أنفاس يغوص في عينيها بشراهة . هي على ما يبدو قد لاحظت ذلك ، حتى أنها صارت مرتبكة بعض الشيء . . ذلك الارتباك الذي يتوارى وراء تعابير الوجه المختلفة. حين نظرت هي في عينيه لأول مرة تغيرت ملامح وجهها من قلق الانتظار إلى إسترخاء وترقب . ما الذي يدور في فكر كل واحد منهما. أتراهما الآن يتبادلان الإعجاب . ذهوله ناحيتها يدل أنه ذاب في كل شىء فيها، أما هي فلم تشكل دلائل واضحة سوى تلك النظرتين السريعتين اللتين رشقتاه بهما. وجهها مملوء بالخجل والاسئلة، بينما وجهه مملوء بالشراسة والمباغتة بتلك النظرات التي لم يقطعها إلا حينما يحدق في سقف المقهى. هناك غيري بالتأكيد من لاحظ أن هذين الاثنين يثيران الانتباه اليهما، خصوصا من جانبه هو، ومن المؤكد أيضا أن الأثنين لا يعرفان شعور بعضهما. قد يعتقد أنها غرمت به من خلال تلك النظرتين ، أو يعتقد أنها فقط حاولت معرفة سر نظراته المستمرة فيها. وقد تعتقد هي أنه هام فيها، أو تعتقد أنه مجرد عابث بنظر لكل النساء بنفس النظرات .
تنظر في ساعتها باستمرار. أتنتظر أحدا، ربما رؤيتها للساعة من قبيل العادة أو التسلية، وأنها لم تكن لتنتظر أي أحد. ولو كانت تنتظر أحدا، فمن يكون ، أيكون إحدى صديقاتها مثلا، أو زوجها، أو ربما حبيبها. إن كان انتظارها لزوجها فهو احتمال ضئيل ، فمن المفترض أنهما - هي وزوجها - يأتيان ويد كل واحد منهما تمسك بيد الآخر.. وأن يكونا حريصين على رسم الابتسامات لبعضهما البعض .. وبامكانها أن تناوله الأكل بيدها.
وإن كان إنتظارها لحبيب لها، فلا أعتقد أنه يتأخر عليها كل هذا الوقت ، والأرجح إذن أنها تنتظر صديقة لها.

أنفاسمرة أخرى؛ أفتح باب الغرفة المفضي إلى الممر المعتم، الذي تعبث به أضواء الشارع الخلفي، التي استعارت بهرجة عيد رأس السنة ولم تفلح، فبدت الأضواء المتسللة بألوانها.. شاحبة، متعبة. متسلقاً درجات تآكلت بفعل التقادم تنتهي بي إلى سطح الفندق حيث دورة المياه. لقد أصبح قدح الشاي الذي دفأت به صدري دلواً. للمرة الثانية تلفحني هذه البرودة، وتمتص كل ما اكتنزته من دفء في سريري بعد أن أحكمت تغليف جسدي. لم أتصور أن ليلة في بغداد يمكن أن تجعلني اهتز إلى هذا الحد. لم تتطابق عقارب الساعة على بعضها. لا زالت السيارات في شارع السعدون غير مكترثة بالوقت. أو ربما قد لا يعني رأس السنة لهؤلاء السواق شيئاً. لكن.. لماذا لم أساعد رائد والتزم بواجبه ما دامت ليلة رأس السنة ليلة لا تملك إيقاعاً لها في نفسي؟.. كما أني لا أستطيع الاستفادة منها بالذهاب إلى الموصل والعودة إلى الحلة. لماذا اقضيها هنا وحيداً؟!. لماذا أريد تجريدها من بهائها الذي اخترع لها؟.. هل أنا حاقد عليها….؟.

