الحديقة – قصة: حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

جالس خلف نظارتي أتأمل الحديقة. كل شيء متناسق وبديع. الأزهار تغري بالشم والقطف، والشجيرات تنتصب على حياء. في الكشك المحاذي للبوابة يضطجع بستاني عركته السنون والتجارب. يعتذر وهو يبيعك قارورة ماء أو مشروبا غازيا بأن العين بصيرة واليد قصيرة.
في الجهة المحاذية للبوابة خص البستاني ليالي الشتاء بحوض زعتر وشجيرة ميرمية، لذا صرت كل سبت من أيام الخريف أشق طريقي إلى الحديقة ليقاسمني كوب شاي، ونتجاذب أطراف حديث تتخلله الكلمات. كان يؤثر الصمت، أما أنا فضجري من الحياة يغريني بالبقاء إلى جواره.
تشكو العجوز جروها المشاكس. قابلتها مرتين أو ثلاث وهي تكسر رتابة يومها بالتنزه في الحديقة:
- أسكن في تلك البناية المحاذية لقسم الشرطة. وعدني ضابط بمسكن يحتضن ما تبقى من أنفاسي مقابل أن أتخلى له عن شقتي القريبة من مكتبه. بدا عليه التبرم حين سألته عن سنواتي الخمسين التي صرفتها هنا، كيف أنقلها إلى مكان آخر؟ صرخات أبنائي وهم يتدلون من بطني ليذوقوا طعم الحياة. وزيجاتهم التي أقيمت أفراحها هنا، والشرفة التي قضى زوجي نصف حياته وهو يحتسي شايه، ويلاعبني النرد على طاولتها الحديدية.

- وماذا جرى بعد ذلك؟
- لاشيء. صار نباح جروي يزعج الجيران، وتوالت الشكايات التي أظهر الضابط عناية خاصة بها، فكان يُسمعني في مكتبه فصلا عن حقوق الإنسان، ظاهره الرحمة وباطنه الشماتة!
تنصرف العجوز لأنفض عن قلبي حديث البشر. جئت إلى هنا مسترخيا لا رئيسا لمصلحة الشكايات. الجدير بالمسنين أن يكونوا حكمة لا نقمة. يعيش أحدهم حياته بالطول والعرض، ثم يترقب تكريما رسميا لمجرد أنه عاش!
كان مقعدي المفضل جوار بركة صغيرة، حيث الضفادع تموسق العشية بنداءات التزاوج. بدا الشاب الذي يتهيأ لامتحان التخرج متذمرا من حقيبته الجلدية فألقى بها على مقعدي.
شاب أسمر بوجه متغضن وعينين يشعان إصرارا على تحقيق شيء ما. ناولته سيجارة فاعتذر. هكذا هم أبناء الجنوب، لا يدخنون عادة إلا بعد رحيل الوالدين. كأن ضنك العيش ينقلب سياطا تجلد الصغار، فينشأ القلب وحوله ندوب لا تشفى!
أمطرت على غير عادة فلُذت بكشك البستاني. رائحة التراب تسعف ذاكرتي بشيء من الحنين. وهل التراب إلا غبار أجساد وأمنيات؟ تئن الأرض من وطأة سعينا إلى الخلود فينكفئ السحاب مثل دلو سماوي ليثير غبار الحقيقة. قال لي رفيق الزنزانة يوما أن بداخلي يرقد فيلسوف عميق. وفي السجن حيث كل صنوف البشر، قابلت بعضا من دارسيها. فلسفات بيضاء وسوداء وحتى ملونة لم تسعف هذا العالم للعيش بسعادة.
بين البركة والسياج الخلفي تنتصب أرجوحتان. وككل صباح تضج الحديقة بصياحهم وضحكاتهم وهم يتناوبون على التأرجح. أكتفي بالنظر من بعيد إلى أن تقرر الأمهات عودة الصمت إلى أرجائها. حينها أسرع الخطو باحثا عما خلفوه من نزق وسعادة.
لماذا يكبر الإنسان؟ وهل الزمان أبجدية كونية أم لعنة تلاحقه؟ كان اليوم أثقل من جلمود على قلبي وأنا أمضي عاما في المعتقل. عام واحد يصهر روحك لتشيخ بلا موعد.
على المدخل ألصقوا تنبيها مفاده أن الحديقة ستخضع لترميم يتناسب مع تصميم الحي الجديد. زفر البستاني بأسى وامتعاض لأن موقعها يسيل لعاب رئيس البلدية.
جالس خلف نظارتي أتأمل الحديقة. ريح خفيفة تكنس ما تبقى من وريقات أشجارها وضحكات صغارها، وتخدش روحي بلا هوادة.
لماذا يكبر الإنسان؟

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