تفرض التحولات التاريخية الراهنة والانعطافات المنهجية والنظرية التي يعرفها العقل الغربي، على المثقف العربي ضرورة بناء معرفة حداثية في أفق إبداع فلسفة تاريخية جديرة بالوعي التاريخي المنشود، في ظل شروط عربية تتميز بالتراجع سواء على المستوى الاجتماعي أو المعرفي. يمكن اعتبار أن العصر الحالي هو عصر نقد الحداثة ومسلماتها في الغرب، ورهان بناء حداثة عربية فعلية. وفي هذا السياق، يمكن طرح الكثير من الأسئلة منها: ما موقع علم التاريخ في الخطاب العربي؟ هل أنجز المثقف مقالا في التاريخ؟ هل يمكن اعتبار العصر الحالي هو مرحلة نقد سلطة النموذج المعرفي التاريخي؟ هل ضعف الخطاب العربي الفلسفي والإيديولوجي ينبع من هيمنة التأويلات اللاتاريخية؟ ليس العصر إذن هو زمان أطروحة سقوط التاريخ في مجال المعرفة، ولكنه بالفعل بداية نقد التاريخ وإعادة بنائه سواء على مستوى المناهج أو المفاهيم أو النظرية.
لقد شكل علم التاريخ نموذجا معرفيا صارما، ترجم من جهة من خلال التاريخية (L’historicité) ومن جهة أخرى من خلال تأويل للماركسية باسم علم التاريخ، أو ما أسماه الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير بقارة التاريخ. وفرض التاريخ سلطته المعرفية، من خلال ما سمي بإمبريالية المنهج التاريخي مقابل دعاة النزعة السوسيولوجية (Sociologisme) أو النزعة السيكولوجية (psychologisme).
وإذا تفحصنا الخطاب العربي يمكن أن نلاحظ، أولا: التعامل الإيديولوجي مع إشكالية المنهج، ثانيا: الخلط بين الفلسفة والسياسة والإيديولوجيا، ثالثا: الانتقال من السجال المعرفي والإبستيمي بين المناهج إلى الصدام الإيديولوجي. كما يتوضح ذلك من طبيعة الحوار الذي دار بين التاريخانية والبنيوية ومنهجية التفكيك والنظريات الإبستمولوجية، رابعا: تعامل المثقف العربي بشكل جاهز مع الفكر الغربي خصوصا علم التاريخ، دون التفكير في إبداع مقال في التاريخ (Discours historique) ملازم لشروط الواقع القائم، وإمكانات التغيير، وضرورات المعرفة النقدية.
إن ثورة المناهج المعاصرة، وسقوط النماذج الإيديولوجية في المعرفة يفرضان على الفكر العربي الراهن، تجاوز الكثير من المعوقات المعرفية، خصوصا في ظل شرطين قائمين: الأول: الانهيار التاريخي العربي. الثاني: تعثر الفكر العلمي والفلسفي، وعودة التراثوية، مما زاد في تكثيف نظرة انهيارية للتاريخ، ومأساوية للزمان. إن مقال المنهج العلمي العربي البديل، لن يخرج بطبيعة الحال عن إنجازات الحداثة الفكرية الغربية. لكن الأساس يكمن في طبيعة التعامل معها، وفي إمكانية إنجاز فعل تاريخي عربي حداثي يتجاوز التخلف، في ظل عصر يتميز بصعوبة القبض على جدل التاريخ وقانون المجتمعات. إن العملية التاريخية يتداخل فيها البعد المادي والرمزي، وبالتالي فالصيرورة التاريخية تخضع لشبكة علاقات معقدة، يصعب على المنطق التاريخاني الصارم الكشف عنها. فلا يمكن نسيان دور الخيال في صنع التاريخ، ومن هنا يكون التفكير في التاريخ الكوني عامة والخصوصي العربي خاصة، يبقى مرتبطا بقضايا إبستمولوجية عميقة، بعيدا عن النظرة الأحادية أو الاعتماد على العامل الواحد والوحيد في عملية التفسير من أجل بناء فلسفة تاريخية بديلة ضد إيديولوجيا نهاية التاريخ من جانب، أو تقديس الماضي من جانب آخر. فإشكالات من قبيل الذات، والحتمية ودور الفرد، والأسطورة، المعقول تبقى لصيقة بموضوع التاريخ. ولا يمكن نسيان أن الأحداث التاريخية لا تتحرك دائما وفق جدل صارم، فهناك ما يطلق عليه اللاشعور التاريخي، وهو عميق جدا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتاريخ –العربي-الإسلامي حيث تهيمن القداسة، والقدرية، والنظرة الأسطورية للعالم، وتشابك الديني والمادي. مما يعطي المشروعية المعرفية للعلوم والمناهج المعاصرة، دون الاعتماد على مواقف تاريخانية صارمة. إن لا شعور التاريخ، يفرض ذاته خصوصا لدى المجتمعات المتخلفة والتابعة والمحكومة بنسيج معرفي يبتعد كثيرا عن العلمية والحداثة.