كان الإدرار المتدفق بقوة.. يوحي فعلاً بأنني قد شربت دلواً من الشاي، أما البخار برائحته النفاذة فقد أكد أن البرودة قد تجاوزت حدودها. لملمت جسدي وتركت الباب يئز ورائي واندفعت مهرولاً إلى الغرفة. الآن رائد يتلقى أوامر الدورة الاعتيادية من ضابط الخفر. كم حاول أن يرشيني!.
ـ سأجلب لك غداً ريوك؛ كاهي.. علبة حلويات.. استلم الواجب عني قد التقي  بها هذه الليلة. قد تراقصني..
ـ هل ترقصون كما يحدث في الأفلام؟

أنفاسالتقيت به بالصدفة كانت صلعته مدورة كالسكون فوق النون، كان يحمل بيده اليمنى تفاحة حمراء.. نظرت إلى التفاحة بين أصابعه،كانت كأنها عالقة بين فكي كماشة، فقد أمسك بها من خناقها .. لا اعرف لماذا تذكرت في لحظة خاطفة قول صديقي الشاعر الراحل محمد أبو الطيب "يدي على الجرح / هذا نهار وهذي صخور" ..... مضى قطار عمر صديقي الشاعر قبل أن يمضي العام المنصرم.. عاد  إلى الله كملاك شعر وبسمة وسلام... أما هذا الممسك بالتفاحة، واضعا يده في جرحها، وكاتما نفسها بكل قوته،يكاد يخنقني أنا ... من هو هذا الرجل الغريب، ولما هو في بلدتنا....  كنت أتساءل في قرارة نفسي..

يمتاز الرجل الأصلع بالفتحة الظاهرة على آخر قرعته...كانت الفتحة عبارة عن أثر لجرحٍ قديم، تقافزت فوق بياضه شعيرات متبقية على جلدة رأسه، كانت الشعيرات تقفز من مكان إلى مكان كما الحركات فوق وتحت الحروف في الكلمات..عندما قفزت من مكانها مع هبوب ريح خفيفة، شاهدتها ترتفع فبانت النتف الصغيرة المتبقية فوق جلدة رأسه المحروقة بأشعة شمس الصيف...فتحة على شكل حركة،وعند النظر من زاوية مختلفة تصبح على شكل كسرة،تتحرك وفق حركة الشفاه حين يبدأ كلامه، وتتحرك أيضا مع هبوب الرياح الحمسانية التي تهب على البلاد في الربيع،كأنها فيلم عن عاصفة رملية مثل عاصفة الصحراء الأمريكية....

لاحظت أن الحركات الساكنة فوق رأسه تصبح متحركة بتحرك الشفاه وباهتزاز الشعيرات العالقة فوق جلدة الرأس الملساء... كانت السكون أقوى من الفتحة، ثابتة فوق الصلعة...

أنفاسهي سيارة تاكسي قديمة بقدم البؤس و الشقاء ، أليق مكان لها هو متحف أثري لحفظ كرامتها مثلما تحفظ القبور كرامة الموتى ، مترهلة حتى بدت عليها كل ملامح الشيخوخة بضعفها و تلفها ، لم يبق لها الدهرقطعة واحدة معافاة ، جلد الكراسي ممزق و بان منه الإسفنج و برز ، تقطعت أطرافه بأيدي عابثة من الركاب و الدهر ، حاولت أن افتح الشباك لكني فشلت لعدم وجود مقبض لإنزال الزجاج المغلق في هذا الجو الصيفي الساخن الحار ، الشمس تسقط على جسمي لتسلقه وتلسعه كما الزمن ، و فوق هذا كله فان ماكينة الشباك خربة كالأوطان المقهورة . ثرت في وجه السائق كالحصان الهائج : دوّر على حل يا أخي ، الشمس أهلكتني و أصبحت أذوب مثل الزبدة في المقلاة و أنضح بالعرق كالبئر المالح . أعطاني كماشة قديمة صدأة كأسلحة الهزيمة ومتسخة كي أحاول فتح النافذة الزجاجية و لكني لم أنجح ، فالكماشة لا تقبض على بروز حديدي بإحكام ، عدا عن ذلك فهي تنزلق و تملص كلما ضغطت عليها بقوة . قال السائق بفخر و شموخ بأن هذه السيارة تعمل منذ عهد والد جده الذي كان يشتغل عليها سائقا على خط غزة - القاهرة في منتصف القرن المنصرم ، كان يتحدث بعز و انتماء لسيارته العتيقة و كأنه ينتمي لقبيلة عبس العتيدة بما تحفل من سؤدد حتى بدا كأنه عنترة العبسي  نفسه ، و تابع القول بحزم و فخر : بعد موت والد جدي في حرب العدوان الثلاثي عمل عليها جدي بنفسه ، و عندما مات جدي في إحدى الغارات عام سبعة وستون عمل عليها أبي ، و لما مات أبي  بقذيفة إسرائيلية في هذه الانتفاضة باشرت العمل عليها بنفسي .. يتحدث باندفاع و انفعال شديدين و كأني أنازعه على ملكية سيارته الخردة الهرمة المكحكحة  .

