وتبقى الذكريات – قصة: أسماء العسري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

    حنين، حنيني إليك، أين المفر منه ومنك؟ فأنا أهرب منك إليك، أهرب بعيدا، وما تهرب إلا مخيلتي وراء الذكريات، فأين المفر؟ أهرب لأجد نفسي في حضن الذكريات، ذكريات قال عنها إنها زادي وملاذي في ساعات الوحدة، لأعثر عليها تتلصص على ألمي وتتفق مع الشيطان في طرح جسدي لخبايا الشر، تقدم دموعي ونزيف قلبي قرابين ليظل سيّد الشر، وتظل هي عالقة في مخيلتي، إفرازات الهوى تشدني بخيط ناظم يفصل بينه وبين ذكرياته، يمكن أن نقول عنه فن الوخز بالإبر؛ وخز يجعلك تحس بالألم في البداية؛ ثم يتلاشى شيئا فشيئا من مخيلتك الصغيرة، لكن الوخز الحقيقي الذي يوجعنا أكثر و يظل يرافقنا، هو وجع ذكرياتنا.

     هذه أول خاطرة لندى مع أفكارها، عنونتها ب: "لماذا أكتب"، وكان هذا أول تساؤل انتاب مخيلتها، و أول كلمات أثقلتها ليلة كاملة منذ أن التقت بأحمد زميل دراستها القديم، أعادت رفع القلم مرة ثانية بعد أن انتهت من مناوشاتها مع ذكرياتها، لكنها عجزت عن الكتابة، شملت جسدها رعشة رقيقة؛ رعشة الموت و الحياة، لم تجد سلواها إلا في تسليم أمرها للدموع، والمشي بخطوات مبعثرة  من اليمين إلى اليسار؛ ومن اليسار إلى اليمين، تحاول شغل أفكارها عن التفكير في أحمد، ظلت ليلة كاملة ما بين جبروت الصحوة و ميلان النوم، منتظرة بكل لهفة بزوغ شمس يوم جديد.

في الصباح الباكر خرجت ندى تهرول بين الأزقة والشوارع هائمة على وجهها مثل شخص نسي اتجاهاته، أو كأنها هاربة من شبح يطاردها، أحست فجأة بالتعب والجوع يدغدغ أمعاءها الصغيرة، فقررت العودة إلى بيتها و تناول وجبة دسمة نكاية في طيفها المجهول، ومواجهة مخاوفها، واتخاذ القرار البعيد القريب؛ القرار الذي ظل مؤجلا لسنون من الزمن؛ بسبب خوفها وانفعالاتها التي تقف حجر عثرة في حياتها.

دخلت منزلها أخيرا، وبدأت بإعداد وجبة الفطور، وحملت كالعادة إبريقها النحاسي وبدأت في صنع قهوتها المعتادة، رغم وجود آلة كهربائية لصنع القهوة، لكن ندى تحب طعم القهوة في الإبريق؛ فرائحة القهوة تساعدها على تصفية ذاكرتها، وعند الانتهاء من وجبة الإفطار الإجباري- فالجوع سيد المواقف- حملت فنجانها و ذهبت إلى غرفتها و بدأت بخط أول كلماتها لأحمد منذ ودعتها رغبة الكتابة، اليوم تكتب بارتجاف يدها و كأنها أمام جلسة الغفران.

 

  • سيدي المحترم:

لا يغرنك غرورك ويقول إني أكتب هذه الكلمات و الشوق يقتلني، و إنما لأظهر لك أن سطور كلماتي تغيرت عن الماضي؛ و أصبحت أكتر جرأة، فاليوم أنطق بلسان كثير من العقلاء الذين آلمتهم في الماضي و تركتهم لوحدتهم، الذين أحبوا ابتسامتك العريضة و كانوا يعتقدون أنك سيد الهوى.

صمتت ندى لثواني عن الأفكار المسموعة قبل أن يستسلم قلمها لطقطقات السقوط، ليس اليوم، بهذه الكلمات أكملت ندى خطابها بكلمات كالسيف في حدتها، لقد كنت تجعل مقامي أكثر ارتياحا معك، فقد تعمدت أن تزرع ذكرياتك في مخيلتي الحالمة، ذكريات مرنتها على تنظيم مواعيدها بشكل يومي مع خليلها الليلي، لتدعوه ليقاسمها السرير في الهزيع الأخير من الليل، يجلس إلى جانبها يشاركها وسادتها، من دون حتى أبسط الحقوق، وهي طلب الإذن بالدخول، تتسلل لتُدمر سلامك الداخلي إن قبلنا بهذا الاسم، فتُهب واقفة تستعد للمعركة الليلية، إما طريحة فراش المرض، أو تجلس قرفصاء في أحد أركان الغرفة تشهق مع شلالات الدموع، بشكل أولي تحسب مربعات الغرفة وتعد النجوم؛ ولو أنك لن تصل إلى عدها، يتهيأ لك أنك تفوقت على دونكشوط في عدها، وأخيرا تدخل في مناورات، تناورها و تناورك، لتتوصل إلى مفاوضة صلح لهذه الليلة، فتنام مثقل العينين، منكسر الخاطر، لكن اليوم تصالحت مع ذكرياتي، وأصبحت تساومني حتى لا تعترف بضعفها أمامي، أو تقاتل حتى الرمق الأخير، لكي لا تنسى، لكن هيهات هيهات مآلها النسيان.

