تَنْبيهات (4): عبد القاهر الجرجاني ومعارك محمد العمري - البشير النحلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"وكذلك العلوم كلّها يوضع منها في مبادئ أمرها شيء يَسيرٌ، ثم يزداد بالتّدريج إلى أن يستكمل آخرا"[1]

فاتحة:

   تتبّعت في المقالات الثلاثة السّابقة ما قاله العمري عن مرحلة البلاغة العامّة في «المحاضرة والمناظرة» دون أن أخوض في التّقسيم الّذي قدّمه وبنى عليه. وقد كان ذلك مراعاة لحقّه في اختيار زاوية التّناول ومنهجه وإجراءاته وأجهزته من أجل تقديم تصوّره للمسائل التي يضعها موضع المباحثة. لذلك قدّمتُ تتبُّع أقواله الشّارحة التي يُفْتَرض أن يُبَرِّر أَثناءَها ذلك التَّقسيم. وقد تبيّن أنّ فيها تَخْليطاً لا يوصل إلى بناء تصوّر وجود بلاغة عامة عند السّلف بصفات وسمات ستُختزل من قِبَلِ الخَلَف بعدهم. لذلك، قدّرت أنّ الانتقال من تتبّع الفقرات التي خصّصها لـ"بلاغة الانتشار" إلى تتبّع الفقرات الّتي أدارها حول ما سَمّاه "بلاغة الانحسار" يسمح بالوقوف عند تقسيمه وتسمياته، خاصة أنّ أساليب المواربَة ظهرت في عناوين الفصول والفقرات نفسها. ومن أجل ذلك أقدِّم، كالعادة، كلامه بنصِّه قبلَ مناقشته.

1.    تقسيمات وتسميات محمد العمري:

    يقول محمد العمري:

  «تَنْتمي البلاغتان إلى زمنين، بل أنموذجين مختلفين: نُسِبَ الأوّل للمتقدم زمنا ومكانة، للمؤسس الفعلي للبلاغة العربية، عبد القاهر الجرجاني، ونُسب الثاني تلقائيا للقزويني صاحب تلخيص المفتاح للسكاكي الذي يعتبر، بدوره، قارئا ملخصا للجرجاني.

زمن الجرجاني هو الزمن الذي تفاعلت فيه مذاهب ونزعات بلاغية: شعرية وخطابية، تخييلية وتصديقية، أما «زمن» القزويني فهو الزمن الذي تناسلت فيه شروح وتلخيصات وحواش لشعب واحد من شِعاب البلاغة، وفرع واحد من فروعها. والمقصود بالزمن هنا الأنموذج، paradigme. زمن الجرجاني هو زمن الانتشار، في حين أن زمن القزويني هو زمن الانحسار، بمعنى الانكماش)»[2]

2.    مناقشة التقسيم:

   يُفرِّق العمري بين بلاغة الانتشار وبلاغة الانحسار؛ ويحشر في الأولى "مجموع الاجتهادات التي ساهم بها المنشغلون بالخطاب الاحتمالي المؤثّر من زوايا عديدة: البديعيون ونقّاد الشّعر، والبيانيّون وعلماء الخطابة، ومنظّرو الإنشاء والكتابة، وقرّاء نظريتي الشّعر والخطابة عند اليونان، من بداية التفكير البلاغي إلى القرن الخامس الهجري، بل حتّى السّابع منه، حيث كان حازم آخر المجتهدين (ت 684ه/1228م) »[3] ويضع في الأخرى المقلّدين المكرّسين  الّذين «كان القزويني (ت739ه/1338م) أولـ»هم لاعتماده هو الآخر «على المادة البلاغيّة الّتي انتقاها السكاكي (626ه/1228م) باعتبارها مكوّنا من مكونات «علم الأدب»، في كتابه: مفتاح العلوم [4]». فيُلاحَظ:

أنّه يوسِّع مجال المعطيات ليشمل كلّ تفكير  يكون الخطابُ موضوعا له أيّا كانت مقاصده والمجال المعرفي الّذي تمّ في إطاره، في فترات متفاوتة تتوزّع فيها الانطباعات والملاحظات الأولى الممهّدة لتشّكل العلم (يسميها بداية التفكير البلاغي) والأعمال البلاغيّة التي توافرت لها  كفاية وصفية وتحليلية معتبرة ومشروع نظري وضعه صاحبه في مستوى مختلف (حازم) من ناحية ثانية؛ ويُسقِط، بالمقابل، بعض ما صنفه أصحابه في إطار البلاغة بدعوى اختزاليّته وتقليديّته وتكريسه لسيّادة "شعب واحد من شعب البلاغة". وهذا تقسيم يسير فيه العمري نفسُه وفق "تقليدٍ" راسخ ليس فيه ما يدلّ على تفكير ورويّة، خاصّة عندما يُسْقِطُ على ذلك التّقليد مشْكلةً من خارج البلاغة العربيّة، هي ادعاؤه حدوث اختزالٍ فيها جعلها محصورة في "شِعْب" واحد من شعابها. وشرحه نبسطه في النقاط التالية:

  • الإعلاء من قيمة تسجيل الانطباعات والملاحظات الأولى الدّالة على "بداية التفكير البلاغي" وإلقاء جهود بلاغيّة اعتمدت "التّقليد" إلى خارج البلاغة إجراء يفتقد المبرّر العلمي في السّياق الّذي يتحدّث فيه العمري. ذلك أنّ كتاب "المحاضرة والمناظرة" ليس كتابا في التّأريخ للبلاغة حتّى يقرّر النّقطة التي يبدأ منها والنّقطة التي يتوقّف عندها، وليس في مقام إنشاء بناء علمي خاصّ يقرّر فيه ما يسعفه في ذلك البناء من تاريخ البلاغة وفق ما تستلزمه أطروحته ومقاصده منها..إنّه في سياق مناقشة علميّة. لذا، فليس يحقّ له بأيِّ وجهٍ أن يوسّع ويقلّص مجال البلاغة وفق ما يهوى، ويقول: البلاغة هي هذه التي عندي. فهذا ليس من التّبرير العلمي في شيء؛ خاصّة عندما يستحضر الانطباعات ويسقط أعمال بلاغيين تصدوا لتبويب وترتيب وشرح بلاغة الجرجاني، أو تصدوا لتلخيص مفتاح السكاكي بمحاولة تخليصه من "الحشو والتّطويل والتّعقيد" و"إيضاحه وتهذيبه وتحقيقه"[5] أو حتّى لشروح التّلخيص الكثيرة التي بلغ طموح بعضها أن حاول استيعاب كل الجهود السّابقة عليه في مجال البلاغة، كما حاول فتح "الحدود" لاستثمار علوم مجاورة قدّر أنها نافعة لإكساب مجاله العلمي أسباب النّجاعة في حل المعضلات والدّقائق! [6]
  • تناسي ما يطبع المراحل الأولى لنشأة أي علم من امتزاجه بعناصر كثيرة لا علميّة تحتاج إلى التّصفية في مرحلة الصياغة والبناء. والجرجاني من مؤسّسي البلاغة في حقل الثّقافة العربية، أو هو مؤسّسها الفعلي وفق الكثيرين منهم العمري؛ لذلك فـبلاغته مفتوحة. وقد عرف القدماء ذلك قبل المحدثين، وإذا كانوا قد قَرّظوا صاحبها وأشادوا بكتابيه فإنهم، بالمقابل، شدّدوا على افتقار ذينك الكتابين إلى التّبويب والتّرتيب والتّهذيب والتّتميم، وقالوا إن صاحبهما كان "واسع الخطو"[7]. ممّا يعني أن بلاغته ظلّت ملتبسة ومنفتحة؛ لأنّ لغة أي علم ومفاهيمه ومصطلحاته وتعريفاته لا يمكن أن تستقرّ بَعْضَ الاستقرار دَفعةً ومنذ البداية. وهذا بالضبط حال البلاغة، وهو ما ولّد الحاجة إلى جهودٍ لاحقة تُنَسِّق وتدقِّق وترسِّخ التّقليد العلمي وتسعى للانتفاع به وحلّ المسائل الّتي كانت تشغل أصحابها في إطاره. فليس مستغربا أن ينزع البلاغيون في مرحلة العلم العادي – إذا استعرنا تعبيرا من ابستمولوجيا كوهين- للمحافظة على الإبدال العلمي الذي يؤسِّسون عليه أعمالهم واستثمار ممكناته، وتعزيز سلطته؛ وليس مستغربا، أيضا، أن يتبع ذلك ابتعاد عن مناقشة الأسس والقبليّات التي أقام عليها الروّاد تلك البلاغة[8].
  • لأجل ما سبق يصعب قبول الفصل بين النّصوص المؤسّسة للتّقليد العلمي وبين النّصوص المختلفة المستويات المتنوعة الغايات الدّائرة في فلكها بدعوى تقليديّتها[9]. وإذا كان من يقول بالفصل ويعمل على فرضه إنما يتّبعُ غيره في ذلك ويكرّره من دونِ فحص[10]، وكان هو ومن يقلّد لا يخرجون هم أنفسهم عن التّقليد البلاغي الّذي يُجرون فيه عمليات الانتقاء والتركيب، فإن الأمر لا يعدو أن يكون تنافسا في شرح "النصوص المؤسّسة" بين أعضاء جماعة التّقليد الواحد. وهذا مما لا ينبغي –في تقديري- التردّد في الوقوف عنده والتّنبيه عليه. إذ كيف يستقيم، مثلا، قبول إزاحة العمري لأيٍّ من البلاغيين، خاصة من الأولّين ممّن سبقوه إلى الإعلاء من منجز المؤسّسين وانتدبوا أنفسهم لتنسيقه وتقريبه وتحقيقه وتهذيبه والإضافة إليه والتّجديد فيه؟[11] يبدو لي أن إجراء الفصل بين النّصوص المؤسّسة والشّارحة –حتى إذا صح أن هذه شارحة على نحو حصري- إجراء غير موفّق، وساقط لا محالة في موقف سلفي عقيم، يلغي التّاريخ ويرتبط بالنّصوص المؤسّسة في مجال البلاغة على نفس المنوال الّذي ترتبط به السّلفية بالنّصوص المؤسّسة في المجال الدّيني: يلغي البلاغي ما لا يناسبه أو ما لا يحتمل الصّبر على تتبّعه واستيعابه ويلقي به إلى خارج البلاغة، لكي يعلن عودته إلى الأصل والنّبع، ويستخرج البلاغة "الحقيقية" و"الصافية"! وهل تعوزه الأدلة غير المؤسَّسة؟
  • لكن العودة إلى المؤسّسين وحدهم بإغراء من التباس نصوصهم وانفتاحها لا يمكن أن يُنْتِج إلّا تنويعات أخرى في الشّرح والتّنسيق والاستدلال على صلاحية بعض المفاهيم وإيراد شواهد الأقدمين مع بعض الإضافة والتّبديل في أحسن الأحوال وإضافة ذلك وغير ذلك إلى الإبدال القائم. هذا بالضّبط ما يوسِّع المسافة بين واقع البلاغة وواقع الخطاب. ومن البيّن أن ذلك يغيب عن أفق العمري الّذي ينطلق من مسلمات القدماء و مبادئهم ويستعمل مفاهيمهم، فلا يأتي إلا بتنويع غير نافع لا يبلغ شأوَ الشّروح الّتي يهاجمها ويخرجها من "جنة" البلاغة، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار الفارق الزّمني بينه وبينهم.
  • والعمري يقف بالبلاغة هنا عند عبد القاهر، ويذكر معه حازما، ويدفع بالسكاكي إلى خانة الملخّصين وإن التمس له العذر على نحو مثير (يأتي بيانه في مقالة قادمة).كأنّ العمري لم يتصفّح حقّ التّصفّح هذه الكتب التي يلقي بها إلى خارج البلاغة، ولم يقرأ ما يقوله غيرُ مَنْ يسير في إثرهم حذو القدة بالقدة. يقول محمود شاكر من التّراثيين: «لقد كانت هذه الكتب جميعاً مُنْذ السكاكي إلى الدسوقي، تقعيدا لبعض ما كتبه عبد القاهر في كتابيه في البلاغة، فهو أوّل من أسّس علم البلاغة تأسيساً بالغ الدقّة، وَمَنْ طلب البلاغة منهما وَحْدهما، فقد وقع في بحر تتلاطم أمواجُه، راكبُه على غَرَر الغرق. والذي يضمنُ لراكبه النجاة هم الذين قعَّدوا قواعدَ علم البلاغة، وكتبوا الكتبَ والحواشيَ وضمنوها درراً لا يُعْرض عنها إلاّ جاهل، ولا يذمُّها ويحثُّ الناس على الإعراض عنها، إلا من استهان بالعلم والعلماء، ولا يُحَصّل طالب العلم من ذمِّهم إلاّ «الاستهانة» دون العلم.