أنفاسالآن: المدينة هذا اليوم ما بين الظلام، يد الظلام تمسك بها بيد من حديد،  فتغرقها في السيل العرم من الفوضى، المدينة تبوح بوجعها، حيث حاصروها تجار الدم بالأوغاد، والحشاشين..
قطعوا عن طرقها الطرق، وعن سمائها السماء؛ الصوت يأتي منها يشبه نشيجا محموما، الناس تقول من هناك، بان الناس قد غابت عن هناك، الناس كلها مستغيثة:
- قد مزقوا ثوبها للمرة الألف، وتركوها بلا شبكة للموبايل، أو هاتف ارضي إذ عزلوها عن الشمس، منعوا فيها الصحف، والانترنيت، والرجولة، والخضار، ورائحة الأمل: اتصلتُ بمن بقي هناك، اتصلت بمن علق هناك.. اتصلت بآمالي الكبار وبحدسي تواصلت الأخبار، بالأخبار..
يقولون لي: بان ما بين دمار ودمار؛ دمارا أفظع من الدمار، وان ما بين رجل وآخر موتا حاضرا، وان ما بين موت وموت جيفا تنتشر ما بين الجثث وأصحابها، والموت صار الحاضر بين الأحياء، ما من موت يتخلص من الجيف، والجيف تحاصرها الفكرة، لأجل ان تبوح بالفطيسة بدلا من قداحها، ولكنه اليوم نفسه الذي تخظلت مسرة الخضرة الطازجة بالبارود، بعقوبُ يا قمراً كنت على ديالى، وفرسا عصية اللجام على خراسان، بعقوبُ يا آسرةُ التائبين عن تحريف التاريخ، ومفتاح الأجاص والزعرور إلى مواسم العطاء.. هل بعقوبُ أغنية المارد الذي أعطى وشاحه إلى المشمش والآلو بالو...

أنفاسكان بإمكان احميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه حقق أمنيته التي أفصح عنها للمدرسة، حين سألته عنها ذات يوم، وهو ما يزال تلميذا في قسم الشهادة الابتدائية.. كان بإمكان احميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه لم يطرد، عامها، من المدرسة، ولو أنه تابع دراساته، وتخرج من كلية طب العيون، أو كلية طب الأفواه، أو كلية طب البهائم، أو كلية الطب، هكذا، حافية.. وكان بإمكان احميدة لو أنه خرج (أو تخرج) من بطن منتفخة –بفعل مرور تسعة أشهر- لامرأة متزوجة من رجل ذي بطن منتفخة.. على أية حال، كتب لاحميدة أن يكون، هكذا، حافيا، بدون "دكتور"، ولا "سي"، ولا هما معا: "السي الدكتور".. وما دامت القاعدة تقول إن كل الأبناء لا بد وأنهم من والديهم يرثون، فإن كل ما ورث احميدة، بشرة بيضاء من والدته، وجسدا نحيفا وقنينة حريق من والده، ثم كوخا من طوب وقصدير وحصيرا وفانوسا غازيا منهما معا.
***
يدخل احميدة إلى مقهى الدرب، مترنحا كالمعتاد، وفي يده قنينة حريق.. يتوقف، أسفل جهاز التلفاز المعلق على الحائط، بعد طول مقاومة لأجل إعادة التوازن إلى جسده المتمايل.. يقول بصوته المخمور، المتقطع، المدندن، والمتثاقل:
ـ أنا العالم، والعالم كله أنا.. أنا لست أنا، ولست أنا، هو أنا.. من أحبني، فهو أخي، ومن كرهني، فهو (منتظرا إجابة) حبيبي.. في رأيكم، من أكون أنا؟