وفي هذا السياق يكون من اللازم إعادة بناء المادة التاريخية العربية والإسلامية وفق منظور إبستمولوجي جديد للتاريخ، يأخذ بعين الاعتبار مسألة أساسية وهي تداخل المعارف والحقول المعرفية (Les champs cognitifs) وهو الأمر الذي يفتح نقاشا هاما حول وضعية العلوم الإنسانية، في المجتمع العربي الراهن، من جهة، وحول قضايا عميقة متعلقة بدور الفرد، والأسطورة، في العملية التاريخية. والسيكولوجيا التاريخية (La psychologie historique) يمكن أن تقدم تفاسير هامة لتاريخ عربي ما زال محكوما بالفتنة واللاوعي، وفوضى الفعل. مما يفرض الانتقال من المنظور الحتمي الصارم، إلى النظرة الشاملة التعددية لحقل التاريخ، خصوصا وأن الهدف الأساس هو رصد إمكانية التحرر التاريخي على أرضية الحداثة ووفق الشروط الراهنة. فالوعي العربي-الإسلامي ما زال مؤسسا على اللاوعي، هذا الأخير الذي يحرك وجودنا الاجتماعي ويدفعنا نحو النكوص والتقليد. وعندما نتكلم عن اللاوعي في المجتمع العربي-الإسلامي، فنعني بذلك محددات عميقة ومكبوتات قاتمة، وبنية منفلتة من الزمان الفزيائي، وهو الأمر الذي يغذي الكثير من التيارات السياسية، ويزيد من تكثيف التاريخ الماضوي إن لم نقل الميتا-تاريخ. وبالتالي تراكم عملية الأسطرة والتقديس لكل حدث تاريخي في غياب أي وعي تاريخي علمي قائم لدى المثقف أو الشعوب العربية. إنه تاريخ عربي لم يتشكل بعد، ولم يركب على مستوى النظر والفعل، أي من خلال إنجاز وعي نقدي به خدمة لفلسفة الفعل لا النكوص. فما زال اللاشعور يحفر في الذاكرة، ويشتغل فتنا سياسية من دون أفق، ويكثف انكسارات عميقة سلبية داخل الشخصية القائمة. فالسيكولوجيا التاريخية ونظرية الفهم، والإبستمولوجيا قد توصلنا إلى بناء ولو تصور بسيط حول ماهية التاريخ العربي-الإسلامي، ولكن هذا يتطلب بالفعل إقرار مسافة إبستمولوجية مع هذا التاريخ، في ظل الرهانات الإيديولوجية القائمة، والتي في مجملها تعمل على استعادة الماضي بشكل سلبي، والذي يتحول إلى حاضر ومستقبل، بل إلى عائق. مما يطرح كيفية التحرر من هذا التاريخ، عبر نقده وتمثله إيجابيا. فيستحيل تجاوز الأسطورة، في حقل التاريخ، والمكبوتات على مستوى إرادة الفعل، لكن عقلنة المادة التاريخية، تبقى رهينة ببناء علم تاريخ عربي مستقبلي متلازم وطموحات التغيير، حتى لا تبقى النظرة العمياء للحدث التاريخي لا تختلف جوهريا عن الأطروحة الفلسفية القائلة بنهاية التاريخ. إن مجتمعنا المركب يتطلب النظرة الشاملة والمتكاملة، والابتعاد عن أدلجة التاريخ المتعالي، والنزول إلى مستوى ممارسة حفريات تاريخية، من أجل بناء منظور جديد حول اللاشعور التاريخي (اصطلاح علمي هام استعمله المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل (Fernand Brandel) لكياننا العربي، والذي ما زال متمركزا حول زمان الانهيار الذي أرخ له الفيلسوف والعالم الاجتماعي عبد الرحمان بن خلدون. وهو زمان يتجدد، في شكل تاريخ هزائمي، منذ العلامة إلى حد الساعة. مما يفرض أسئلة مؤرخة حول دور مجتمعاتنا في بناء التاريخ الكوني وإنجاز الحداثة، وإشكالية التخلف التاريخي، والتي نعتبرها مسألة مركزية منطوية على ملابسات عميقة تهم المثقف العربي.
فالإيمان، إذن، بتعددية المناهج يمكن أن يساهم في الانفتاح الفلسفي على التاريخ، باعتباره انفتاحا على الكينونة. وتصنيم التاريخ أو تقديسه كثيرا ما يكرس النظرة الشمولانية للصيرورة التاريخية، والتي يريدها البعض أن تكون خاضعة لحتمية صارمة، تغفل دور الذات، والفرد، والخيالي، والإيديولوجيا. فهل يمكن التفكير بمطلقات، في تاريخنا، الذي لم يعرف تطورا طبيعيا وما زال لم يدخل بعد حلبة التاريخ الفعلي. فالزمان العربي ينفلت من الرؤى الصارمة، ومن الأنماط المعرفية التي تؤسسها مجتمعات الحداثة. فمن الصعوبة بمكان تنميط التاريخ العربي-الإسلامي والذي ينزاح عن النموذج الكوني، ولا يرضى إلا بهامشية الفعل بل بعدميته في الشروط الراهنة. إن النقد التاريخي الفعلي، يرفض النظرة الكليانية للتاريخ، ويؤسس، عبر التحامه بالمعارف المعاصرة، لفهم أعمق لجدلية الصيرورة التاريخية والتي تنفصل عن قضية الفعل، والتقدم، والتراجع، ودور المثقف. وهذا يبين أن المذهبية التاريخية، قد تزيل الأسطورة عن الأحداث والمواقف والتصورات، والنصوص والأزمنة، وتعيد الاعتبار لإشكالية العلاقة بين الوعي واللاوعي، بين الحدث والميتا-حدث، ومن هنا لا مجال لتجاهل، لا السيكولوجيا ولا الأنطولوجيا، ولا الإرث الإبستمولوجي المعاصر، وخصوصا وأن التراث والمكبوت الديني وإكراهات التاريخ السياسي يشكلون أساس العوائق التي تحكم الوعي والفعل العربيين. ولا ننسى أن الاستسلام لنظرة تاريخانية صارمة، سواء كانت ماركسية أو ليبرالية لن يساهم إلا في تقليص فاعلية النقد التاريخي، دون نسيان أن التاريخانية العربية قد أسست فعلا لخطاب نقدي متميز، فكك الكثير من القضايا والمنظومات، والحق، أنه طبع الفكر الفلسفي العربي بطابع خاص. وقد تمثل هذا في إنجازات المفكر عبد الله العروي، على سبيل المثال لا الحصر، والذي قال "إن التاريخانية هي قبول منطق الحديث والذي هو مرة أخرى، وبالتحديد منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر"([1]).
