في كتاب "مغامرات صوفيا، الفلسفة في رواية القرن الثامن عشر"، الذي نشر سنة 2013، يتساءل كولا دوفلو، أستاذ الأدب في جامعة جول فيرن بمنطقة بيكاردي الفرنسية، عن "رحلات صوفيا العجيبة في عالم الرواية"، في حين يبدو الخطاب الفلسفي، بحكم ميوله، متعارضا مع البنية الروائية، مع الشعر (مع الخيال بشكل عام)، ويظهر البعد الفكراني للفلسفة - كما ذكرنا بذلك بول ريكور - متلائما بصعوبة مع أسلوب السرد. ومع ذلك، فإن حضور الفلسفة في رواية القرن الثامن عشر هو موضوع هذا الكتاب المليء بالمعلومات، ولكنه يؤيد فوراً الفرضية التالية: الرواية "المخصبة" بالفلسفة سلكت في القرن الثامن عشر منعطفا خاصا. هذا يعني أنه يتم تقديم تشكل الرواية هنا دون الإشارة إلى أصولها، إلى "طور تكوينها"، ولكن في صورة تم اعتبارها في حينها مكتملة، وموجهة إلى معرفة التحولات الأسلوبية تحت تأثير فلسفة العصر. صحيح أن كولا دوفلو يؤكد، مع جان جينيت، أن اللغة الإنجليزية هي أكثر دقة من الفرنسية، بتمييزها بين novel (الرواية "الواقعية" التي ولدت مع ديفو وريتشاردسون وفيلدينغ) وromance، السرد المحيك بأحاسيس غرامية ومغامرات عجيبة.

تقديم:
بعد إشرافه على إدارة المعهد الوطني العالي للفن المسرحي خلال ثمان سنوات، أنيطت بمارسيل بوزونيه Marcel Bozonnet مهمة الإدارة العامة لمؤسسة المسرح الفرنسي منذ خمسة عشر سنة. بعد مرور سنوات على هذا التعيين، اشتغل هذا المخرج المسرحي على عرض مسرحية "Le Tartuffe" بدار موليير. بهذه المناسبة التقت مجلة "لوبوان" الفرنسية الذائعة الصيت بمارسيل بوزونيه وأجرت معه هذا الحوار الذي أنقل في ما يلي نصه الكامل إلى العربية.

- "لوتارتيف" مسرحية ساخنة وسوف تبقى كذلك. لماذا؟
+ إنها ملتهبة حتى! مهمتي هي إدارة مسرح: أنا لا أتواجد أمام المواقد، بل أمرر الأطباق. عندما أقوم بتشخيص موليير، ألامس النار. هذا مشروع مختلف تماما..نستطيع مراكمة جميع المعارف: القليل من التنقيب غير مضر..لكن في ما بعد، نكون جميعا عراة، محروقين بنار الوضعية. إنها تجربة صدق مع الممثلين، مع الجمهور ومع الذات.

