شاعرية الموت والجنون في عوالم الغول - ماهر عمر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseمن جديد، يخرج القاص الغزِّي يسري الغول، عن طور الجنون متجهاً إلى رحاب الموت، فينشر مجموعته القصصية الجميلة (قبل الموت، بعد الجنون) ليؤكد بأنه ما زال يكتب ويكتب حتى اللانهاية. فقد صدر من مركز أوغاريت للنشر والترجمة المجموعة الثانية للكاتب والقاص الفلسطيني يسري الغول والتي جاءت في قرابة الـ110 صفحات متوسط القطع، انقسمت المجموعة فيها إلى قسمين رئيسيين، وإن كنت أرى بأن كل قصة هي قسم متوحد في ذاته، فالعوالم والأجواء المتعددة داخل النص تشعر القارئ بمدى عمق الشكل والمضمون لدى الكاتب الغول.
غلاف المجموعة حمل شكلاً سوداوياً ذكرني بأغلفة أفلام الرعب الأفلام التراجيدية الحديثة، إلا أن ما قد يميز الغلاف هو عمق الأشجار التي تحمل في دواخلها روح الحكاية وتضاريسها. فاليوم يعاني الفلسطيني سياسة التدمير والغطرسة التي تمارسها آلة الحرب الإسرائيلية، فلا هي تركت شجرة أو أبقت قبراً كما في قصة الغول (قبر حزين). ولعل القارئ والناقد على حدٍ سواء قد يحملون على الغول سوداوية الحكايات التي تغزو نصوصه، فمجموعته الأولى والتي حملت عنوان (على موتها أغني) أعطت القارئ والناقد انطباعاً عن مدى الألم الذي يجتاح الغول، فهو ابن غزة، التي لم يرحمها أحد. إلا أن ما يميز مجموعته الجديدة هي عمق البنية النصية، بخلاف مجموعته الأولى التي جاء فيها الموت مبالغاً فيه إلى حد ما في بعض القصص كقصة فتاتان برائحة الغربة.

 

المجموعة بسوداويتها مبررة ولا تكلف فيها أو مبالغة، فغزة -التي غزا جسدها المرض من الداخل بسبب الانقسام، وبسبب العدو الخارجي الذي يكيل لها الموت الزؤام كل لحظة- لم تدع الغول أن يصمت إزاء ذلك، بل دفعته لأن يكتب ويكتب حتى في أحلك الظروف، لتصبح غزة الحكاية والريحانة التي يتنشقها كل عابر للنص. وكم هو جميل ذلك الإهداء المقتضب الذي يواجه القارئ مع أولى صفحات المجموعة (إليها، حزينة كانت وما زالت.. غزة) فهي ما تزال حزينة من فراق الإخوة ومن الوجع اللعين الذي يحاصر خاصرتها بسبب الحرب الأخيرة التي أهلكت الأخضر واليابس في هذه البقعة الصغيرة. ولعل الغول أراد أن يسأل: هل ستظل غزة حزينة أم أنها ستعود إلى نضرتها من جديد؟ أم أنها ستبقى على ما هي عليه؟ فغزة لا زالت حزينة.
محمود درويش حاضر غائب في نصوص الغول، فمن ديباجة الظهور التي أرسلها درويش إلى غزة إلى قصة (صدفة رأيتها) التي تشبه إلى حد بعيد قصة (سهواً كل ما جرى) من مجموعته الأولى، فعوالم الأخيرة هي ذات عوالم الغربة في (صدفة رأيتها)، وتحديداً ألمانيا التي زارها الغول قبل أكثر من سبعة أعوام، فلا زالت تطن في أذنّي (عندما كنت صغيراً وجميلاً/ كانت الوردة داري/ والينابيع بحاري..) إلى افتتاحية المجموعة الأولى (إنا حملنا الحزن أعواماً/ وما طلع الصباح/ والحزن نار تخمد الأيام شهوتها/ وتوقظها الرياح/ والريح عندك كيف تلجمها وما لك من سلاح/ إلا لقاء الريح والنيران/ في وطن مباح..) ولعل هذا الصوت الثوري في قصص الغول ما يبشر بأن القضية الفلسطينية موجودة في أعمال كثير من جيل الشبان الذين طغت على البعض أعمال تناقش قضايا العصر بعيداً عن المخيم والخيمة.
القصة الأولى من مجموعة الغول حملت عنوان (أو كأنه حصار)  وكأنها تقول بأنه قد يبدو لنا بأن غزة في حصار إلا أن ذلك في الحقيقة أوهى من خيط العنكبوت، ولعل خاتمة القسم الأول بقصة حملت عنوان (برداً وسلاماً) التي تتحدث عن عوالم غير التي سنخوض في غمارها الآن إلا أن عنوانها قد يشي بأن ما قبل الموت سينتهي بالبرد والسلام، فإما النصر أو الموت في سبيل القضية والأرض والوطن.
قصة فلسراقية، جاءت غريبة، بغير ما كان يتوقعها أحد، فقد راودتني للوهلة الأولى أنها قصة فنتازية من عنوانها الغريب، إلا أنني وبعد الخوض في رحاب النص اكتشفت بأنني أمام معاناة العربي المقهور، الفلسطيني والعراقية الحبيبين في الغربة، ليصبحا جسدا لحكاية عنوانها الموت في النهاية. فالعراقية تتمرغ في أوحال الموت حين تفجر نفسها في رتل من الدبابات. والفلسطيني ليس له إلا البكاء، فالبكاء هو سحر الحياة لدى العربي الفلسطيني.