ولا ننسى أن مشروع العروي كمثقف تاريخاني يرتبط بتصوره للحداثة والتراث وطبيعة قراءته للماركسية والهيجلية على حد سواء. ومن الزاوية المعرفية ساهم خطابه في تفكيك وخلخلة الكثير من القضايا بحس نقدي، وذلك منذ مؤلفه المتميز الإيديولوجية العربية المعاصرة. ومع ذلك يصعب الكلام عن كثير من القضايا من خلال نظرة كليانية للمنهج التاريخي، رغم أن هذا الأخير لا يمكن التهاون بشأنه، خصوصا في إطار الحفر، والمقارنة، وكشف المفارقات. وقد قام الدكتور عبد الله العروي بهذا الإنجاز في كتابه الدسم مفهوم العقل، مقالة في المفارقات، والذي قال فيه بخصوص المنهج: "ومن أتفه ما يروج اليوم الفكرة القائلة إن لا مشادة في المنهج،وكأن الاختلاف حول المنهج هو مجرد اختلاف في الرأي. كان هذا صحيحا في الماضي، إذ كان يوجد إجماع البديهيات. أما اليوم فلا مشادة إلا وهي في المنهج…"([2]). ومن طبيعة الحال فالدكتور عبد الله العروي ما زال مدافعا صارما عن المنهج التاريخاني، بحس إبداعي، مع أن ذلك لا يمكن أن ينعزل عن التفكير والتحليل بواسطة معارف أخرى، قد تعطي للمثقف التاريخاني سلطته القوية، خصوصا في ظل التحولات الراهنة المتمثلة في عودة التقليد والمأسطر، وانكسار شبه-شامل للموقف العربي. وبالفعل فلقد انتقدت تاريخانية المفكر بعنف، باسم فلسفة الاختلاف، كما يتضح من كلام المفكر عبد الكبير الخطيبي: "إن العروي يرد التاريخ إلى شمولية ميتافيزيقية نسيجها الاستمرارية العقلانية والميل إلى النظام والإرادة كما لو أن "عامل التاريخ" عقل مطلق، قادر على أن يسيطر على المصير"([3]). ويتأسس هذا النقد على أطروحات ما بعد-حداثية أساسها مفهوم الاختلاف، والكائن، وتعددية الحقائق، والمعنى، ومن هنا يصعب إيجاد لقاء بين منظور فلسفة الاختلاف، كما يوظفه الخطيبي وصرامة تاريخانية عبد الله العروي. مع أنه في الأصل يمكن إيجاد حوار عميق وإبداعي، بين المذهب التاريخاني وفلسفة الاختلاف وباقي العلوم الإنسانية، من دون إخلال بشروط العلم وماهية العقل وإرادة التفلسف. وإذا كانت التاريخانية تومن بصرامة التاريخ وأحداثه فإنها لا يمكن أن تلغي الإنسان كمشروع حسب لغة جان بول سارتر (J.P.Sartre ). ورغم سجال هذا الفيلسوف مع فلاسفة وعلماء التاريخ والأنثروبولوجيا (كلود ليفي شتراوس) فإن فكره الوجودي لا يلغي التاريخية، بل يؤسس لمنظور جدلي حول علاقة الإنسان بالتاريخ. و"الوجودية العربية"، رغم كلامها عن الإنسان فهي قد غيبت الكلام عن الكائن كفاعلية في التاريخ، مما يعني أن أية فلسفة تاريخ ممكنة يجب أن تعيد ربط الكينونة الإنسانية بالصيرورة التاريخية وفق منظور جدلي لا يفصل بين أسئلة التاريخ وإشكالات الأنطولوجيا المعاصرة.
وفي هذا السياق يطالب المفكر العربي بنقد عمليات التعالي بالتاريخ وأسطرة الحدث التاريخي وإلغاء فاعلية الإنسان داخل العملية التاريخية ككل. وتأسيس علم تاريخ عربي أو فلسفة تاريخ عربية ممكنة لن يخرج عن ضرورة تفكيك المركزية الحضارية التي تطبع التاريخ الغربي من جهة والعقل الخصوصي الإسلامي من جهة أخرى، في أفق تجاوز التعامل النموذجي مع الفلسفات التاريخية الحداثية السائدة وخصوصا الهيجلية أو الماركسية. وإذا كانت حداثة النماذج المعرفية كرست المزيد من العوائق المعرفية، فإن بناء العقل التاريخي العربي، يفرض الابتعاد عن الجاهزية والنظرة المطلقة والتقريرية، مما يفرض الإيمان بمبدإ النسبية في الممارسة المعرفية التاريخية، وكما يقول بروديل: "إن التاريخ منذور دائما لإعادة الكتابة، فهو في حال صنع دائم لنفسه، في حالة تجاوز مستمرة"([4]). إن التمركز حول الآخر، أو حول الذات لن يزيد إلا من فرض النظرة المطلقة للعالم، وبالتالي العجز عن الإجابة على أسئلة جوهرية مثل: كيف يعود التراث والحدث التاريخي المؤسطر؟ ولماذا يسيطر اللامعقول التراثي على الأذهان أكثر من المعقول. ولماذا يتراجع التاريخ الغربي-الإسلامي حاليا؟ فهل نلتزم بالنظرة التاريخية الصارمة أو ننفتح على مستجدات معرفية حداثية قادرة على تفسير كيفية اشتغال الحقل التاريخي، والذي لا يمكن له أن ينفصل عن إشكالية الوعي، خصوصا في لحظات الانكسار والتراجع، كما هو حاصل للإنسان العربي المعاصر؟ فاللاتفاعل بين الوعي والتاريخ المعاش يمثل أزمة معرفية قائمة بذاتها، ومن الواضح أن فينومينولوجيا الوعي العربي، تبرز بشكل جوهري، أن هذا الوعي لم يتشكل بعد كإدراك تاريخي قائم بذاته. فهل يراهن المثقف العربي على إبراز ذات-حضارية مهزومة أمام الآخر، دون أن يسقط في فخ التبرير التاريخي؟