و في الأخير سيدي المحترم تقبل منى مزيدا من الذكريات المنسية.

بعد أن ودعت ندى ماضيها بكلمات محسومة، من الطبيعي أن تستقبل صباحها  بالابتسامة مهداة إلى نفسها، بدل أن تستقبلها بتنهيدة طويلة، ومع أول فنجان قهوة ترى الوجه المتناسي، أو من كانت تعتقد أنه متناسي، أو هكذا كانت تُسكت أنينها، ثم بدأت تشم رائحة غليونه تفوح من المكان، لتليها رائحة عطره المخزونة في ذكرياتها، فتنكر سلطة الذكريات و تهب فيها، لتنزوي بعيدا عنها، و هي تراقبها من بعيد، تتحين الفرصة لمهاجمتها كلما غفلت ندى عن الواقع، وعندما تعود للواقع تُشغل حاسة المحقق، وتنظر في كل الاتجاهات و قلبها ينكر صوته الذي ينادي، و كله متمنيات لو يصادفه الحنين في أحد الطرقات.

هل نستسلم لحنين الذكريات؟ هكذا واجهت ندى نفسها متسائلة، لتعود لغرفتها وتلقى أوراقها و تحمل مذكراتها وتكمل مناجاتها لأصحاب الألباب:

  تخيل نفسك أنك أنت الحاضر؛ الغائب في نفس الوقت، بين حشد من الناس تُحرك رأسك، أناملك، كأنك "عروسة كراكيز"، أو وسط نقاش برلماني، و النتيجة أن الجسد حاضر و الفكر غائب، شغفك عري، ذكرياتك عري، أنينك الداخلي عري، فأين المفر من كل هذا؟ تمضى يومك كأنك إنسان آلي، ثم برمجته ليكون نقطة الهدف في ما ثم تحديده.

   هيا بنا نستيقظ جميعاً، بدل البحث عن شخصية ورقية صنعناها في مخيلتنا، أو أحضرناها معنا من مرحلة الطفولة، التي تبحث عن الأمان و تهرب من إحساس الوحدة؛ تهرب من عري ذكرياتنا التي نزعت عنا لباسنا، ابتسامتنا، قهقهاتنا، صدقنا مع دواتنا، ولتسيجنا بسياج من العوسج، لنكتشف أن الواقع مُغاير وأن ذكرياتنا صنعناها من أوهامنا بعيدا عن الشخصية الماثلة أمامنا، حُبنا كان مثل مجنون ليلى لم يجد حبه الحقيقي إلا في عالم الغياهب، وصدقنا أن الأمان في الذكورة، في قميص و بدلة، في مفاتيح ومحفظة.

    ما يجعنا عشاقا حقيقيين هي نشوتنا في تلك اللحظة، وثقتنا أن الآخر أصبح ضرورة لنا، و أن الافتراق عنه هو الافتراق عن أرواحنا، لكن هيهات بين أمانينا وواقعنا، الخوف ليس من هزة الذكريات، الخوف من الفراغ الذي بداخلنا؛ الذي يشغل وسوسات الشيطان في أننا  الوحيدين في هذا العالم منكوبي حرب الهوى، ومن صقيع مشاعرنا، هو في الأخير لص صغير يبحث عن من يحتضن وحدته، عن من يمسح دموعه، عن من يربِت على كتفيه، من عالم تركه لعزلته، لكن الأصل أن شخصا واحدا تركك لذكرياتك وليس العالم، تركك وحيدا لأنه  في الأصل لم يكن لك.

    قوتنا تكمن في مواجهة وهن شيخوخة مخيلتنا، التي صنعت لنا عالم الفراشات و العصافير، مع العلم أننا نعيش في عالم الأكاذيب، ومن خلاله يمكن أن يتحول الشخص إلى جزء، ثم إلى كل الضوء الذي ينير عتمتنا الداخلية، يشبه حالة تيه بلا نهاية، عري الذكريات جلادي في مواجهتها، ومن تقبل الواقع و ليس الخيال، كلنا مجانيين الهوى، لكن لسنا ضعفاء لنستسلم لحنين ذكرياتنا، وداخل كل واحد فينا شخصية دفينة متمردة على الاستسلام كنهاية، وبدل ارتداء ملابس الحداد على احزاننا، لنرتدي ملابسنا بمقاسنا و بفخر، فأزمتنا أزمة روحية بالأساس ولا بديل للوسطية.

في الأخير تقبلوا مني يا أصحاب العقول أصدق المحبة و المودة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