   وكتابا عبد القاهر: «أسرار البلاغة » و«دلائل الإعجاز » أصلان جليلان، لم يسبقهما سابق ممن كتب في البلاغة، وهما كـ« كتاب »   سيبويه بل أشدُّ صعوبة، فمن أرادَ اليوم أن يردّ الناسَ عن كتب المبرد ومَنْ بعدهُ إلى ابن عقيل، إلى ابن هشام إلى الأشموني، ويحثَّهم على استمدادِ النحو من  « سيبويه » وحده، فقد أغراهم بأن يلقوا بأنفسهم في بحرٍ لجّي لا يرى راكبُه شاطئاً يأوي إليه، وما هو إلاّ الغرق لا غير. « كتابُ » سيبويه لا يعلِّم طالبَ العلمِ النحوَ، إلاّ إذا مهّد له الطريقَ ابنُ عقيل وابن هشام والأشموني، وإلاّ فقد قَذَف نفسه في المهالك»[12]

  • ما سبق يجمع العمري بـغيره ممن يتّبع في القول بواجب حذف تاريخ كامل من التأليف من مجال البلاغة. يبقى أن نسأل عن إضافته المتفرِّدة الغريبة المتمثّلة في استيراد مشكلة خاصة بسياق ثقافي مختلف وإلصاقها بالبلاغة العربية، حين يزعم حدوث اختزال فيها جعلها محصورة في "شِعْب" واحد من شعابها. يقول «زمن الجرجاني هو الزمن الذي تفاعلت فيه مذاهب ونزعات بلاغية: شعرية وخطابية، تخييلية وتصديقية، أما «زمن» القزويني فهو الزمن الذي تناسلت فيه شروح وتلخيصات وحواش لشعب واحد من شِعاب البلاغة، وفرع واحد من فروعها». لا ينبغي أن نقرأ مثل هذا الكلام دون أن نتساءل بالجدية اللّازمة عن "شِعاب"! البلاغة التي أسقطها البلاغيون الذين نسبهم إلى "زمن القزويني" ما هي؟ أسقطوا "النزعات" الشعرية التخييلية أم النزعات الخَطابية التصديقية؟ يجيب العمري بأنهم "أقصوا السؤال الشعري وأخفوا ملامحه ونعوته"[13]، وهو حكم مبني على مقدمات لا يقبلها الحدس ولا تثبت عند تشغيل آليات التلقي الدينامي والمعرفي لتأمين استدلال منطقي يُعتدّ به. نؤجل مناقشة مقدمات ذلك الحكم إلى مقالة قابلة نُخَصّصها لما قاله عن السكاكي؛ وأكتفي هنا بالتّساؤل عمّا كان مِنْ أمر مَنْ "أقصوا السؤال الشعري وأخفوا ملامحه ونعوته" هل غيّروا -على ما في الأمر من مفارقة- وجه عنايتهم إلى الخطابة التي يقول العمري نفسه في سياق آخر إنها «نشأت في محيط شعري»[14] فاحتل فيها الأسلوب الصدارة مما جعل البلاغة العربية لا «تميز بين الشعر والنثر إلا في بعض الجوانب مثل عدم التزام الوزن أو التطرق إلى موضوعات دون أخرى»[15]. لا يبيّن العمري الجهات التي تسمح له بالجمع بين الرأي وضده. هذا ومن سبقوا العمري من النّاقدين للسكاكي ومَنْ بَعده من الملخصين والشّراح والمحشّين حمّلوهم مسؤولية الجمود والجفاف والعقم، ولم يقولوا إنهم أسقطوا "شعابا"! كانت عند المؤسسين واحتفظوا بشعب واحد. الفرق بين ذلك القول وما يدعيه العمري من "اختزال" لا ينكر ولا يكفر. والمسألة، عنده، مُجرّد إسقاط لما قرأ عند جيرار جنيت. وجيرار جنيت كان ينظر لما حصل للبلاغة القديمة (أرسطو وكنتليان بعده) مع موت المؤسّسات الجمهورية في بداية العصر الوسيط الذي أدّى إلى اختفاء الخطابة الاستشارية والاحتفالية المرتبطة بالمناسبات الكبرى للحياة المدنية؛ ثم اختلال التوازن بين الإيجاد والتأليف والبيان، واتجاه البلاغة التي توزَّع مجال فعلها ما بين النّحو والجدل إلى الاقتصار على دراسة محسنات الخطاب[16]؛ بل وإلى اختزال المحسنات نفسها اختزالا مفقِّرا وصل، بعد فونطانيي ومع الشكلانية الروسية،  إلى حد إرجاعها كلها إلى محسنين اثنين هما الاستعارة والكناية، بل وجعل الأولى تبتلع الثانية عندما أصبحت، عند البعض(بروست)، مساوية للبلاغة[17].