إن وصول الفكر العربي إلى مرحلة الوعي التاريخي الشامل، يمثل بداية الاستقلال والإبداع المعرفيين، في أفق تحويل هذا الوعي إلى فاعلية حداثية. ويمكن القول بأن تقديس التاريخ، باسم هوية متعالية، يدمر الوعي التاريخي بل الوعي بالتاريخ المعاش. وقد يحاول تيار هذا النزوع القداسوي الكلام عن الصيرورة التاريخية من خلال نزعة إنسانوية، ترى في الأخلاق أساس الحدث التاريخي. وفي هذا السياق يمكن للعملية التاريخية أن تتحول إلى تجربة قربانية، تبرر الهيمنة أو جدلية العبد والسيد بين الشعوب. فيصبح غزو الآخر، للبلدان المستضعفة، عملية تدميرية تدفع من الناحية السيكولوجية إلى انفصام العقل الغربي، ودفع المجتمع المتخلف نحو المزيد من تقديس تاريخه، دون وعي تاريخي. فهل يمكن القول، مع المفكر المغربي عبد الله العروي بـ"أن الاعتراف بالكوني الشامل هو في الواقع التصالح مع الذات"؟ ما دام هذا الكوني يحضر فينا إيجابا، ويدمرنا سلبا كذلك، ويفقدنا شخصيتنا التاريخية، بسبب ذلك التمثل السلبي الذي يتعامل به الآخر. ومع ذلك يحاول المثقف العربي نسج نظرية حول تاريخ وحدوي يتأسس على منظور أحادي للغة والإنسان والثقافة. إنها عملية معرفية تريد جعل تاريخ مشتت الكيان، وحدات متناغمة مع ذاتها. وقد يدفع هذا إلى إقصاء التعدد والاختلاف والصراع. صحيح أن هناك مصيرا مشتركا لكل المكونات التي أسست التاريخ العربي،
لكن البحث في أسباب الاختلاف والصراع والصدام مسألة جوهرية تهم كل باحث اجتماعي لا يرى في التاريخ وحدة إلا من حيث بعده الاختلافي والتعددي. إن أطروحات التاريخ الوحدوي لا تخدم العلم في الغالب، خصوصا عندما تكرس التعالي التاريخي وتغفل مكامن التنوع داخل البنية الاجتماعية. أي تنوع في النظر للذات والآخر، والبدائل المطروحة. وقد يستلزم المثقف الهيجلية أو الماركسية المبسطة ليمارس تعاليا تاريخيا، لا يخدم إلا الإيديولوجيا من داخل حقل التاريخ. إن اعتبار التاريخ العربي وحدة مطلقة باسم سلطة فكرة مطلقة أو نظام عقلي، حسب نموذج هيجل، أو وحدة مادية، باسم أطروحة "وحدة العالم في ماديته" حسب نموذج ماركس، قد يغفل اللاشعور الكامن في هذا التاريخ الوحدوي المتعالي. مما يفرض بالضرورة نقد النظرة المطلقة للتاريخ، سواء كانت مثالية أو مادية، خصوصا وأن ذلك يؤثر على كيفية طرح الهوية والخصوصية، وأسباب الأزمة. إن النقد التاريخي، في اتجاه معكوس لهذا المنظور، عليه أن يزرع القلق في كل مطلق، وبداهة، ووحدة مطلقة، من أجل طرح تساؤلات حول أسباب الأزمة والانهيار، والصراع العنيف القائم داخل المجتمع العربي. إن أطروحة التاريخ الوحدوي تؤسس لتاريخ متطابق مع ذاته، أي مع الأخلاق؛ أخلاق من يريد أن يكون التاريخ منسجما مع العقل أو قل مع الخير المحض. لا بد إذن من رسم نظرة أو فلسفة تاريخية على أساس تداخل داخل جدلي بين الوحدة والتنوع، بعيدا عن أطروحة العقل الكوني والهوية المطلقة. ولعل نقد أطروحة التاريخ الوحدوي، يمثل بداية التعامل العقلاني مع فلسفة التاريخ المطلقة بمختلف أشكالها الغربية والعربية الخصوصية، فرد التاريخ إلى العقل والعقل إلى المطلق والمتعالي، لا يترجم إلا إرادة التغييب لسؤال أساسي، من المسؤول عن الهزائم والانهيارات في التاريخ العربي-الإسلامي؟ إن التأمل في فلسفة الفعل، والنظر في أسباب الأزمة، سيجعلان من الفلسفة التاريخية المنشودة، زاوية للنقد وليس للتبرير الإيديولوجي.