مسرح الإله ديونيزوس

 شكل الإله ديونيزوس في الميثولوجيا الاغريقية، ذلك الجانب الحيوي والواقعي في نفس الآن، كما اعتبر سقراط ـ تلك الشخصية التي تحوم حولها علامات استفهام كثيرة ـ الجانب الآخر الذي أعلى من التشابه والتذكر والفكرة والفضيلة.. ديونيزوس ينتصر للحظة، أي للحياة، بينما يدينها سقراط معتبرا إياها مرضا توجب الشفاء منه عن طريق الموت. إذا ذهبنا مع ديونيزوس إلى أبعد نقطة، نكون على مشارف أعتاب الجنون، وإذا سرنا حذو النعل بالنعل مع سقراط، سنقصي ما لا يجب إقصاؤه. هل يمكن أن نتخلى عنهما معا؟ أم هل سننتصر لواحد دون الآخر؟ تصوروا معي حياة يسود فيها القياس في كل شيء. وتصورا معي واحدة أخرى عنوانها تيه متواصل دون بوصلة، ولو لهنيهة وحيدة من الزمن.. الحال أنه بفضل النبش الذي قام به نيتشه بين تضاعيف تاريخ الفلسفة، سيتمكن الرجل من استعادة هذا الذي تم طمسه بوعي أحيانا، وبغير وعي أحيان أخرى، أي بالإعلاء من شأن ديونيزوس كروح من خلالها تتدفق الحياة تباعا، لكن مع ضرورة التخلص من السقراطية التي اعتبرت حاجزا ضد الاختلاف والنسيان والجسد والحياة.. في هذا النص، سنتوقف عند مميزات كل تقليد، وكذلك عند الآثار التي يخلفانها.. سنتخيل أو قل سنفترض أيضا نتيجة الإنصات لكل تقليد بعينه.. وقد يكون الأمر ممتعا، عندما سيحاول القارئ تصنيف نفسه بين ديونيزوس نيتشه، وسقراط أفلاطون، لكن دون القفز عن وجهة نظر لاورنس التي اعتبرت حصيفة في هذا المقام..       

" رحلة إلى الشرق " هو ذا عنوان كتاب جرار دي نرفال الكاتب الفرنسي (1808- 1855). يضم هذا الكتاب بين دفتيه يوميات سفر مؤلفه الى الشرق. هل تأخذ هذه اليوميات شكل استطلاع اثنوغرافي أم جاءت على شكل سبر للمتخيل؟ يتأرجح الجواب على هذا السؤال بين مفاجآت التجربة المعاشة وبين الجمال العجيب للسراب. فاذا كان الكاتب يستدعي في آن واحد المؤرخين والشعراء والحالمين والمستشرقين، فلأنه يلاحظ أكثر مما يخرف. هذه الدراسة أنجزها ميشال جانوريه كمقدمة لكتاب نرفال الصادر مجددا ( في جزئين ) بباريس سنة 1980 عن دار النشر غارنييه- فلاماريون. ونظرا لما تكتسيه هذه المقدمة من أهمية على المستويين الأدبي والمعرفي، أقترح على ترجمتها الى العربية في أربعة أجزاء.

- الشرق التائه

إن ما يتأصل في الشرق يعرفه الرحالة الغربي منذ الحروب الصليبية؛ الانسان، الايمان والحقيقة. نفس البحث، الذي بوشر منذ الأبد، يقود الحجيج والمجوس نحو نقطة أصلية، فيها ينعقد ( من العقدة ) كل شيء. بتوجيه محكم، جعل كل من شاتوبريان ولامرتين سفرهما يدور حول الأرض المقدسة. للعالم، بالنسبة لهما، مركز، كما لخط سيرهما معنى. فلوبير نفسه، وهنو متهم قليلا بالتعصب، سجل خلال مساره المحطة الضرورية للقدس.

أود أن أقدم لكم بعض الملاحظات على الفلسفة الفرنسية بدءا من مفارقة: ما هو الأكثر عالمية هو أيضا، في الوقت نفسه، الأكثر خصوصية. هذا ما يدعوه هيجل بالكوني الملموس، توليفة ما هو عالمي تماما، وهو للجميع، وفي الوقت نفسه، لديها مكان ولحظة معينين. الفلسفة هي مثال جيد. كما تعلمون، الفلسفة كونية تماما، وهي موجهة للجميع، من دون استثناء، ولكن هناك في الفلسفة خصوصيات وطنية وثقافية قوية جدا. هناك ما أسميه لحظات الفلسفة، في الفضاء والوقت المناسبين. ولذلك تمثل الفلسفة طموحا كونيا للعقل، وفي الوقت نفسه تتجلى في لحظات فريدة تماما. دعونا نأخذ مثالين، لحظتين فلسفيتين مكثفتين ومعروفتين بشكل خاص. أولا، لحظة الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، بين بارمينيدس وأرسطو، بين القرن الخامس والثالث قبل الميلاد، لحظة فلسفية خلاقة، مؤسسة، استثنائية وأخيرا قصيرة زمنيا. ثم لدينا مثال آخر، لحظة المثالية الألمانية بين كانط وهيغل، فيخته وشيلينج، وتلك أيضا لحظة فلسفية استثنائية، من أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، لحظة مكثفة، خلاقة ،لكنها، مرة أخرى، لحظة قصيرة من حيث مدتها الزمنية.