أنفاسلم تنم الليل كله.. ظلت مسافرة على متن اللظى، تنتقل بين الجحيمين: الخيبة التي قصفتها هذا الصباح، والذكرى التي شبت نيرانها من جديد. اغلقت الباب والنافذة، تجردت من كل دفاعاتها، واستسلمت رافعة الأيدي، وعيناها تهطل غزيرة، تعرت للسياط والسهام، فتحت أبوابها لجنود الألم، فغزوها، وبات الجسد يتلقى الطعنات، والروح تتشظى.
قالت وهي تشهق: "لماذا قصفتني بهذه القنبلة!؟.. وكيف أواجه غدي وقد وأدت آخر أحلامي!؟..الحاضر جحيم، والحلم حرقته، فكيف أواصل المشي في شوارع الحياة!؟". وغطت وجهها بالوسادة المبللة بدمع سقوط آخر ورقة في شجرة أحلامها، ليعم الخريف، ويبسط سيطرته على آفاق السبيل الذي تسير فيه منذ أن أرسلتها نطفة إلى الممشى الوعر، وزرعتها نبتة، نمت واخضرت بين ضلوع الحجر، فانطلقت سفينتها تمخر عباب الحياة، كلما توغلت، كلما تقوت الدهشة في شرايينها، عظم القلق، وأينعت الأسئلة. وفي زحمة الأيام والامتحانات، انتصبت أمامها كبستان يفيض بالاخضرار، ومعرض آمال جميلة، وعود منغمة، فركبت صهوته، واختطفها من عالم إلى عالم كبطل أحد أفلام الوستيرن..، وأخذ يشق بها تضاريس الفصول. هو من نطفة./ وهي من نطفة./ هو من دار./ وهي من دار تقابلها. والتقت دهشتاهما، وأخذ يسيران، يتعثران، يبكيان، يضحكان، ينامان، يستفيقان، ينجحان، يرسبان، يغنيان، ينتحبان، يتعانقان، يتعاركان، يتصالحان، يتخاصمان.. ويكبران في زحمة الوقت والأضداد، ويقولان تحت الزخات حين يجود بها المطر:

انفاستعبره كل يوم فتعمق في شغاف قلبه أخدودا من الوله،يتبع ممشاها فتسيل رغبته ويزداد توتره . تصليه حمم جسده ويفور ..يفور ..يفور بعجلة يبلله طوفان الرغبة،يغرقه في ماء آسن ويذوي قبل أن تغادر عينيه،يذوي ككلب ركض وركض فلم يكن نصيبه إلا نصف ظل ولهاث مديد .
اليوم وقفت على باب مغسلته .
ربما قال كلاما جما ..ربما تدلت من لسانه قطعة السكر فلعق شفتيه،لعق ريقه الدبق وماء خياله المنسكب ..ربما فكر أن يقول كلاما طازجا ..ربما سرق شيئا من مفاتنها الحائرة ليغذي به خياله حين تتيبس الطريق ..وربما انكسر أمام فتنتها الطاغية فلم يقدر أن يقول شيئا إذ هناك عميقا،في داخله تتلجلج الكلمات،وبقي يموج برغبة ظن أنها خرجت من مسام جلده ..يتذكر تماما ارتباكه وحيرته وبعضا من مفاصل كلمات تثير الضحك تفوه بها عندئذ ربما غدا نادما على خروجها.