قراءة في رواية " سراديب النهايات " للدكتور عبد الإله بلقزيز : بدايات النهايات .. متخيل جديد ينسجه القارئ ـ عبد المطلب عبد الهادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

0577091 ـ مفتتح :
" تُقدم الأرض ما يكفي لتلبية حاجات كافة البشر، ولكن ليس بما يكفي جشع كافة البشر "
(المهاتما غاندي )
الرواية، " سراديب النهايات " بمتوازيات / مسارات ثلاث، حكاية / حكايات الإنسان العادي البسيط الذي يصنع من أيامه ولياليه، بجهده وعرقه وصبره، بحبه وطيبوبته مسارا لحياة تنهض على إشاعة الدفء والحب.. كما أنها حكاية / حكايات الآخر، نقيض الأول، الذي يأكله الجشع والطمع، ويستبيح حرمة وأسرار الآخرين والذي يصنع من أيامه مسارا موازيا يتخندق بداخله ويسير بعينين جاحظين غير منتبه للنفق الذي ينتظره في نهاية المسار.. مسار ثالث لا يتدخل فيه الكاتب، بل يضع خطوطه العريضة بذكاء وتمرس وهو يسير بالحكي نحو النهايات، ليترك للقارئ أن يصنع له مسارا يبدأ منه عند نهايات الحكي..


2 ـ مسارات الحكي :
الجشع والقناعة.. متوازيان، أبدا لا يلتقيان، لكنهما يسيران جنبا إلى جنب، قد ينجذبان، فينتصر القبح، لكن إلى حين، إلى مصير بارد في متاهات سراديب حيث يندثر ويضيع القبح وتخبو جذوة الأنانية ليبقى الآخر مشعا يرسم على الأرض دوائر من نور بألوان الحب والمعاشرة الصادقة ..
الجشع، ذلك المارد الذي يسكن نفوس مجموعة من شخوص الرواية، ينسج بهم متوازيا يستمد امتداده من الاستحواذ والاكتناز والأنانية الخبيثة.. بينما قلة ـ وللخير دائما قلة ـ تسير ثابتة على المتوازي الآخر مسلحين بالقناعة وكثير من الصبر..
هذان الخطان اللذان رسمهما الكاتب بذكاء وهدوء وعمق، ليُدخلنا تجاويف النفس البشرية بلغة شفافة، قوية وسلسة يرتاح لانسيابهما القارئ حين يسرح داخل معانيهما مكتشفا أسرار البناء الذي يقيم صرح الرواية وهو يسير ـ دون أن يشعر للذة القراءة ومتانة البناء ـ على متواز / مسار جنب الموازيان الأولان، لكنه محايد بتحريض من الكاتب الذي يفرض عليه أن يتمتع ويسمع لنبض الحياة التي تسري داخل المتن الروائي ويجمع شتات الحكي، يحيك وفي يده خيوط الأحداث التي تتقلب بين انتصار ونكوص، وجشع وقناعة، وأخذ وعطاء.. ليبني له نصا يبتدئ عند نهاية الرواية .
" الحاج العياشي " ومن يسير على خطاه ـ المتوازي الأول ـ نفسٌ جشعة، تحب ذاتها كما تحب الاكتناز والاستحواذ، غاية شهوتها امتلاك ما امتد إليه بصرها، وإذلال الآخر " عبد الرحمن " الذي لا سند له سوى نفس أبية، وتمسكٌ بالمبادئ وقطعة الأرض .. ووصية الوالد .
شهوة الجشع يصرفها " العياشي " عبر التهديد والابتزاز والقوة.. قوة المال والسلطة ـ دون أن يدري ـ أنه حين يساير شهوته تدفع به إلى الدمار والهاوية والسراديب المجهولة القرار..
" عبد الرحمن " وهو الخط الموازي " للعياشي "، وهو الوجود الإنساني الخيّر، غايته الحفاظ على جذوره ثابتة فوق أرض الآباء..  " الحفاظ على الأرض في زمن الجذب " (ص 157)، رغم المكايد والتخويف والتجويع وقطْع الحياة على الأرض التي تشكو قلة القطر ..
" عبد الرحيم.. السي محمد .. مهدي ..عبد الصادق .. صفية .. فاطمة .. يارا .." وآخرون محطات تبرز على طول المتوازيين تنتصر" لعبد الرحمن " وتعمق جراح " العياشي ".. تنتصر لهذا وتكسّر شوكة الآخر..
كما أن الفضاءات تنسجم وروح الأحداث والتيمات وكذا الشخوص، فسرايفو وأفغانستان مثلا فضاءات للحرب والظلم والبطش التي تنسجم والمتوازي الأول، بينما فرنسا ومراكش وغيرها فضاءات يغلب عليها الهدوء والحب..
مزج جميل وذكي للفضاءات ونفسية الشخوص والأحداث الذي يجعل من السرد انسجاما فسيفسائيا يجمع بين الجمال والقبح، الجشع والقناعة، المكر والوفاء.. عبر متواليات متوازية تنسج الحكي متاهات وسراديب وأنفاق تنفتح أسرارها مرة وتنغلق مرة لتصب في نهاية/ نهايات حتمية " حليمة..مهدي..عبد الرحيم" وتجعل للشر نقطة نهاية وإن كان له في البدء انتصارٌ وزهْو ..
ورغم تنوع تيمات الرواية إلا أنها تصب في قالب برأسين، الخير والشر، " العياشي " و " عبد الرحمن " عندما يسيران في اتجاه واحد، لكن إلى نهايات مختلفة، يؤثر الأول في الثاني الذي يظهر بمظهر الضعف، لكنه ضعف مشوب بقوة حين لا يستسلم للجشع والإذلال، ليظل الموازيان، خير/ شر، ينجذبان لتكون النهايات حتمية، للخير نهاية خيّرة، وللشر نهاية غير مأسوف عليها ..