وإلا سيبقى المجتمع العربي صريع منطق الاستبداد ووهم الحقيقة المطلقة، وهيمنة الآخر. وفلسفة التاريخ البديلة لا يمكن أن تؤسس لشكل جديد من الوعي إلا إذا تأسست هي نفسها، خارج مفهوم المثال، والميتا-تاريخ، وكرست مجهودها المعرفي للبحث في أسباب الانحطاط التاريخي، في الوعي والوجود. ولا يمكن نسيان بأن الانهيار العربي كان انحدارا حضاريا شاملا، ويمكن التعبير عنه بسؤال جوهري هو: ألا تؤدي فلسفة الحضارة، الحالية، إلى نوع من التعتيم عن الأسباب العميقة للأزمة، مما يفرض ضرورة بناء مفهوم علمي جديد للحضارة والزمان، من أجل ممارسة نقد عقلاني لفلاسفة الحضارة، والذين شكلوا مرجعية أساسية للكثير من المفكرين العرب، الذين يستلذون ترديد شعار الحضارة العربية-الإسلامية، من داخل مركزية-شرقية أو إسلامية من دون نقد تاريخي. إن الفكر الحضاري المعاصر، يمتلك أبعادا نقدية للعقل الغربي، لكن يجب تصريفها في اتجاه العلوم والفلسفة النقدية. فتجاوز الهزيمة لن يكون بترديد أطروحات شبنجلر مثلا، أو إعلان سقوط الغرب، وانحلاله الأخلاقي، بل بتفكيك أسباب الهزيمة أولا, ونقد حداثة الآخر عقلانيا، ثانيا، والبحث عن بدائل واقعية من أجل تجاوز التخلف والتبعية المطلقة. وعودة التاريخ العربي-الإسلامي إلى الواجهة، لن يكون إلا بتجاوز المعوقات التي جعلته يتخلف عن التكونن لصالح التراجع. ويمكن القول بأن فلسفة الحضارة المعاصرة التي تومن بدائرية الزمان وأطروحة أصالة التاريخ العربي-الإسلامي لا تساهما إلا في تكريس أزمة وعي المثقف العربي، وتأجيل فلسفة الفعل وتحويل التصورات المناهضة للآخر، إلى مجرد لغة رد فعل تحلم بطوبى عودة الشرق. وكل هذا يعني أن التمركز حول الغرب أو الشرق معا، لن يولد إلا فلسفة الإحباط التاريخي لدى المثقف العربي والمطالب بنقد الإيديولوجيا المقنعة بالتاريخ، وبناء فهم تعددي للتاريخ العربي والكوني وتجاوز المنظور الطبيعاني للحتمية، والتخلي عن أطروحة العقل الكوني، والبحث في تواريخ جزئية عميقة مسكوت عنها، وكل هذا يتطلب التداخل بين علوم إنسانية متعددة، أساسها الفلسفة النقدية الهادفة لإحداث قطع جدلي مع مكبوتات الهزيمة، في ظل الاهتزازات الكونية المروعة. وبدون حصول هذا التجديد سيبقى ابن خلدون أكثر تقدما من الخطاب العربي الراهن، الذي قد يغفل جدلية الغالب والمغلوب، وأسباب تبدل الأحوال في الأمم والأجيال، وحدود العقل خصوصا إذا كان هذا الأخير يهدف للمطلق وليس للنقد والخلخلة.
إن مقال التاريخ الخلدوني، يمكن أن يمثل نقدا ضمنيا لكل مثقف متخلف عن تاريخه، يخلط العلم بالإيديولوجيا، والميتافيزيقا بالنقد العلمي، ويرد أسباب الانهيار العربي الحالي إلى القدرية، أو الميتا-تاريخ، أو السيكولوجيا، أو عوامل وراثية، وليس إلى شروط العمران البشري، العربي المعاصر والذي يتعرض للهدم من الداخل والخارج، في ظل الهيمنة الجديدة للإمبريالية وإيديولوجيا الخصوصية المطلقة. إن تجاوز ابن خلدون يتطلب إنجاز نقيض الواقع الذي حلله وركبه، بعبقرية فذة، وبالتالي تملك فلسفة تاريخية جديدة لا تمت للزمان الدائري بصلة. إننا نحس بقلق عبارة ابن خلدون ونحن نقرأ خطابه التاريخي في ظل انهيار العرب زمن ما بعد-الراسمالية. وهذا القلق مقرون بعلمه وفلسفته في التاريخ، خصوصا وأن ابن خلدون يبقى مشكلا لمكبوت المثقفين العرب اللاهثين وراء قول جديد في التاريخ. وقد قال العلامة، في نقده لصنف من المؤرخين والرواة، ما زال يتجدد لحد الآن: "ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها. ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها. فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل. والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل. والتقليد عريق في الآدميين وسليل. والتطفل على الفنون عريض طويل. ومرعى الجهل بين الآنام وخيم وبيل. والحق لا يقاوم سلطانه. والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه"([5]).
إن تحديث الرؤية التاريخية وضبط العلاقة مع الآخر، وفسح المجال للنقد، وإقرار مسافة معرفية مع التراث، لتمثل شروطا ضرورية لكل فكر تاريخي نقدي. فبدون معرفة الآخر بشكل علمي، وضبط تاريخ تشكلاته وآليات تفكيره، لن يستطيع المفكر العربي نقد العقل الغربي الذي ما زال يحاول نسف الاختلاف من داخله وترجمة تاريخه الإيديولوجي بشكل أحادي ولا عقلاني ضد كل حضارة مغايرة. وما يشكل أساس عملية تقويض الآخر لحداثته هو منطق الغلبة، والذي يحاول الغرب، من خلاله نقض الاختلاف، وفرض نظرة واحدة وأحادية اتجاه الشعوب المتخلفة. إنها إرادة فرض منطق واحد للتقدم. والتأخر العربي قد يصبح بالنسبة للسياسي الغربي، تأخرا أبديا. ولا يخفى على أحد أن منطق الغرب قد يرى في التقدم الوحيد الممكن في العالم العربي، هو ذلك النموذج المرتبط بالتبعية وقرارات الدول العظمى، دون حرية اختيار المسار السليم والأقوم للحداثة. ففلسفة الغرب التاريخية هي جعل غاية التاريخ الغربي متمثلة في تحقيق التقدم على حساب تواريخ ومجتمعات أخرى، وبالتالي لن تكون نهاية التاريخ العربي سوى الانطباق على مصلحة الآخر. إنها عملية إعدام أي مقال جديد حول التقدم والتطور والحداثة، وكأن الفاعل التاريخي الوحيد للحضارة الأرقى لن يكون إلا الآخر. فعلى مستوى التاريخ، إذن، يصبح التاريخ الوحيد الممكن هو التاريخ الغربي المحكوم بالعقل الهيجلي. فهل يمكن للمثقف العربي أن يحرر هيجل من قبضة الغرب الاستعماري، دون نقض التبعية المطلقة للآخر وإفساح المجال أمام إبداع تصور معرفي نقدي، تواصلي، أي إنجاز فلسفته التاريخية البديلة وتسييد العقل النقدي المتفلسف كأساس للعقل التاريخي البديل. وهو ما أبدع فيه الفيلسوف الغربي منذ فيكو إلى فرناند بروديل مقعد أطروحة التاريخ الجديد. تتطلب إذن المسألة التاريخية الاعتراف بالإنسان ككائن تاريخي يمتلك أبعادا رمزية. ومن هنا لا انفصال بين الفلسفة والتاريخ، أو قل بين الفلسفي والتاريخي، بخصوص إشكالات الثقافة في مجتمعنا العربي. وقد يتحدد طموح الفكر الفلسفي-التاريخي العربي بين نموذج ماركس وهيجل وابن خلدون، وحتى بروديل، من أجل تقديم رؤية فلسفية بديلة للتاريخ. ولكن كثيرا ما ينفلت منطق التفكير من التاريخ كصيرورة ليتحول نحو التأمل الفلسفي المتعالي بعيدا عن ممارسة تركيب عقل تاريخي نقدي مؤسس على أرضية الحداثة وأسئلتها حول التقدم والتحرر والكونية. وإذا كان الغرب المعاصر يحاول جاهدا إعادة بنينة فلسفة التاريخ الهيجلية وتطعيم فينومينولوجيا الروح بالقوة المادية، فإن هيجل ما زال يحضر كبيان فلسفي في الكثير من التوجهات الفكرية العربية والإسلامية، حتى الماركسية منها. إضافة إلى هيمنة نموذج فكري كامل هو فلسفة تاريخ دائرية مطبوعة بالخلدونية والفكر اللاهوتي.
