جوزف حرب : (3) جماليات عودة الأم من قبرها ـ د. حسين سرمك حسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

joseph-harb222# أسطورة الإنسان الذي خدع كبير الآلهة :
------------------------------------------ 
في الأساطير الرومانية أن " جوبيتر " كبير الآلهة ، طلب من أحد الرومان أن يقوم بتضحية يقدم فيها رؤوسا . استجاب هذا الشخص للطلب وضحّى .. ولكنه قدم رؤوسا من الثوم . مع هذا لم يغضب " جوبيتر " ، بل قبل التضحية – أعني قبل هذا التأويل ، وقال للشخص :
" سأعطيك ما تريد ، لأنك برهنت على أنك جدير بالحوار مع الآلهة " (4) .
ومن المؤكد أن هذا الشخص لو لم يكن يحمل روح شاعر لما انتصر على الآلهة عبر هذا التأويل " الشعري " لأوامرها .


.. وجوزف حرب يقدّم أعظم الالتفافات المراوغة في تعامله مع انثكاله بأمه الرؤوم .. الموت الجائر يعلن عن حقيقة صخرية مسننة .. حقيقة رحيلها النهائي : لا رجعة يا جوزف .. والأخير لا يقر بهذا الحكم الذي يعده متحاملا رغم أنه يسري على البشر جميعا : أمراء وفقراء كما يُقال . كان السومريون يقولون : ألا يتساوى الأمير والفقير في حضرة الردى ؟ ، ولكن جوزف لا يقر هذا القانون الأزلي ، فهو لا يمكن أن يقنع بأن أمه الحبيبة قد ماتت .. راحت في " الطريق الذي لا عودة منه " كما يصف العراقيون القدماء الموت . ولهذا نجده يناور من أجل أن يعيد وشائج الرباط الحبي المقدس .. الرباط الأكثر قداسة في حياة الإنسان بإطلاق ، وهو الذي يتأسس بينه وبين أمّه . يعيد هذا الرباط ولو في النوم .. ولو بمقدار حلم .
وأول هذه المحاولات الماكرة في هذا الديوان هي قصيدة " منامات " . وقد سمّاها الشاعر " منامات " ولم يسمّها " أحلام " مثلا . وهذا يعود بنا إلى أطروحتين : الأولى هي أن لاشعور الشاعر هو شعوره لحظة الخلق الشعري ، والثانية هي أن اللغة ليست سجنا للعقل كما يقول " هيدجر " ، ولا العقل سجين المفردة كما تطرّف " فوكو " من بعده ، بل هي – أي اللغة – مطيّة اللاشعور في خلقها وبنائها ومناحي دلالات مفرداتها ، المجال الأروع الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة هو الشعر . وفي هذه القصيدة نجد الشاعر ، " ومن حيث لا يدري " مؤكدين على أن لاشعور الشاعر هو شعوره ، يقوم بجمع دلالات الجذر " نـَو َمَ – نام " المتعددة التي تنسرب في المسارات الصورية لقصيدته هذه . وهنا تتوفر لنا فرصة لمحاولة تطبيقية ثانية في مشروع نظرية اللغة الجديدة :
محاولة تطبيقية ثانية :
-----------------------
من معاني الجذر : نـَوَمَ هو المصدر : النوم الذي يعرّفونه لغويا بأنه غشية ثقيلة تهجم على القلب فتُبطل عمل الحواس ، ولاحظ أنهم يعتقدون أن النوم ينجم عن غشية تصيب القلب لا الدماغ الذي يحتوي – تشريحيا على مركز النوم ، وصحيح أن العرب يستخدمون مفردة القلب للكناية عن العقل ، لكنه في أعمق اشتقاقاته النفسية وصف شعري حيث لا يشعر النائم حتى بنبضات قلبه ، وكأن الأخير توقف ، ولهذا نجد أن من معاني النوم : الموت ، والقبر . وهذا هو لب محاولة جوزف حرب في هذه القصيدة : أن يتسلل في منامه إلى أحضان أمّه الميتة في قبرها ليهديها وردة . والنائمة هو مؤنث النائم ، وتعني الميّتة أيضا . والنيّم : من يُستنام إليه ويؤنَس به ، سواء أكان غيمة أم قبرا .
ثم تأتي اللمحة الإعجازية التي يقدّمها لاشعور جوزف حرب حيث استخدم الفعل " غفا " ، ويعني النومة الخفيفة في هذه القصيدة أربع مرّات ، وفق هذه الرسمة :
حسّيت عم ببصَر بنومي كيف إنّي ( غفيت ) ع َ جبيني بنقطة ميّ عم تنزل مـِنا
وإنّي وأنا و ........................ ( غافي ) بهالنقطة بصَرت :
إنّي أنا .............................. ( غافي ) تحت كمشي خفيفة من التراب الـّلي :
أنا و ................................ ( غافي ) بقلبو بصَرت إني نايم بوردي .