  • ولا بد أن أشير إلى أنّ من ينخرط في التّقليد العلمي بذهنية سلفية وكلامية لا تضع في الحسبان تاريخية المعرفة، بل، وتلغي جهود الغير ممن ينتمي لنفس التقليد في حلّ المسائل التي يتيحها ذلك التقليد وداخل الرؤية التي يؤطرها ويرسم حدودها، أقول كل من ينخرط في التقليد العلمي بتلك الذهنية يَقَعُ في ما لا يمكن أن يبرّر علميا، ولن ينتظر منه ما يمكن أن يُعْتدّ به ويؤبَه له. وهل يمكن أن يقارن موقفه وعمله حتى بمن ينخرط في نفس التقليد بأفق رحب، يعترف بجهود من اشتغلوا في المجال قبله ويناقشهم الحسابَ ويعملُ على تمتين تقليدهم المشترك بالاعتقاد والانتقاد والتّوسيع واستخراج ما قد يكون فات غيره وظلّ مطويا لم ينتبه إليه أحد قبله ؟[18]
  • ولنلاحظ، أخيرا، أنّ البلاغة عند العمري، في هذا الكتاب، تمتد من بداية التّفكير البلاغي إلى القرن الخامس الهجري، ولا يستعمل صيغة الإضراب ويمدِّد الفترة إلى القرن السابع إلا ليشير إلى حازم القرطاجني[19]. لماذا؟ لأنه لم يعد بإمكان أحدٍ حتى غلاة النّزعة المركزية مِن الدائرين حول المشرق أن يتجاهله . أنظر الصيغة: "..من بداية التفكير البلاغي إلى القرن الخامس الهجري، بل حتى السّابع منه، حيث كان حازم آخر المجتهدين 684ه/1228م)". كان يمكنه -على الأقل- أن يقول "إلى القرن السابع" مباشرة، ودون استعمال صيغة الإضراب، خاصة أنّه في مجال الكتابة، وليس في محاضرة أو مناظرة شفوية. الصيغة مقصودة لترسيخ ما تم الإضراب عنه، وتحمل دلالة تسامحه في إدخاله حازم إلى البلاغة كما يتصوّرها. لكن ما فائدة ذكر حازم إذا ما تمّ أدراجُه في سياق الجرجاني، وفصلُه عما يُعرَف بين المهتمين بالتيار البلاغي المنطقي في المغرب والأندلس[20]. لو خرج العمري من أسر هذه "المناجزة" التي خاضها من أجل فرض طريقته في الفهم والإدراك لتذكّر، من بين أشياء أخرى، بعض ما سطره محمد مفتاح في «التّلقي والتأويل، مقاربة نسقية» وفي «مشكاة المفاهيم، النقد المعرفي والمثاقفة» ولتحقّق من تعقّد وتفاوت الفكر البلاغي، ولما غاب عنه أن هناك مدرسة مغربية بخصائص معتبرة تجمع بين الرّواية والدّراية كان لتغييبها آثار فادحة على الفكر، وأن الاتجاه المشرقي الموفِّق «المدعوم بتحولات اقتصادية وسياسية وثقافية حدّ من فعالية الاتجاه المنطقي الرياضي ومن انتشاره، وحوله من آليات وضبط للظواهر وتصنيفها والربط بينها إلى مجرد محفوظات تعليمية مغيبة أبعادها الأنطولوجية والمعرفية والاستكشافية[21]»!
3.    مناقشة التسميات:

   أوضّح في البداية أنّي لن أعيد في مناقشتي لهذه التّسميات ما سبق أن أثرته بخصوصها في سياق النّظر في المحتويات التي وضعها العمري تحتها، بل سأقف عند التّسمية في حدّ ذاتها. وأنبّه، أيضا، إلى أنّي أستعمل كلمة التسمية وليس المصطلح لقناعتي بأنّ الخلط الّذي يقع فيه العمري في استعماله لهذه الألفاظ موضوع المناقشة هنا، والالتباس الّذي يلحقها نتيجة ذلك يجعلها لا تؤدّي وظيفتها التّبليغيّة البسيطة، بلهَ أن تكتسب مفهومات دقيقة ترفعها لتتميّز وتصير مصطلحات قادرة على أنْ تجعل خطابه خطابا علميّا يعتمد العبارة المضبوطة. لنتابع:

1.3. الزّمن/ الأنموذج/ paradigme :

