إن الاهتمام الذي توليه المقاربة التربوية الحديثة لبيداغوجيا الفروق الفردية كأحد الاختيارات الأساسية لتطوير الأداء التعليمي يدفعنا لإثارة التساؤل حول مدى حضور المعطى النظري المستمد من نتائج علم النفس الفارقي , و دلائل تمثله في الممارسة الصفية .
فالسعي إلى تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص , والرفع من جودة و فاعلية النظام المدرسي , و تبني قاعدة علمية لمواجهة الهدر المدرسي , بالإضافة إلى ضمان مخرجات بشرية مؤهلة و قادرة على التكيف مع المتغير العالمي رهين باستثمار أفضل لحقيقة الفروق الفردية , كإحدى أهم حقائق الوجود الإنساني .
يُقصد بالفروق الفردية تلك السمات النفسية و الجسمية و العقلية التي تميز كل انسان عن غيره , و بلغة أهل القياس " هي الانحرافات الفردية عن المتوسط الجماعي في الصفات المختلفة " . و تتجلى أهمية الكشف عنها في التمكن من فهم أسلوب كل فرد في التعبير عن حاجاته و انفعالاته من جهة , وفي الإعداد الوظيفي و المهني الملائم لاستعداداته .
لكن ما يُثير الانتباه حقا , وقبل متابعة الحديث عن حجج كل فريق , هو التركيز المفرط على هذه الظاهرة في الخطاب التربوي المعاصر , و التسليم بتعذر استئصالها مما ينجم عنه نسيان أو إغفال ما هو مشترك بين ابناء الجنس البشري ! ألم يُحدد النص القرآني وحدة الأصل و الغاية في قوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا " ؟ بمعنى أن الناس مشتركون في سعيهم الى تلبية حاجاتهم المادية و المعنوية , إلا أن درجات هذه التلبية تتحكم فيها عوامل شتى في مقدمتها البيئة و المحيط الاجتماعي , مما يُولد فروقا مصطنعة تنضاف إلى الفروق الموروثة .
تبنى داروين ومن بعده وريثه فرنسيس غالتون مبدأ الأصل الوراثي للفروق بين البشر , وأن أية محاولة لإلغائها تُعد ضربا من العبث .يقول داروين في كتابه الشهير "أصل الأنواع" : " لا يفترض أي إنسان أن جميع الأفراد التابعين لنفس النوع قد صُبوا في القالب ذاته , فهذه الاختلافات الفردية بالغة الأهمية لنا لأنها تكون غالبا موروثة , وهو الذي يجب أن يكون معروفا لدى كل إنسان, وهي بذلك تزود الانتقاء الطبيعي بالأدوات اللازمة للعمل عليها " , أما غالتون الذي يعده البعض " أب الفروق الفردية" فيسوق في كتابه " العبقري بالوراثة" حججا و دلائل تثبت المنحى الوراثي الذي تتخذه السمات البشرية . إذ خلُص في أبحاثه حول العبقرية إلى كون هذه الأخيرة تتبع خطا وراثيا قارا , واستبعد أي دور للبيئة كمثير . غير أن هذه النظرة الداروينية المتطرفة قوبلت بكثير من الحذر لكونها تقدم مسوغا للإبقاء على اللامساواة و تبرير الامتيازات التي تحظى بها فئة محدودة في مجال التربية و الشغل و الوجاهة الاجتماعية (1) .
لذا يؤكد أنصار المساواة على أن الفروق البيولوجية في حقيقتها طاقة لامحدودة للنمو تعبر عن نفسها بشكل يختلف من فرد لآخر , و أن استثمارها وتطويعها سيُسهم بشكل كبير في إثراء الحياة الاقتصادية و الاجتماعية . أما باقي الفروق فقد نشأت في ظل إطار اجتماعي يؤمن بثبوتها و استحالة التكيف بدونها , وهذا ما يُصرح به أحد العلماء الذين عنوا بدراسة الفروق الفردية وهو دافيد وكسلر في كتابه " مدى الكفاءات الانسانية " بقوله : " إن الفروق الكبيرة جدا التي نجدها في الدخل و في المركز الاجتماعي ليست بالتأكيد ناتجة عن فروق قائمة في الطبيعة , بل إنها مبالغات اصطنعها الناس و نسجوها حول تلك الفروق " (2) وقد بلغ الأمر حد إغراق السوق التربوية بالكثير من البحوث التضليلية التي تؤكد أبدية هذه الفروق في مجالات التعلم و الكفايات المهنية !
وتبدو الصيغة التوفيقية التي يقترحها اتجاه ثالث هي الأصوب , وذلك من خلال التمييز بين الفروق في الخصائص و السمات , وبين الفروق في الأداء و التي تنشأ عن النقص في استيفاء الحاجات الاساسية وهو ما يؤكده عالم النفس ابراهام ماسلو حين يُشير إلى أن سوء تلبية الحاجات المعنوية " الأمن و الحب و الانتماء و الهوية و تحقيق الذات..." ينقش في الناس عموما , لاسيما في جماعة المتعلمين فروقا في المعرفة و الوجدان و النزوع من شأنها أن تُعقد عمليات تعلمهم المدرسي و غير المدرسي (3).
وبما أن المشاريع التربوية الحديثة تراهن على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في التعلم و عدالة الوصول إلى أقصى مراتب الجودة ,فإن مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين ينبغي أن تتجاوز الإطار النظري صوب تمثل واع في الممارسة الصفية . وهو ما تفتقر إليه المدرسة العربية عموما و المغربية على الخصوص بالنظر إلى طبيعة الإكراهات التي تحد من فاعلية أي مشروع تربوي , وفي مقدمتها ضعف التكوين المعرفي و البيداغوجي الذي يتلقاه المدرسون , وافتقار المدرسة إلى البنية التحتية المناسبة , والقصور الملحوظ في نشر المعرفة التربوية , دون أن ننسى مشكل تعدد الإطارات المرجعية فيما يتعلق بمنهجيات التدريس .
فكيف يمكن مراعاة الفروق الفردية في ممارسة تعليمية لا زالت متمسكة بالطريقة التلقينية ؟
وهل الأنشطة التعليمية المقترحة في هذا الصدد تقلص هذه الفروق أم تعمل على تثبيتها ؟
وما مدى تمكن المدرس من آليات و أساليب تشخيص الثغرات و ضبط استراتيجيات العلاج؟
إنها اسئلة تفرض نفسها بحدة أمام تسرع في تنزيل التصورات و الطموحات دون تفعيل حقيقي لشروط الإنجاز .
(1) : د.أحمد صيداوي . قابلية التعلم .معهد الإنماء العربي .ط1 1986 .ص24
(2) : نفس المرجع .ص43
(3) : نفس المرجع . ص 18