فانظر إلى عبقرية اللغة العربية التي تنسرب معانيها بخفة وخفية بين انامل الشاعر الفذّ . إن من معاني الجذر غفا : غفوا وغفوّا الشيء : طفا على الماء !!!!!!!!! ، فلنسأل الآن : ألم يكن جوزف طافيا على الماء ، على الغيمة في منامه ؟؟ .
وانتبه أيضا إلى أن من معاني نام أيضا : المكان المطمئن يقف فيه الماء ، والغيمة بالطبع مكان مطمئن يقف فيه " الماء " .
ولكن لاحظ عبقريته هو – أي جوزف – عبقرية لاشعوره في الواقع – فعندما هبط كجنين في رحم قطرة الماء إلى القبر المظلم ، قبر الأم ، صار لزاما عليه أن يتحول من ( الغفوة ) ، النومة الخفيفة ، إلى ( النوم ) ، بما يتناسب مع الجو الخانق ، ومع حالة المحبوب الفقيد الذي راح في نومته الأبدية ( وأكرر أنّ من معاني النوم : الموت والقبر ) ، فتحول إلى استخدام الفعل نام بدلا من غفا :
كمشي خفيفي من التراب اللي إنا وغافي بقلبو بصَرت إني ( نايم ) بوردي
وأنا ........................................................... ( نايم ) بهالوردي بصَرت إني قطفتا
لإيد أمـّي بالقبر
               وبكيت
             حــــتى
             وعِـيت – ص 41 )
هذا الرباط المقدّس لن ينقطع لدى " المثبّت " مدى الحياة . تبقى لآثار الفقيدة قيمة نفسية كبرى مهما كانت بسيطة في معانيها الظاهرة . وها هو الشاعر يعلن عن حيرته ، وهو يحمل صورة أمّه ، ولا يعرف على أي جدار يعلقها . لكن ، لأن كل معاني الطهر والقداسة تتجسد في جسدها ، فهو لا يجد محلا لصورتها سوى " كنيسة " ... هناك يعيد الأمومة إلى عرشها الإلهي ... إلى منحدرها السماوي :
( لمـّا بفكرْ وين علّق صورتك
مِن ْ كتر ْ ما وِجّك بيشبه
              وِجّ قدّيسي
              بفتّش
              عن كنيسي – قصيدة صورتك ، ص 42 ) .
وسيلاحظ القارىء أن قصيدة " صورتك " هذه لا إشارة قاطعة فيها إلى أن الصورة صورة أمّ ، لكنه يستطيع أن يستشف هذا المضمون من الإحالة الصارخة إلى سمة القداسة التي قدمها الشاعر . فحتى المرأة الحبيبة المعشوقة حين تتمتع بهذا المستوى من القداسة تحيلنا إلى صورة الأمومة المختزنة في الوجدان . ولعل إحالة جوزيف هذه هي التي تعيننا على فهم المعادلة المُربكة التي صاغتها الإلهة " إنانا / عشتار " في علاقتها بـ " دموزي " حبيبها الإله القتيل عندما خاطبته بعد أن اختطفته شياطين العالم الأسفل :
 ( ناحت إنانا على عريسهــــا الفتى:
  لـقد مضى زوجي الحـبيب
  لـقد مضـى بنــــي ، مضـــى إبنـــــي الحـــــــبيب ) .
أو ما ورد من بعض أناشيد الميلاد على لسان السيدة العذراء :
  ( كيف أدعوك أيها الغريب عنّا و الذي صار منّا
  هل أدعوك أبناً ؟
هل أدعوك أخاً ؟
هل أدعوك خطيبا ؟ً
  هل أدعوك رباً؟
  أنا أم من أجل الحبل بــك
وأنا خطيبة من أجــل قدســك ) .
ويعود الشاعر إلى معالجة صورة الأم - مرّة ثانية - بإشارة مباشرة يحملها عنوان نص آخر هو " صوره ْ لإمّــو ْ " ، يحكي فيها عن " آخرَ " بضمير الغائب :
( صوره ْ
لإمّــو
معلّقا بالبيت
ختياره عليّا مسحِةْ
خريف مزيّن بلون المسا
وناي
الشتّي – ص 58 ) .
ومنذ البداية ، يبدأ الشاعر بـ " أنسنة " صورة الأم الجامدة بصورة تدريجية بخطوة وصفية عن مسحة الخريف المزيّنة بلون المساء ممزوجا بناي الشتاء التي ترين على وجهها . كما أن في عينيها حزنا ، سيظهر أن جانبا كبيرا منه ، هو حزن " مُسقَط – projected " من أعماق الإبن ، لكن الشاعر يحدّد مصدر هذا الحزن في صورة عظيمة التعبير والـتأثير :
( وعيونها فيهن ْ حزن مثل اللي مارق
رفّ من طير البكي
ونازل ع َ حورة خدّها
من الرفّ عصفوره ْ – ص 59 ) .
