجولته يوما بركوب البحر إلى بلاد الصبليون، طمأنوه بأنهم الأهل والكنف إلى أن تستقر أحواله. يعانقها وتودعه كل صيف، لكنها تأبى غربة ثانية في بلاد لايعرفون الوضوء ولا القِبلة. يرجوها وترجوه ثم يفترقان. وفي عامه الثامن كان للحي الذي يوشك أن يتداعى، قصة أخرى مع ولد ماما.
أظهروا تأففهم من رزمة الأوراق التي يتأبطها ابنه البكر، متنقلا بين القيادة وسرية الدرك الملكي. عش نهار تسمع اخبار. وما هي إلا ساعات حتى ولجوا مقر الدرك للرد على اتهام بتزوير عقود كراء طويلة الأمد. تنهيدة واستغفار، ثم تنديد بقبح العالم الذي أخرج من ظهر الحاج فاسقا.
- هذا رزقكم، قال الحاج مصرا على أن يحضروا يومها إلى مكتب العدول. سومة كراء رمزية للأحباب الذين آنسوا وحشة "ماما"، وملأوا عليها الدار في غيابه. عليهم أن يكرموا جميله بالوقوف في وجه الورثة. تزوير؟ ألهذا الحد ترخص العِشرة والمودة؟ تريكة الصبليون، لا دين ولا مروءة. ارتسمت على شفاههم ابتسامة وهم يذكرون سخرية الحاج من حفاظات صغارهم:

يوجد في حالة مضطربة لا يحسد عليها ..لم ينم قاسم هذه الليلة ، وبات يتقلب في الفراش، والرأس تتصارع فيه آلاف الهواجس والأسئلة.. ولقاؤه بالمديرصار يؤرقه منذ أيام..
إن قاسم حديث العهد بمدرسة القرية التي عين بها قبل شهرين، وهو الآن يرغب في مقابلة مدير المدرسة، ليعتذر له عن سوء الأدب الذي بدر منه في حفلة جمعته بالتلاميذ في بداية هذا الموسم الدراسي..
حاصره التردد ولكنه قرر أخيرا مقابلة المدير« سأشرح له دواعي اللقاء..كنت كثير الشرود خلال الحفل ..وسهوت عن تقديم واجب التحية احتراما..»، بذلك حدث نفسه وهو يشق طريقه نحو ادارة المدرسة..
في مكتب المدير كانت الموظفة المكلفة بالاستقبال منشغلة في ترتيب أوراق على الطاولة، حين بادرها قائلا:
- أريد مقابلة السيد المدير.. لوسمحت..
- ما موضوع الزيارة يا أستاذ؟
وتلعثم قاسم .. فهو لم يكن ينتظر مثل هذا السؤال..
- موضوع خاص..

-  ولا عثرتُ على شيء منها سيّدتي وإن شِلْوًا ينزع، أو ضراعة تتعلّق بتلابيب النّجاة.

صوتي عتيّ الوثوق ترضرض على أحرف الاعتراف الحِداد، وأناخ عاتقي ذلاّ لوِزْر الخيبة الكشيفة فيما تضايق قلبي يظنّ أنّ جهاز استخبارات ما اطّلع على خياناته فتُفعل به فاقرة الآن أو بعد نصر مجيد.. لقد كان اللّعين يرقّ بين مشهد ضريج وآخر فيقترف خطيئة الحنان. وفي غفلة من قادتي الأشدّاء، كان يزورّ بي عن لذاذة الفرح الذي نمّقته الحرب بجثث الأعداء المشتهاة ويتخاذل للبكاء.. وكان صوتها صغيرا جدّا، وجدّا ضعيفا يتناهى من كوّة بين أكوام المباني لم تنتبه له عيون المغيثين، ولا وقعت عليه فرق الإنقاذ إلاّ أذني الخائنة..

أولى له ذا القلب..

لا بدّ أنّه كافر، أو قُذف بروح شرّيرة يَدِين للشّفقة الحرام لمّا الرّبّ يُولم على شرفنا محرقة عظيمة خبزها الأجساد الأشرار وخمرها الدّماء الخبيثة.. لمّا الصّوت يخترق الغليل المبارك بالنّداء..

“ماذا يحدث يا أمّي..؟ أين أنت..؟ نونو عالقة تحت شيء ثقيل.. اِنطفأ المصباح يا أمّي.. لا أراك.. أسمع ريما تبكي بشدّة. تعالي ماما.. أنا خائفة.. ريما كذلك خائفة ونونو عالقة تحت شيء ثقيل.. ماما أين أنت..؟”

هذا المنعطف الذي يشعرك أنك ترتقي، تصعد، تترك الأسفل وتمضي إلى الأعلى بعيدا عن الوادي، وربما بعيدا عن الخطر، هذا المنعطف الذي يغير اتجاه الطريق، اتجاه الأرجل والخطى، يبدو أنه تصحيح لشيء ما، استدراك لخطأ تم الوقوع فيه، أو هو في أحسن الأحوال تحايل على الطبيعة، على شدة الانحدار أساسا. لو كنا، نحن أهل هذه القرية نتمتع بقدرات خارقة، كأن لا نتعب ونتعرق عند صعودنا من الوادي محملين بالأثقال وبدونها، مثلا، لو كان الأمر كذلك، لما كنا ربما بحاجة لهذا المنعطف.

قد يخيل إليك أيضا، إن كنت ممن يسرح خيالهم بعيدا وتستغرقهم بعض الشطحات الروحية، أن هذا الصعود تسلق وتقرب للسماء وبُعد عن كل ما يشدك إلى الأرض ومستنقعاتها. سلوك هذه الطريق طقس كان يكرره أهلي بخشوع وتركيز دون تدمر أو يأس.

تجول في نفسي مثل هذه الأفكار عندما كنت اسلك هذه الطريق صعودا إلى القرية، وأما عندما أهم بالنزول، فقلما فكرت في المنعطف. أرفض دوما اعتبار هذا التمرين اليومي الشاق مجرد شيء بدني صرف، ألا تطهرنا هذه الطريق الشاقة من شيء ما؟ ولكن ماذا سيكون هذا الشيء؟ أنا أقول، ولكن قد لا يوافقن أهلي في هذا القول، رغم ذلك سأرمي به هكذا جزافا وليحاسبوني بعد ذلك إن شاءوا، هذا الصعود الشاق والمتكرر هو ضريبة شيء واحد لا غير، هو في سبيل الرؤية من أعلى، لا يستقيم المقام لأهلي إلا إذا سيطروا على الوادي من فوق، من فوق أسطحهم، كأن بهم نسور لا يرضيهم السهل ولا الأرض المنبسطة.