(1)
تصلح رواية روول أغيار كنقطة انطلاق لإعادة رسم تاريخ الكاتب الأرجنتيني الذي جسد (رفقة غابريل ماركيز وماريو بارغاس يوسا وكارلوس فوينتس) تجديد الرواية الأمريكية اللاتينية وكذا الروح الثورية لسنوات 1960 و1970 . فباعتباره كورتاثريا حتى النخاع، يحكي أغيار تفاصيل اللقاء الرائع الذي جمع في مدينة هافانا واحدة من الفتيات وكورتاثر. هي تعيش في 2003 أما هو ففي يناير 1967 . تكمن الرهافة في الحنين الذي يقطره السرد ببطء في ذهن القارئ. هذا الأخير يعلم مسبقا الأجوبة المرهقة التي تقف في انتظار كورتاثر عندما يوجه للفتاة الشابة أسئلة حول المستقبل : لدي ألف سؤال. هل صعد الإنسان إلى كوكب المريخ؟ ماذا عن حرب الفيتنام؟ ماذا جرى في كوبا طيلة هذه المدة الزمنية؟ هل مازال فيديل على قيد الحياة؟والاشتراكية، هل تكللت بالنجاح؟هل لديك معلومات عن الأرجنتين؟ كاتلوغ على قده من الإحباطات.

ينبغي أن نعلم أن خوليو كورتاثر، الحقيقي، قضى فترة زمنية محددة في الإحساس بهذا الاهتمام الحماسي بالعالم. لقد اعترف قائلا: "كان لدي القليل من فضول استطلاع أحوال الجنس البشري قبل كتابة (الرجل المتربص)"، يقصد إحدى أجود رواياته. كان عمره آنذاك 45 سنة.

باعتباره ابنا لرجل أرجنتيني، سقط رأس كورتاثر بمدينة بروكسيل سنة 1914، ظل يحتفظ منها ، كما قال، ب" طريقة في نطق حرف R لازمتني مدى الحياة ". كانت تلك إحدى خصوصياته الجسدية. كان أيضا فارع الطول ونحيفا إلى أقصى حد بعد أن ظل أمرط لأطول فترة من حياته،أضفى عليه وجهه مظهر مراهق أزلي، عيناه الواسعتان، المتباعدتان جدا، يعطيان لنظرته مظهرا معتما ورشيقا. عن القط، أخذ علاوة عن ذلك الصفة الفردانية والملغزة.

(حوار بين "آلان باديو"Alain Badiou  و "لوران جوفران" Lorain Joffrin)
جريدة ليبيراسيونLibération ، الخميس 9 نوفمبر 2017.
تقديم:
    أعلن "آلان باديو" مؤخرا عن إيقاف دروسه وعن أنه يُزمع نشر كتاب الحقائق المحايثة  l’Immanence des vérités مُنجزا بذلك ثلاثيةً تتكوّن أيضا من الوجود والحدث (1988)  l’Etre et l’Evénement وأنظمة العوالم (2006) Logiques des mondes. لم يتوقف هذا الرجل الثمانيني الأنيق عن نشر الكتب. فبالإضافة إلى أعرف أنكم كثيرون جدّا... Je vous sais si nombreux… (Fayard) نشر "باديو" التقليد الألماني في الفلسفة la Tradition allemande dans la philosophie (Lignes) ، ثمّ تقريظ السياسة Eloge de la politique (Flammarion) و تقريظ الحب (2009) Eloge de l’amour وتقريظ المسرح (2013)  Eloge du théâtre، ثمّ تقريظ الرياضياتEloge des mathématiques في 2015.
المعروف عن "باديو" أنه لم يشارك منذ 1968 في أيّة عمليّة انتخابية. يأتي ذلك في إطار موقف ازدرائي واضح من الديمقراطية البرجوازية وفي وفاء تامّ للمَثَل الأعلى الذي رسمته المجموعة الماوية التي انتمى إليها منذ تلك الفترة، أي اتحاد شيوعيّي فرنساl’Union des Communistes de France  الماركسي اللينيني.