قصة (وجع) ذكرتني أحداثها برواية باب الشمس لإلياس خوري، حين تظل شخصية البطل متمددة على سرير المرض دون أن تحرك ساكناً وهو ما فعله الغول حين جعل إحدى الشخصيات الديناميكية في النص شخصية صامته، بينما يتحدث الآخر معه حول ما جرى إبان الحرب الأخيرة على غزة، وما واجهه كلاهما وهما في خندق ينتظرون نزول العدو إلى الأرض، ليموت الجريح في النهاية ويبقى التساؤل الذي يراود كل غزي اليوم والذي يطرحه الكاتب يسري في نهاية القصة، فلعلها حرب ستأتي من جديد.
قصة عصفور أيضاً من القصص المتميزة داخل المجموعة، فهي قصتين في قصة، أو من الممكن أن نقول بأنه يتبع لنمط القصة الفرنسية، فالمشهد الأول من القصة رقم 1 هو لطفل ينصب شباكه كي يصطاد العصافير. أمامه المستوطنة المتخمة بالبيوت الكرميدية، تتوالى القصة لتختتم بموت الطفل وهو ينادي أمه. المشهد الثاني رقم 2، فهو المجند الذي يعتلي الثكنة بانتظار حبيبته التي فشل معها في الفراش ككل امرأة صعدت معه تلك الثكنة، ثم يبدءون اللعب بقنص الصبي كي يفوز ذلك الجندي بليلة أخرى يحاول فيها إظهار رجولته أمام المجندة تلك، وتختتم الحكاية هنا بفشل المجند ونجاح المجندة بقتل الصبي كي تترك الثكنة ودم الصبي ما يزال ينزف على أرض البرتقال الحزين، تغادر الريح ويصفعها الغياب...
قصة قبر حزين استطاعت أن تجسد معاناة الفلسطيني أينما حل أو رحل، فهو مستهدف حتى في قبره، فالرجل الذي دُفن أخيراً ظن بأنه سيستريح حين يدفن إلا أنه فوجئ بالقصف من كل جانب، وأظلمت المقبرة وأعلنت حالة الاستنفار داخل تلك القبور، فالثكنة العسكرية المجاورة للمقبرة تدمرت بالكامل وأضحت الأضرحة والشواهد متسعاً للفراغ. ولعل جماليات تلك القصة وسلاسة العبارات والجمل دفعت بمخرج الكتاب لأن يختتم الغلاف الخلفي للمجموعة بمقطع جميل من تلك القصة. يقول الغول .. (فجأة، ولا أدرى كيف جرى ما جرى، شعرت بجسدي يتهاوى خلف أديم الأرض، كأن الأرض تفجرت ألف مرة، وبعثنا من جديد...) (كنت منزعجاً، مستريباً من هول ما قد يحل بي هذه الليلة، هتفت في سري: جئت إلى هنا كي أستريح، فلماذا يحدث هذا لي؟ لنا! موتنا بات في خطر...).
القسم الثاني من المجموعة (ما بعد الجنون) تتعدد فيه عوالم السرد، فمن قصة ثمن الحصار التي تعايش الحرب على غزة ونقص المواد الغذائية عن المخيم، إلى قصة المنبوذ وحكاية المجنون الذي يحب ابنة عمه لكنها تتزوج تاركة إياه خلف حجارة صبية المخيم.
قصة رقصات متعبة أيضاً تخوض في عوالم الجنون، فالعامل الذي يحضر إلى بيته منتصف الليل، لا يحالفه الحظ برؤية أبنائه أو حتى تقبيلهم، لأنه يغادر المنزل بعد ساعات قليلة من العودة، فيقرر الرقص ويرقص، ومع كل رقصة تنزلق ملابسه متخففاً من حمل طالما أرهقه، وفي كل رقصة تعود به الكرى إلى الوراء بطريقة الـ flash back لنكتشف معه كيف تم زواجه ومن هم أبناؤه وعددهم، وغير ذلك من الأسئلة التي ربما تساور القارئ.
قصة الغرباء ولحظة موت وجسر من ورق تحاول الخروج عن المألوف والتحدث عن عوالم فنتازية فالأبطال هنا حشرات أو هلام، كقصة جسر من ورق، فالبطل الساذج هو من صنع الكاتب ويحاور البطلة التي يختتم الكاتب ببقائها وموت بطله، فهو بطل من ورق.
القصص الأخرى لها ذات القيمة والروعة في المجموعة لأنها استطاعت أن تختزل الأفكار في طريقة شاعرية جميلة، دفعت حميمية النص فيه إلى معايشة الأحداث بصورة قوية، لذلك فإن ما يتميز به الغول بأنه شاعر القصة، ولعل هذا ما تحدث عنه سابقاً القاص الفلسطيني الكبير محمود شقير في إحدى دراساته والتي حملت عنوان (يسري الغول، اللغة الشعرية، وهاجس التجديد) ولعلي هنا أقول بأن الغول –ولمعرفتي الشديدة به- بأنه يسعى جاهداً لأن يكون بحق شاعر القصة القصيرة، فاللغة التي يكتب بها تلك القصص من أروع ما يكون، فهو متأثر بدرجة كبيرة بالعديد من الشعراء أمثال درويش والبياتي ودنقل وغيرهما الكثير.
أختم بأن المجموعة تستحق بجدارة أن تكون الناطق باسم الشعب الفلسطيني عن وجعه ومعاناته التي تغلغلت في أعماق هذا الجسد المكلوم، وأن تترجم بعض أعمالها إلى لغات أخرى كما جرى في بعض أعمال المجموعة الأولى لما تترجمه الحكايات من آهات المكلومين، المغمورين في رحاب هذا الكون الشاسع.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