إن شدّة حزن " الصورة " الطافح في عيني الأم " الختيارة " ينبع من روح الإبن المفجوعة ،  الإبن الذي حلت في عالمه اشباح الخراب بعد فقدان الأم الحبيبة التي كانت مصدر دفق النماء في حياته .. صار هشّا قابلا للكسر :
( ويوقف
يطّلع فيا ، ويبكي
ويبكي
يحسّ إنّـو صار
بعدَا دراج غطّاها العشب
وبيوت
مهجوره ْ
وإيّام
طُوْلا من قصب ْ
للريح مندوره ْ – ص 59 ) .
شعور ماحق بالإنهجار والوحدة الموحشة .. بكاء متواصل مرّ .. وإحساس بخواء مدوّ .. كلها تجعل الحياة شيئا لا يستحق أن يُعاش ، ويصبح الموت خيارا وراحة . وإذا كان الإبن المتيّم في قصيدة " منامات " هو الذي يحاول إعادة الإلتحام بالأم المتوفاة وهي في قبرها عبر سلسلة من الإستحالات الحيوية ، فإن الأم - هنا - هي التي تُعنى بابنها في حركة خرافية مدوّخة .. تُعنى به بعد موته وهي ميتة .. تعود إلى الحياة لتطل على قبر ابنها / الطفل فقط .. طفلها الأثير الذي تركته طفلا وظلّ طفلا بالرغم من نضجه ليعود طفلا ، وهو في قبره . هذا رضيع دائم برغم كبره ، افتقد مصدر البقاء الأول برحيل واهبة الحياة الأولى : الأم . الأم العظيمة الوفيّة لرباطها المقدس الذي تعاهدت عليه مع ابنها ، تكون وفيّة وفق محددات لاشعور الإبن المثبّت حتى بعد الموت :
( وماتْ
صارو ال ْ يمرقو بالليل حدّ المقبره
يشوفو ع َ قبرو خْيال
أبيض
مثل طالع ياسميني
ع َ القبر
صارو
يحسّو
في مَرَا صَوْتَا
عم ينيّم طفلْ – 60 ) .
في تلك القصيدة ، منامات ، يصبح الإبن وردة هي ذاتها التي يريد قطفها ليد أمه وهي في القبر .. فيفز من نومه باكيا .. وهنا ، في هذه القصيدة " صوره لإمّو " تصبح الأم وردة ياسمين ، والوردة في الحالتين رمز أنثوي مؤصّل . الوردة الأم تنيم وليدها في قبره ، وكأنه وُلد توّا من رحمها . بالموت يتخلّص الإنسان - وإلى الأبد - من " صدمة الميلاد " كما يقول المحلل النفسي الشهير " أوتو رانك " الذي يعدّ الموت أعلى أشكال العودة إلى الرحم الأمومي . لكن الأم هنا لا تكتفي بالنهوض من قبرها ؛ الشاعر لا يكتفي بأن يُنهضها من قبرها لتحنو على ابنها المتوفى ، بل يقدّم لنا البراهين المؤكدة على مصداقية هذا الإنبعاث الذي يحصل بعد الموت : الناس تشاهد قبر الأم فارغا في " معجزة " مدوّخة :
( يلاقو في قبر
ما في حدا
ولوحــه 
الإسم ع َ رخامها
ممحي
ومكسوره ْ – ص 60 ) .
لقد " انبعثت " من تحت التراب في عمليتي " خروج " متوازيتين ومترابطتين .. لقد كانت الأم ، في الحقيقة ، محتبسة في قبرين : الأول ترابي نهائي ضمها بعد موتها ، والثاني ورقي انتقالي ضمها في إطار الصورة ، لكنه فعل نفسي إجرائي يبغي المثكول منه الإحساس عبر الفن ، فن التصوير ، بأن الراحل مازال " معلّقا " على جدار الحياة .. فـ " التصوير" عملية " استنساخ " لأرواحنا في الحقيقة .. ألهذا كان الإنسان البدائي يُصاب بالرعب عندما يقوم مستكشف غربي بتصويره ؟ ..
ومن القبر الترابي انبعثت الأم ، وصار الناس يرونه خاليا مهجورا .. ومن الصورة " فلّت " الأم ، فأصبحوا يرونها خالية .. لقد لحقت بابنها الحبيب .. رضيعها الدائم الذي لن تتركه أبدا حتى بعد موتها وموته :
( فاتو ع َ بيتو نهار ْ ، لمّا طلّعو
مطرح م َ إمّــو
كان
علّق صورتَا
شافو على بروازها يمكن بكي
وإمّــو ال ْ مثل شمس المسا
فلّت من الصوره ْ – ص 61 ) .
تتحدث بعض الكتب الأنثروبولوجية عن قبيلة " الآسرا " البدائية التي يتعين أن يموت الواحد فيها إذا مات أحد أحبائه (5) .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