الزّمن: يقسّم العمري البلاغة العربيّة إلى بلاغتين، ينسب الأولى إلى عبد القاهر الجرجاني والثّانية إلى القزويني باعتباره امتدادا للسكاكي. يقول إنّ البلاغتين تنتميان إلى زمنين مختلفين. قد يذهب الظّنّ إلى أنّه يصطنع زاوية تاريخيّة يرتّب من خلالها معطيات البلاغة العربيّة على خط الزمن بتحديد السابق واللاحق وفهم «السابق من اللاحق واللاحق من السابق»[22]كما حاول ذلك في "البلاغة العربية.."، بيد أنّ الأمر بعيد عن ذلك، وغريب من كل وجه. لماذا؟ لأنّه يأخذ فترة الجرجاني نقطة تاريخية مركزيّة تنتهي إليها كل الاجتهادات السّابقة في قضايا البلاغة ومسائلها، وترجع إليها أعمال معيّنة من التاريخ اللّاحق، ويُسقط من هذا التاريخ اللّاحق مؤلّفات بلاغيّة كثيرة. إنّ العمري يُشكِّل هنا تاريخا خاصّا: فمن الجرجاني ينبثق التاريخ وإليه يعود، والحركة قبله وحوله وبعده مُسخّرة له. بل إنّه لا يقنع إلا باستعمال مفهوم "الزمن" ونسبته إلى بلاغتين! ولأن إحدى تلك البلاغتين يطبعها التقليد والاختزال، فإن الأخرى –بلاغة الجرجاني- تصير البلاغة بصيغة الإطلاق، فتنقلب العلاقة بينها وبين الزمن: فإذا كان الجرجاني وما أنتجه في البلاغة إنّما تمّ في إطار الزّمن وفي مجراه الّذي لا يمكن أن يتأثّر بما يقع فيه، بلهَ أن يشرطه، فإنّ ذلك لا يمنع العمري من نسبة الزّمن إلى الجرجاني وبلاغته.  وبالطبع، فإنّه يتوقّع اعتراض القارئ، فيجيب قبليّا: إنّ المقصود بالزّمن هو الأنموذج. وهو خلط شنيع وضارّ، لأن الأحداث تقع، والأفعال تُنْجز، والنّماذج تُصاغ في الزّمن. ولا نحتاج إلى أن نسأل لماذا يستعمل "الزّمن" ويقصد الأنموذج، رغم أنّه أعلن العزم في بداية كتابه على أنّه سيأخذ بحزم الخبير المختصّ الّذي يستعمل العبارة العلميّة المضبوطة.  يكفي أن ننظر في ما إذا كان سيسعفه قوله إن المقصود بالزّمن هو "الأنموذج"؟

   أنموذجُ الشيء مثالُه، أوْ قُل: الأنموذج عيِّنة ممثّلة لمواد هي بمثابة نُسَخ. وبقدر انطواء تلك النّسخ على مميّزات المثال تُعتَبر جيّدة وتُنسَب إليه. فهل يكون حازم القرطاجني أقرب إلى الجرجاني إلى حدٍّ يفرض تخطي جمعه معه إلى نسبته إليه[23]، ويكون القزويني بعيدا عنه بُعْدا يجعله مثالا مستقلّا يدور عليه غيره ويحاكيه؟ لفظ الأنموذج هو الآخر غير مسعف، ويضيف مزيدا من اللّبس إلى لفظ الزّمن. فهل يتوضّح ما يقصده العمري بإيراد مقابلٍ أجنبي للأنموذج؟ يقول: «والمقصود بالزمن هنا الأنموذج، paradigme».

   للفظ paradigme مقابلات أخرى غير الأنموذج،  وشبكته الدّلالية تتجاوز المقابل العربي الّذي ارتأى العمري أن يضعه له. لذلك فإيراد هذا اللّفظ الأجنبي -الذي يرتبط بالإضافة لمعناه العام بمعاني ترجع  إلى النّحو واللّسانيات والابستمولوجيا- لا يصدر عن قصد إلى التّبيين. ذلك أن معناه العام و معناه في مجال النحو يمكن أن يستوعب في "المثال" أو "النموذج" أو "الأنموذج"، أما في اللسانيات فبعيد، ولا علاقة له بالسياق. لتبقى دلالته في حقل الابستيملوجيا، فقد صار هذا اللفط مصطلحا محوريّا فيها منذ صدور كتاب "بنية الثورات العلمية"[24]. لكن  محمد العمري يضع في مقابله "الأنموذج" ويُبْعِد "الإبدال"، وهو المقابل الغالب في استعمال المهتمين والمختصين، وذلك حتى يسدّ الباب في وجه أي تحقيق.[25] لماذا؟ ببساطة لأنه لا يمكن أن يسعفه في ما يذهب إليه، بل إنه، بالعكس، يكشف تمحّله في التّصنيف الّذي أتاه: فالقزويني ومعه كلّ الملخصين والشّراح بعده يدخلون بموجب ما يؤاخذهم عليه العمري في نفس الإبدال، فيكون العمري بلغ الغاية في قلب المفهوم عندما يوهم بأنّ الـ paradigme يمكِّنه من فصل الشّارح عن المشروح والملخِّص عن الملخَّص والمقلِّد عن المقلَّد. ولست هنا بصدد تقديم مفهوم الـ paradigme الّذي يقترح حمو النقاري أن يُصْطلح عليه في العربية بـ"المِقلاد"، ويوضّح، في إثر كوهين، أن التّطور في حقل العلم يكون: «تطورا داخل المقلاد الواحد وتطورا بإبدال مقلاد بمقلاد..»[26] وهي عبارة بالغة الدّلالة صددَ ما نحن فيه.

2.3. البلاغة العامة وبلاغة الانتشار:

  يصعب الكلام  علميا في مجال اللّغة والخطاب -كما يلحّ على ذلك اللّسانيون- خارج إطار النّظرية، لأن غياب النظريّة يضاعف الالتباس ويوقع في الوهم. والعمري هنا يسير بدون إحداثيّات، ويطلق الكلام جزافا في موضوع شاسع ومتعدّد المستويات وشديد التّعقد والتّباين والتّفاوت. عنوان كتابه بصيغته التّامة هو: «المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة» في الجزء الأعلى من الغلاف الأوّل؛ وأسفل الصّورة من نفس الغلاف: «مواجهة بين زمن الجرجاني وزمن القزويني». البلاغة –ولنترك وصف العامّة جانبا- مجالٌ لتنافس النّماذج، وهي باستمرار مشروع للبناء وإعادة البناء لمن يمتلكون القدرة والكفايات؛ لذلك فالسّعي إلى البناء (أو الإسهام فيه) بالمحاضرة والمناظرة فعل محمود، سواء انطلق مَنْ ينتهض لذلك البناء أو الإسهام فيه من التّراث البلاغي، أو عمل على القطع مع التراث والاستناد للمعارف المستجدّة. لكن العنوان الفرعي الموضوع أسفل الغلاف والذي أوردته أعلاه يحمل منذ البدء الجرثومة التي ستستشري في تفاصيل ما سطّره المؤلِّف في هذا الكتاب وتُفسده؛ فعوض مسعى التّأسيس المعلن عنه في العنوان الرئيسي، ينزلق المؤلِّف إلى ادّعاء وجود بلاغتين مختلفتين ومتواجهتين: الأولى نسبها للجرجاني والثانية للقزويني. وهو انزلاق بالغ الخطورة، يترك خلفه إدراك طابع التّشييد والبناء، ويَقَع في وهم اكتشاف واقع بلاغي موجود قبليّا ينتظر الإظهار والتّجلية بما يستتبعه ذلك من وثوقيّة ضارّة بوجوه كثيرة. لعل أهون تلك الوجوه الإصرار على أنّ بلاغة الجرجاني عامّة ومختزلة، وقد أوضحناه فلا نعيده. المنطلق عنده هو أنّ البلاغة العربيّة تعرضّت للاختزال، وهذا يقتضي أنها كانت عامة! إذن البلاغة العربيّة نشأت عامّة، بدليل أنّها كانت منتشرة في النّحو والنّقد وعلم الكلام والفلسفة..! وهو "المنطق" الذي سار بالعمري  إلى المطابقة بين البلاغة العامّة وانتشار البلاغة في فترة الجرجاني. ولأنّ هذا الكلام لا يقوم حجّة على تعرّض البلاغة للاختزال، يعمد العمري إلى تعداد روافد بلاغة الجرجاني، وإلى جعل بعض البلاغيّين المتأخّرين عنه محسوبين عليه أو على "زمنه"! هذا السّلوك البحثيّ المجافي للنّزاهة والدّقة لا يمكن أن يتجلّى إلا في عبارة مائعة وضارّة من كلّ وجه: البلاغة العامة هي بلاغة الانتشار، وهي روافد لبلاغة الجرجاني التي تواجه بلاغة «زمن الانحسار، بمعنى الانكماش»!

خاتمة:

   فَيَظهر أن محمد العمري بنى كتابه "المحاضرة والمناظرة" على تقسيمات وتسميات لم يشحذ لها مِنَ العزم والفهم ما يجعلها تكتسب شيئاً مِنَ الدّقة والاستقامة، فجاء فيها بِشناعات تجعل الإعراض عن الكتاب أولى من التشاغل به. فقد فرّق تَفْريقاً حاسماً بين قسمين من البلاغة من غير دليل يُعقَل، وجعل القسمين إبدالين مختلفين متواجهين؛ ولم يوفِّر لخطابه الذي يقدّم به ذلك أدنى ما يدّعيه من التّحْقيق والضّبط، ولا حتّى من  "الرمزٌ والإيماء والإشارة في خفاء"!؛ فَنَتَعَجّب لهذا التّخليط والتّشويش الّذي لا يسوغ في شِرعة علمٍ ولا أدب!

(يتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

 

  • بالعربية:

◘ أبو محمد القاسم السجلماسي: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، ط. 1، 1980.

◘ ابن الزملكاني: التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن، تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي، دار العاني- بغداد، ط. 1. 1964.

◘بناصر البعزاتي: الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية، دار الأمان- المركز الثقافي العربي، 1999.

- حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3،  1986.

◘ حمو النقاري: أبحاث في فلسفة المنطق، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013.

◘ جلال الدين القزويني: تلخيص كتاب مفتاح العلوم للسكاكي،  ضمن "المطول في شرح تلخيص مفتاح العلوم" للتفتازاني، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 2، 2007.

◘ عبد الجليل ناظم البلاغة والسلطة في المغرب، دار توبقال، 2002.

◘ عبد القادر الفاسي الفهري: اللسانيات واللغة العربية، نماذج تركيبية ودلالية، الكتاب الأول، دار توبقال، ط.3، 1993.

◘ عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، ط. 1،1991.

◘ عبد الله صولة: «البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة (الحجاج)»، ضمن مؤلف جماعي من إعداد وتقديم حافظ إسماعيلي علوي: «الحجاج، مفهومه ومجالاته »، الجزء الأول: حدود وتعريفات،  عالم الكتب الحديث-إربد، ط.1، 2010.

◘  محمد العمري:    • البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.

  •   في بلاغة الخطاب الإقناعي، إفريقيا الشرق، ط. 2. 2002.

  •   المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017. 

◘ محمد مفتاح:     التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، ط.2، 2001.

  •    مشكاة المفاهيم، النقد المعرفي والمثاقفة، المركز الثقافي العربي، ط. 1، 2000.

  • بالفرنسية:

◘ Gérard Genette : Figures 3, Édition du Seuil, 1972. Ouvrage numérisé en partenariat avec le Centre National du Livre  fr. 
◘ Thomas  s. kuhn: structure des révolutions scientifiques, tra.  Laure Meyer, Flammarion, 1983.

الهوامش:

[1]- ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر، ص. 44.

[2]-  المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 13-14.

[3] - يُقارن بما يقول محمد مفتاح: « إن الثقافة المغربية اعترتها انتكاسة بعد القرن الهجري الثامن (ق8). وشعورا من المعلمين [المتعلمين وردت في الكتاب] بهذه الانتكاسة  بدأت تظهر لديهم مؤلفات هي عبارة عن موسوعات تعليمية غير متخصصة، شبيهة بمثيلاتها المشرقية والأندلسية». أنظر تقديمه لكتاب عبد الجليل ناظم: البلاغة والسلطة في المغرب، ص. 10.