والمشكل بطبيعة الحال ليس في ابن خلدون أو هيجل أو ماركس، بل في كيفية تعاملنا معهم. وإذا كان هيجل مثلا أسس عبقرية فلسفية ما زالت تغدي الروح العقلانية ومصداقية دور الفكر في تأسيس الوجود والعالم، وإذا كان ابن خلدون أبدع معرفة جديدة هي علم التاريخ، فإن الموروث الفلسفي والفكري الإسلامي، ما زال يغدي النظرة الدرامية للعالم ويكثف التراجع ويلجم إمكانية تبلور العقل التاريخي المنشود. هذا الأخير هو أساس الوعي النقدي المتملك لتاريخه من جهة والمحقق، بالفعل، لإرادة الإنسان في التاريخ وبالتاريخ المنجز على صعيد الوعي. ففي سياق هذا التراجع العربي المهول ومأزق الكثير من النماذج المعرفية تبرز حاجة المفكر، في مجتمعنا الراهن، إلى فلسفة خلدونية جديدة، وقد نحس ذلك من خلال إسهامات عبد الله العروي وبنسالم حميش وعلي أومليل ومحمد عابد الجابري، والذين حاولوا بناء مقال في فلسفة التاريخ على أرضية تقديم مشروع قراءة جديدة لابن خلدون. وهو الأمر الذي أثار سجالات منهجية وإيديولوجية عديدة، وكما يقول علي أومليل، في إطار رده على تصورات جعلت من ابن خلدون مؤسس فلسفات التاريخ الحديثة: "إلا أن قيام فلسفة التاريخ بمعناها الدقيق، أي الطريقة القصدية في إدراك التاريخ بصفته معطى موضوعيا، وعنصرا فاعلا، وفي التفكير في مبادئه المحركة، وغائيته، هي مسألة مرتبطة تاريخيا بتطور الفكر الغربي وخاصة منذ القرن الثامن عشر"([6]).
ومن الواضح أن مراجعة فكر ابن خلدون في سياق إنجازات الفكر الغربي يمكن أن تمثل بداية الحوار النقدي مع التراث والحداثة في آن واحد، وهذا ما يمكن استخلاصه من الأطروحة الهامة لبنسالم حميش، وهي "الخلدونية في مرآة فلسفة التاريخ" والتي يؤكد فيها: "أما إذا أعدنا الخطاب التاريخي الخلدوني إلى مادته العلمية خلصناه من حلقاته، وعقيدته الموثوقية البارزة فإنه يكتسي في العمق مع وجود فوارق، خاصيات ثلاث: المادية، والوضعية، والدائرية"([7]). فابن خلدون، إذن، أصبح علامة بارزة في التنظير لفلسفة التاريخ، داخل الفكر العربي الراهن. وقد سبق للمفكر محمد عابد الجابري، أن أكد عليه في كتابه العقل السياسي العربي، معيدا بذلك الاعتبار لهذا الفيلسوف، والذي سبق له أن أشاد براهنيته في مؤلفه نحن والتراث حيث يقول: "وبالفعل نحن ننطلق هنا من أن إشكالية ابن خلدون، ما زالت، معاصرة لنا، أي قابلة لأن تندمج في إشكالياتنا الراهنة، وقابلة لأن تتفاعل معها وتساهم في توضيحها وتوفير الشروط الضرورية لتجاوزها"([8]). فالخلدونية إذن تشكل هاجس كل فكر عربي معاصر، ينشد بناء فلسفة تاريخ تلازم طموحات مجاله الحضاري. وكل إنتاج لتصور خلدوني جديد لن يكون إلا تجاوزا للمركزيات الحضارية والنظرة الدائرية للزمان من جهة، وتأسيسا لفهم جذري لإشكالية التخلف والانهيار التاريخي في زمن ما بعد-الرأسمالية من جهة أخرى. وهذا هو التحدي الكبير أمام المفكر العربي المراهن على تجديد تراثه وتبيئة الحداثة وفق المعطيات والشروط الراهنة. ففلسفة التاريخ إذن هي القدرة على صهر الوعي داخل الصيرورة التاريخية، وفق مبدإ أساسي هو: تحقيق التواصل الزماني بين الحاضر والمستقبل، دون إخلال بمقولة التطور. والتحدي الكبير دائما هو إمكانية الانفلات من سلطة النزعة المركزية الأروبية وتحويل مطلب الحداثة إلى مساءلة جذرية لمنزلقات العقل الغربي، وقد تنبه عبد الله العروي إلى هذه المسألة إذ يقول: "فالتأورب إذن ممكن بل حتمي وتجاوزه مطلب يخصنا كما يخص أوروبا ذاتها. والواقع هو أننا إلى حد الآن، وباستثناء كتابات ظرفية، لم نر مفكرا من كبار مفكري العالم الثالث نقد نقدا جذريا الأدلوجة الأوروبية الأساسية أي العقلانية المطبقة على الطبيعة والإنسان والتاريخ"([9]).
