تعتبر المسألة التربوية رهانا حضاريا ومدخلا من مداخل التحول والحراك الاجتماعي، مما يجعلها بحق رافعة للتنمية المستدامة وأحد أهم معاييرها. وللوقوف على أهميتها لابد من تنويع المقاربات ومنها المقاربة التاريخية، ليس ذلك من باب حب الاستطلاع أو الترف الأكاديمي ولكن العارف بأهمية التاريخ ودوره المحوري يستشعر ما للمدخل التاريخي من أهمية لفهم مختلف أبعاد أي مجال، مما يجعل من المقاربة التاريخية وسيلة فعالة لإغناء النقاش العمومي حول تاريخ نجاحات النظام التربوي وإخفاقاته، وأسبابها وطرق تجاوزها.
إن الحديث عن النظم التربوية لما له من راهنية وقيمة معرفية ومنهجية، تفرض على الباحث في التاريخ والتربية اقتحام هكذا مواضيع وقضايا ذات الحساسية الاجتماعية وتجبره على تجديد اهتماماته ومناهجه وأدواته ومفاهيمه وآفاقه في ظل زمن "العولمة". في هذا المقام سأقوم بالتطرق إلى أهمية دراسة تاريخ النظم التربوية دون الخوض في باقي المداخل المفاهيمية والمنهجية وما يرتبط بها من خصوصيات وإكراهات و إمكانيات التجاوز. وهي مواضيع بحوث قادمة بإذن الله.
تاريخ النظم التربوية بشكل عام هو معالجتها من المنظور التاريخي وهو ما يعني أن له موضوعا مستقلا بكيانه، وهو كذلك جزء من التاريخ العام مثل تاريخ النظم السياسية والعسكرية والاقتصادية... وفي سياق تفكيك مجال الدراسة نجد الباحثين حين يتحدثون عن التربية يقسمونها إلى قسمين كبيرين:
قسم يهتم بتاريخ التربية بشكل عام.
قسم آخر يهتم بتاريخ التعليم في المدارس وهو نوع من تاريخ التربية إلا أنه خاص بالتربية الممنهجة داخل المدارس ، هذا الأخير الذي أقصده من خلال مفهوم الأنظمة التربوية. وذلك حصرا للمجال لأن تاريخ التربية يتسع باتساع أنواع التربية والعوامل المؤثرة فيها وباعتبارها ظاهرة اجتماعية تنضبط لقوانين الظواهر في نموها وتطورها.
من خلال ما سبق يمكن حصر أهمية دراسة تاريخ النظم التربوية في ثلاث جوانب أساسية:
أهمية علمية – أكاديمية
لم يعد النقاش أو الجدال في اعتبار التاريخ أدبا بل علما قائما بذاته وهو ما يسري على تاريخ التربية باعتباره علما من العلوم مما يجعل له قيمة في حد ذاته بغض النظر عن المنافع المرجوة من خلال دراسته.
أهميـة حضاريـة
إن دراسة النظم التربوية عبر التاريخ يدخل ضمنيا في نطاق دراسة حضارات الشعوب والأمم المختلفة ويمكن من التعرف غلى مختلف جوانب رقيها وانحطاطها، مما يجعل تاريخ النظم التربوية مصدرا من مصادر الفعل الحضاري.
أهميـة نفعيــة
تكمن في استخلاص الدروس والعبر المستفادة من دراسة الماضي باعتباره وسيلة لفهم مختلف الجوانب المتدخلة في المجال التربوي ويمكن الحديث في هذا السياق عن بعض المنافع:
التعرف على خصائص النظم التربوية في المجتمعات والعصور وجوانب ازدهارها وقصورها.
فهم العلاقات بين تطور المجتمعات وارتباطه بتطور نظمها التربوية.
التعرف على نظرة المجتمعات والدول عبر العصور لنظمها التربوية ومختلف المتدخلين فيها.
دراسة مدى تأثير النظم التربوية في مسار الدولة والمجتمع عبر التاريخ أو ما يمكن تسميته ب" سوسيولوجا المدرسة".
فهم وتتبع نشأة النظريات التربوية في مختلف المجتمعات ومدى فاعليتها باستحضار سياقاتها السياسية والسوسيواقتصادية.
إحياء التراث التربوي القديم والمحافظة عليه باعتباره إرثا تراكميا يمكن البناء عليه غي مختلف مناحي التجديد والإصلاح...
إن التربية سلسلة كل حلقة ترتبط بالأخرى وبالتالي لا يمكن فهم آراء المفكرين المعاصرين إلا من خلال دراسة آراء القدماء وهو ما يجعل للدراسة التاريخية أهمية قصوى فهي بمثابة البصر لجسد الإنسان حسب الفيلسوف الانجليزي فرنسيس بيكون، وهو ما يجعلها نافذة على الماضي من أجل فهمه ومن خلاله قيادة الحاضر في سبيل استشراف المستقبل. كل هذا يحتم على كل الفاعلين التربويين استحضار المقاربة التاريخية في أي إصلاح منشود للمنظومة التربوية.