[4]-  نفسه، ص. 13.

[5]-  جلال الدين القزويني: التلخيص، ص. 14.

[6]-  يقول عبد الجليل ناظم «لا يكفي أن نربط الشروح  بعصور «الانحطاط» لننفض يدينا متخلصين من ماء الغسيل والرضيع كما يقال. إن الأسباب التي دفعت الباحثين في عصر النهضة للدعوة إلى هجرة الشروح وحواشيها «الغامضة العكرة»، والرجوع بالبيان إلى أصوله الصافية مفهومة في السياق التاريخي والتعليمي الحديث، لكنها تحجب عنّا تراثا يعتبر تطورا وجزءا من الثقافة العربية». أنظر: البلاغة والسلطة في المغرب، ص. 23-24.

[7]-  يقول ابن الزملكاني: «ولم أجد فيه من المصنفات إلا القليل مع أنها مشحونة بالقيل والقال، ومن أجمعها «دلائل الإعجاز » للإمام العالم، الحبر النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني رحمه الله، فإنه جمع فأوعى وقال فأوعى، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهدم سور المعضلات بالتسوير المشيد حتى عاد أسهل من النفس وأصحب للفهم من الضوء لشهاب القبس في الغلس، فجزاه الله خير الجزاء، وجعل نصيبه من أوفر الجزاء. غير أنه واسع الخطو كثيرا ما يكرر الضبط، فقيد للتبويب، طريد من الترتيب، يمل الناظر ويعشي الناظر. وقد سهل الله تعالى جمع مقاصده وقواعده وضبط جوامحه وطوارده مع فرائد سمح بها الخاطر، وزوائد نقلت من الكتب والدفاتر. هذا وإن تأليفه وقع في أيام قلائل مع كثرة العوائق والشواغل» أنظر: «التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن»، ص. 30.

  

[8]- يخصص  كوهين الفصل الأول والثاني والثالث للعلم العادي، أنظر الصفحة 29 وما بعدها:

-Thomas s. kuhn: structure des révolutions scientifiques, tra.  Laure Meyer.

[9]- ماذا سيبقى من كتب محمد العمري نفسه إن أسقطنا بعدها الشارح المقرّب للبلاغة القديمة بالترتيب والتنظيم غير الإسقاطات التي ترفع تصورات ومفاهيم القدماء لمستوى الحقائق المطلقة التي تتعالى على الزمان، وهو ما قد نعود إليه ببعض التفصيل.

[10]- يُنْكر محمود شاكر ما قاله تلامذة الشيخ محمد عبده، وخاصة الشيخ رشيد رضا والشيخ البرقوقي في حواشي إمام البلاغة في عصره السعد التفتازاني (712-791ه) على الخطيب القزويني من أئمة علماء البلاغة في أوائل القرن الثامن (666-739ه)، مشدِّدا على أن ما قالوه جميعا «يحملُ قدراً بالغ الشناعة من «الاستهانة» بعقول الماضين من العلماء وأقدارهم»، ثم يتساءل متعجباً: «وليت شعري، ما يقولون  إذن في «عروس الأفراح، شرح تلخيص المفتاح » للبهاء السبكي(719-793ه)، وفي ابن يعقوب المغربي في «مواهب الفتاح، في شرح تلخيص المفتاح »(...)، وفي حاشية الدسوقي على شرح السعد (....-1230ه)!!  » أنظر: مقدمة محمود شاكر لـ : «أسرار البلاغة»، ص. 26.

[11]- ستتضح غرابة هذا الموقف إذا قورن بموقف عبد القادر الفاسي الفهري في مجال اللسانيات الذي يقول إنه ينتظر من اللسانيات  أن تجعل من موضوعاتها تاريخ البحث في اللغة؛ هذا على الرغم من أن هذا اللساني البارز يؤكد في كل المناسبات أن دراسة اللغة العربية القديمة لا يستلزم الأخذ بتصور القدامى ومفاهيمهم، وأن دراسة اللغة العربية الحالية انطلاقا من النحو القديم وبتوظيف مفاهيمه خطأ وخلط بين الأنساق وعمل غير ملائم. أنظر: عبد القادر الفاسي الفهري «اللسانيات واللغة العربية، نماذج تركيبية ودلالية»، ص.59-60- 61.

[12]- محمود شاكر، مقدمة تحقيق: «أسرار البلاغة»، ص. 26-27

[13]-  المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 18.

[14]- محمد العمري: «في بلاغة الخطاب الإقناعي»، ص. 100.

[15]- نفسه، ص. 97.  يوضح عبد الله صولة ضمور البلاغة في شقها الحجاجي، ويشير إلى الجمود الذي أصاب البلاغة في المجمل، بما يلي: «..غير خاف أن تعريف البلاغة عند العرب كما قدمناه يجعل البلاغة قريبة جدا من الحجاج باعتباره في البلاغة الجديدة كما رأينا مجمل التقنيات الخِطابية التي تبلغ المعنى وتوصله إلى ذهن السامع.