ففلسفة التاريخ المنشودة لن تكون إذن إلا نقدية، ومؤسسة على إنجازات علم التاريخ المعاصر (مدرسة الحوليات) وباقي العلوم الإنسانية من ناحية، وعلى إسهامات الفلسفة ذات البعد النقدي وغير المهادنة لعمليات التمركز الإثني والتنميط المعرفي والتبرير الإيديولوجي من ناحية أخرى. ومن هنا تنبع أهمية الربط من جديد بين الفلسفة والتاريخ على قاعدة المنهج العلمي في أفق بناء وعي فلسفي-تاريخي شامل فيما يخص كينونة الإنسان العربي وإكراهاته ورهاناته، وفق هدف أساسي وهو: إنجاز الزمانية في قلب التاريخ. والربط من جديد بين الوعي أو الإنسان والتاريخ، ليس في نهاية المطاف إلا بداية تشكيل الموقف الإنساني-الوجودي داخل الرهانات الكونية. ووفق تفاعلات اللاشعور الذي يؤسس الحقل التاريخي، كمختبر للنظريات والمواقف والتساؤلات. إن فلسفة التاريخ كتفكير منفتح، حول فاعلية الإنساني في قلب التاريخي، تمثل خلاصة النظرة النقدية للعالم والإنسان والحضارة. والإشكال المركزي هو مصير الإنسان، في ظل محدداته التاريخية والحضارية وانتماءاته الميتافيزيقية. إن التفكير في فلسفة التاريخ حاليا،ـ هو طرح لدراما الوجود العربي المعاصر، وموقعه للوعي المتأزم داخل شبكة الانهيارات الحاصلة في كل المجالات. ومن هنا تفرض أسئلة متعددة على المثقف العربي ومنها: كيف نعيد تشكيل الكينونة التاريخية في ظل التخلف؟ كيف ننتج فكرا تاريخيا، لصالح الإبداع والفعل والتفاعل ضد الفشل والإخفاق والهزيمة؟ ما مصير التاريخ العربي في ظل انهيار فاعليه ومعاييره؟ إنها إشكالية غياب وعي تاريخي عربي معاصر يمتلك نظرية حول الماضي والمستقبل، من خلال القدرة على القبض على الإشكالات القائمة في الزمن الحاضر.
ومن هنا كل ممارسة فكرية ستبقى مشروطة بمنظور محدد للتاريخ. أي أن أفق كل فكر هو الانتماء لفلسفة تاريخ محددة، وما يعنيه ذلك من انفتاح رؤية المفكر على زمان لا نهائي، كثيرا ما يضع الإنسان في قلب أسئلة مصيرية تدفعه إما للتفكير في المستقبل، أو تفجير جديد للمكبوت التاريخي. من هنا إذن تنبع أهمية ومشروعية تأسيس علم التاريخ على أرضية نظرة جديدة للإنسان، والزمان، والضرورة، والفعل، دون السقوط في القدرية أو الحتمية الصارمة، أو اللامبالاة إزاء الحدث التاريخي. إن الانتقال من حقل التاريخ إلى الفلسفة، ومن الفلسفة إلى التاريخ لا يترجم إلا الجدل الضروري في نمط التفكير الواعي بأحقية السؤال حول المصير الإنساني، دال كل حقبة تاريخية محددة، وضعف الفكر التاريخي في مجتمعاتنا، رغم المحاولات الرائدة لكل من قسطنطين زريق، وعبد الله العروي وعزيز العظمة، وبنسالم حميس، ينبع أصلا من غياب فلسفة تاريخية محددة. فالارتماء في أحضان اللاتاريخية كثيرا ما يغلق العقل على ذاته، والارتباط بالتاريخ الحدثي (حسب بروديل) يقوض إمكانية الانفتاح عن نظرية اللاشعور التاريخي وتاريخ الذهنيات، حسب جاك لوغوف. ومن هنا يطالب المفكر العربي بتحقيق ثورة في الفكر العلمي عامة، ما دام الأمر يهم العلاقة العميقة بين العلم والتقدم التاريخي. إن انهيارات عربية متواصلة وتحولات جذرية في التاريخ الكوني والتطور المذهل للعلوم، أي تفتيت الزمان الفيزيائي وتحويله إلى لا متناهي في حقل البيولوجيا والمعلوماتية والسبرنتيك، كل هذا يفرض ضرورة تملك فلسفة جديدة للتاريخ من منطلق أساسي وهو بناء نظرية نقدية حول القضية المركزية في الفكر التاريخي وهي؛ الزمان.