ورغم أن جريدة ليبيراسيون تصنف من قبل اتحاد شيوعيّي فرنسا على أنها جريدة تحريفية ومرتدة عن مبادئ الشيوعية، فإن "باديو" قَبِلَ بإجراء هذا الحوار مع رئيس تحريرها "لوران جوفران" الذي يدافع عن الخط الاشتراكي الديمقراطي. دار النقاش حول كتاب تقريظ السياسة بين رجل يتبنى "الفرضية الشيوعية" المرتكزة على فكرة التمرّد الشعبي (الذي يقرّ "باديو" نفسه إنه لا يعرف بالتحديد الصورة التي سيتم بها)، ورجل يريد التقدّم سلميا وديمقراطيا نحو الاشتراكية. ويدافع "باديو" هنا عن "الفرضية الشيوعية"L’hypothèse communiste  معتبرا أنه إذا كان من اللازم إحصاء المجازر التي ارتكبتها الأنظمة الشيوعية، فانه لا بد أيضا من إحصاء ضحايا النظام الرأسمالي.

ماذا لو كانت النزاعات في منطقة الشرق الأوسط غير ذات طبعة دينية؟ بالنسبة للمؤرخ والمحلل الاقتصادي اللبناني جورج قرم، لا تصلح هذه المقاربة الاختزالية للسياسة الدولية سوى لإضفاء الشرعية على أطروحة “صدام الحضارات”. في كتابه “من أجل قراءة دنيوية للنزاعات”، يميط هذا الأستاذ الجامعي اللثام عن العديد من الآليات التي حاولت شرعنة الحروب غير العادلة التي اندلعت منذ نهاية الحرب الباردة. تلك، بإجمال، سياسة تمر عبر توظيف الديني. لمعرفة مزيد من التفاصيل حول هذه المهمة التي انتدب جورج قرم نفسه لها، تعالوا معي لنتابع هذا الحوار الذي خص به صاحبنا جريدة إلكترونية فرنسية (Le Monde des Religions) والذي أقدم فيما يلي ترجمته إلى اللغة العربية.

– من خلال قراءتك الدنيوية للنزاعات، هل تعتزم معارضة نظرية “صدام الحضارات”،
+ تلك عودة إلى علم السياسة الكلاسيكي، مقاربة لأوضاع الحروب اعتماد على تحليل يأخذ بعين الاعتبار تعدد العوامل، وليس بناء على سببية واحدة قد تكون دينية، عرقية او أخلاقية على نحو مزعوم. أطروحة صدام الحضارات هي، في نظري، استيفاء مابعد حداثي لتقسيم العالم بين الساميين والآريين، الذي ترتبت عنه النزعة المرعبة المعادية للسامية والمؤدية إلى إبادة الجماعات اليهودية في أوربا. هذه الأطروحة الفاسدة تمنع من التفكير في أسباب النزاعات. يستطيع الرأي العام، وقد أعمته نظرية “صدام الحضارات” ، أن يساند عمليات عسكرية؛ مثل اجتياح العراق وأفغانستان، أو كذلك التدخلات العسكرية في سوريا وراهنا في اليمن.