غير أنه لئن جرت كتب البلاغة على أن تقدم في صدورها مثل هذا التعريف الحجاجي للبلاغة فإنها في متونها تكتفي بتقسيمها التقليدي الذي دأبت عليه منذ السكاكي إلى بيان ومعان وبديع وقد يتوج درس البلاغي للوجه البلاغي بخاتمة تنوه بقيمته البلاغية من حسن تصوير وتأثير في النفس إلخ أما درس الآليات التي يحقق بها كل شاهد من شواهد البيان والمعاني والبديع قيمته البلاغية باعتبار البلاغة تبليغ المعنى وإيصال حجة المتكلم إلى السامع فهذا مما لا نكاد نعثر عليه إلا عرضا حتى تحولت كتب البلاغة إلى قوائم في وجوه البيان والمعاني والبديع لا روح فيها ولا حياة.». أنظر: عبد الله صولة: «البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة (الحجاج)»، ضمن مؤلف جماعي إعداد وتقديم حافظ إسماعيلي علوي : «الحجاج، مفهومه ومجالاته »، الجزء الأول: حدود وتعريفات،  عالم الكتب الحديث –إربد، 2010، ط.1،ص. 38-39.

[16]-Gérard Genette : Figures 3,P.22

[17]- Op. cit. P.31.

[18]-  يمكن الزعم بأن ما يقوله محمود شاكر عمن قعّدوا البلاغة في الفقرة التالية هو منهج عمل لدى أولئك التراثيين ممن يصنفهم عادة أمثال العمري  وحدَهم في خانة "المقلدين": «فإني حين انتهيت إلى عمل فهرس الكتاب وقعت في حيرة، وجدت أني لا أستطيع  أن أضبط ما في الكتاب تحت أبواب جامعة، لأن تفاصيل ما فيه كانت أوسع من أن تجمعها أبواب محدّدة كسائر كتب البلاغة التي جاءت بعده. فانتهيت أخيرا إلى أن أجعل الفهرسَ مفصّلا تفصيلا كاملا بألفاظ الإمام نفسه. فتحت كُلِّ فقرةٍ دُررٌ نفيسةٌ تضيع إذا عقدتُ له أبوابا جامعة. فرأيتُ أن أجعلها مفصّلَةً، لكي يستطيع قارئ الكتاب أَنْ يعرفَ خَبْأَهُ، راجيا أن لا يتفلّت شيء منه بالاختصار. وهذا معين لطالب العلم الجاد في عمله، أن يستخرج منه ما فات علماء البلاغة الذين قعّدوا قواعد هذا العلم، جزاهم الله أحسن الجزاء». أنظر مقدمة تحقيقه لكتاب «أسرار البلاغة»، ص. 30.

[19]-  لو دقق العمري لجعل كتاب حازم القرطاجني تتويجا لطموح العرب القدامى إلى إنشاء نظرية في البلاغة، ولتجنب إرجاعه، على هذا النحو الغريب، إلى زمن سابق عليه وجعله فلكا دائرا على محور الجرجاني!

[20]-  يقول أمجد الطرابلسي: « عرف القرن الهجري السابع  ومطلع الذي يليه مدرسة عربية مغربية تستحق أن يوليها المهتمون بالدراسات النقدية والبلاغية المقارنة عنايتهم، ويخصوها بتتبعاتهم. وهي مدرسة يبدو واضحا، من خلال الآثار التي تركها لنا أعلامها، أنهم كانوا جميعا – مع تمكنهم حق التمكن من اللغة العربية وآدابها بعامة، ومن الدراسات النقدية والبلاغية العربية بخاصة- أحسن اطلاعا على منطق أرسطو، وأعمق فهما لمضمون كتابيه (الشعر) و(الخطابة)، من النقاد والبلاغيين الذين عرفتهم القرون السابقة في مشرق الوطن العربي ومغربه» أنظر تقديمه لكتاب: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، ص. 12.

[21]- محمد مفتاح: التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، ص. 18. ويقول محمد مفتاح في "مشكاة المفاهيم": «قد يكون من نافلة القول: ذكر رواج مؤلفات ابن رشد وابن خلدون في العالم وتأثيرها في المسار الحضاري الإنساني، ولكنه من الواجب التنبيه إلى أن هناك أبحاثا جامعية وغير جامعية أنجزت حول حازم والشاطبي وابن البناء. ولو قدر ترجمة المنزع البديع لراج رواجا هائلا..وقد خول التعرف على فكر هؤلاء الأعلام مراجعة بعض الباحثين الأجانب لبعض مسلماتهم المركزية  كما اتاح للمعاصرين من المسلمين منابع يستقون منها لتشييد فكر معاصر.. فهناك من وجد ضالته في ابن رشد  للدعوة إلى فكر عقلاني متسامح، وهناك من عثر على بغيته عند الشاطبي وابن خلدون في نظرية المقاصد ونظرية الأنساق، وهناك من حاول ربط الصلات بين حازم والسجلماسي وبين التيارات البلاغية والنقدية المعاصرة. » أنظر: مشكاة المفاهيم، النقد المعرفي والمثاقفة، ص. 267.

[22]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، ص. 10.

[23]- يقول محمد الحبيب ابن الخوجة في سياق الحديث عما اطلع عليه حازم من كتب النقد والبلاغة: «وَليس من السهل هنا أن ندعي أن حازما قرأ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني أو كتاب المفتاح للسكاكي المتوفي سنة 626/1228»، ويضيف في سياق توضيح تعامل حازم مع الكتب التي اطلع عليها: «..ولا يظن أحد أن كتاب  المنهاج عبارة عن سرد أو جمع لما تفرّق في غيره من الكتب السابقة، فإن حازما قد أعاد النظر في جميع قضايا النقد والبلاغة التي تعرّض إليها وبحثها واحدة واحدة» أنظر مدخل تحقيقه لـ: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص. 115.

[24]-  صدرت الطبعة الأولى من كتاب كوهين عن جامعة شيكاغو سنة 1962.

[25]-  ينظر مثلا: بناصر البعزاتي: الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية، 299 وما بعدها.

[26]-  المِقلاد مقابل قوي الدلالة في ما نحن بصدد توضيحه. أنظر: حمو النقاري، أبحاث في فلسفة المنطق، ص. 17.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