3 ـ يارا .. مسار وحده :
" يارا "، مسار لا تربطه بالمتوازيين أية علاقة، هو مسار وحده، ينساب دافئا، هادئا، طاهرا يعيد الإنسان إلى طبيعته، ويُذكر بالخير الثاوي فيه، تبرز " يارا " ببراءتها لتقول للجشع " قف " وتفسح للحب مجالا أرحب للتأثير وصبغ المحيط بألوان الحب والنقاء ..
" يارا "، الْتِفاتةٌ ذكية من الكاتب تجعل القارئ يرتاح ـ ولو إلى حين ـ من جشع " العياشي " وزيغ " مهدي " وطمع " عبد الرحمن " .. وينفت بتواجدها في روعه دفئا يُحيي موات النفس التي ران عليها الجشع والأنانية واليأس..
" يارا "، مسار وحده، ينبض بالحب والبراءة حين يبزغ للقارئ، يشع بين ثنايا الحكي ينصهر ومتوازي " عبد الرحمن " العم، و" صفية " و" الوالدة " .. وينفرمن الآخر الذي يسير أعرج لا يكاد يستقيم إلى جنبه لكنه ضده..
4 ـ بداية النهايات :
لكل شخص من شخوص الرواية أسراره التي يُجليها السارد بهدوء وروية ليُدخِل القارئ في تجاويف ذاته ليكتشف أسرار الذات البشرية وغرابتها وتقلباتها وعمقها حيث يختزن الجمال والقبح عبر تقاطعات سردية تسير به (أي القارئ) ليختبر ذاته عبر الذوات المؤسسة لمتن الرواية والمحركة لأحداثها، التي تصور الإنسان عاريا، كتابا مفتوحا على قراءات متعددة .. بقوته وضعفه، بفرحه وحزنه، بجبروته وتواضعه وهو يسير إلى سراديب نهاياته ..
" دهش حين رأى أمامه أربعة رجال، وجوه متجهمة، بدت له مكفهرة، ونظرات حادة مصوبة إليه كالسهام، نطق أحدهم :
أنت عبد الرحيم ؟
نعم..
تفضل معنا.. (ص 351) ..
تلك نهاية الرواية ـ وللقارئ أن يتخيل بداية لهذه النهاية عبر متواز ثالث ـ نهاية عبد الرحيم والآخرين " مهدي ".. "حليمة " .. بُنيت بداياتها حين كان لهم وجود وتواجد، وتلك غاية الكاتب، إشراك القارئ في لعبة الحكي تنطلق من النهاية/النهايات، القارئ الإيجابي الذي رغم انتهاء الأحداث، يبني بدايات لنص جديد على أنقاض هذه النهايات بنفس الشخوص وشخوص أخرى من نسج خياله، بناء جديد يرفع قواعده وهياكله عند نهاية الحكاية.. حكاية " مهدي " و " عبد الرحمن " و " حليمة " .. الذين زُج بهم في سراديب ومتاهات يغلفها المجهول ليظل السؤال مشاغبا ومشاكسا ..
وماذا بعد ؟
من هنا يبدأ نص القارئ ويؤسس لمساره الخاص ..
رغم أن الكاتب بنى لبعض شخوصه نهايات حتمية، إلا أنه سكت عن بعضها ليترك للقارئ أن يوظف قراءاته ومعارفه وخياله ليصنع من النهايات بدايات لسراديب تنتظر فاتحة فاها لاستقبال شخوص وأحداث جديدة تنطلق في مغامرة جديدة ابتدأها الكاتب ليُنهيها القارئ..
تلك هي " سراديب النهايات " النهايات التي تركها الكاتب للقارئ أن يتصور فضاءاتها ومتاهاتها، وأن يفتح لشخوص "روايته" مجاهيل وسراديب أخرى، ويبني لهم متنا روائيا متخيلا يُدخلهم فيه، ويحركهم كما يشاء ويختار لهم نهايات غير النهايات، ويؤسس معهم وبهم نصا آخر يُنهي به فعلا " سراديب النهايات " أو بدايات النهايات " .. 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