ومن هنا على فيلسوف التاريخ العربي أن ينصت بعمق لثورات العلوم، التي تحطم باستمرار كل البديهيات، وعمليات تصنيم المعارف والأحداث التاريخية. كما أن التعامل النقدي مع أطروحة نهاية التاريخ (ماركس، هيجل، فوكوياما) يجب أن يأخذ بعين الاعتبار، طابع الرفض الذي يتعرض له الوعي التاريخي، في مجتمعاتنا، وذلك باسم المقدس أو التاريخ القداسوي أو الحقيقة المطلقة. وهذه قضية أخطر من إيديولوجيا نهاية التاريخ لأنها تلغي أولا وقبل كل شيء، ملكة أساسية وهي: العقل، وبالتالي إمكانية حصول جدل بين الوعي والتاريخ. فصناعة الحكمة التاريخية (La sagesse historique) إذن لا تنفصل عن ضرورة النقد الفلسفي العقلاني لكل أشكال الأسطرة والتقديس الذي يتعرض لها التاريخ، دون نسيان أهمية نقض التأويل الدموي الممارس على الأحداث التاريخية الكونية والحاسمة. ففلسفة التاريخ البديلة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مركزية الفاعل التاريخي من جهة وعلاقة المثقف بالصيرورة التاريخية من جهة أخرى. وهنا تكتسي أطروحة عبد الله العروي حول التاريخانية أهميتها. كما أن الثورة المهولة للعلم، باتت تشكل مأزقا لكل ممارس للفكر التاريخي، خصوصا وأن العقل التقني أصبح محددا للعقل التاريخي، وما يشكله ذلك من هدم لكل النظريات التقليدوية والقداسوية للتاريخ. وحتى فوكوياما منظر فلسفة التاريخ الهيمنية يقول في مقال له تحت عنوان: "عشر سنوات على مقال نهاية التاريخ" بأن التطور المفتوح للعلوم الطبيعية سيجعلنا في القرن المقبل ندرك قوة العلوم الحيوية على تحقيق ما لم تستطع تحقيقه الهندسة الاجتماعية، ومن هنا سينتهي التاريخ البشري بنهاية الكيانات البشرية، أي سيبدأ تاريخ ما بعد البشري([10]).
وما يهمنا في هذه الأطروحة هو الدور الذي أصبح يمارسه المختبر العلمي على العقل التاريخي، مما يقلص فاعلية التأمل الفلسفي في حقل التاريخ، ويطرح إشكالات عويصة تهم طبيعة تعاملنا، نحن العرب والمسلمين مع التراث، ومع الحداثة ومع التقنية خاصة. فالإشكال أصبح يتجاوز التخلف التاريخي، نحو طرح أسئلة تهم أنطولوجيا الوجود العربي. مما يعني أن الكلام عن الحتمية الصارمة والعقل المنطقي لا يعفي من إثارة مسألة الوجود، وهي محور إسهامات ناقد التاريخانية، الخطيبي والذي يقول: "لقد نسينا ألفباء مسألة الوجود والموجود، ومسألة الهوية والاختلاف، وما زلنا نتكلم دون حياء عن الهوية والنهضة العربية"([11]). ففلسفة التاريخ، في الظروف العربية الراهنة، لن تنفلت لا من إشكالات العلم ولا من قضايا الفلسفة، ولا من ملابسات وإكراهات الماضي أو التراث. وفي هذا السياق يصعب اعتماد نفس العقلانية الخلدونية في حقل تاريخي وقائعي ملتهب ومتعدد الأبعاد والرهانات. فابن خلدون ذاته كـ"فيلسوف تاريخ" لم يعبر إلا عن راهنيته وبالتالي أبدع وفق نسقه التاريخي. وكما يقول عبد الله العروي: "أما ابن خلدون فإنه، بالعكس، يحصر التاريخ، حصرا، فيستبعد إمكانية التجديد لمعاكسة سنن الكون"([12]).
فلكل مرحلة فلسفتها التاريخية الخاصة بها. ورهانات الفكر التاريخي المعاصر تتمحور حول الدفاع عن فلسفة التاريخ المبررة لآليات الهيمنة أو الرغبة في البقاء ويترجم هذا في سعي الغرب باستمرار إلى تكريس تمركزه العرقي والحضاري، من جهة، ومحاولة دفاع شعوب العالم التابع عن الحق في ممارسة الفعل التاريخي، ولو عبر خطاب مركزية حضارية جديدة. فمراجعة الوضع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي العربي، لن يستقيم دون إعادة النظر في حقل التاريخ وإشكالاته ومفاهميه، في أفق إعادة الاعتبار، لمجال فكري أبدع فيه العقل الإسلامي، وهو مجال التاريخ، لكن دون أن يبلوره فلسفيا وحضاريا. وإنجاز عقل عربي مستقبلي سيكون بالضرورة إبداعا في حقل الفلسفة والتاريخ على حد سواء .
هوامش:
1 – د.عبد الله العروي: (التقليد والتخلف التاريخ) مجلة بيت الحكمة، عدد 1، 1986، ص157.
2 – د.عبد الله العروي: مفهوم العقل، المركز الثافي العربي، ط.1، الدار البيضاء-بيروت، 1996، ص11.
3 – د.عبد الكبير الخطيبي: المغرب العربي وقضايا الحداثة، ترجمة مجموعة باحثين، منشورات عكاظ، ط.1 (د.ت)، ص167.
4 – فرناند بروديل: حركية الرأسمالية، منشورات عيون، ترجمة محمد البكري ومحمد بولعيش، ط.1، الدار البيضاء، 1987، ص86.
5 – ابن خلدون: المقدمة، دار القلم، ط.1، 1978، بيروت-لبنان، ص4.
6 – د.علي أومليل: الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون، معهد الإنماء العربي (د.ت) بيروت، ص168.
7 – بنسالم حميش: (الخلدونية في مرآة فلسفة التاريخ)، مجلة الاجتهاد، عدد 22/1114، ص114.
8 – محمد عابد الجابري: نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت، 1980، ص376.
9 – عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، ط2، 1984، ص168.
10 – فرنسيس فوكوياما: (عشر سنوات على مقال نهاية التاريخ)، مجلة الثقافة العالمية، عدد 92، ترجمة منصف الشنوفي، ص8.
11 – A. Khatib, Maghreb pluriel, S.M.E.R. DENOEL, 1983, p28.
12 – عبد الله العروي: مفهوم العقل، نفس المرجع السابق، ص354-355.