كارل بوبر ومعايير العلمية - ترجمة وتقديم: أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم:
كان كارل بوبر مهتما بالتمييز (ترسيم الحدود) بين العلم وأشباه العلوم . تلك مسألة مهمة وما زالت ذات راهنية. بالفعل، من الواضح أن المصداقية التي تُعطى للمعرفة الناتجة عن المنهج العلمي وتلك الناتجة عن المنهج التأملي ليست هي نفسها. من أجل الإلمام بهذا الموضوع، اقترح ترجمة مقال باتريك جوينيي Patrick Juignet.
1- أصل تمشي بوبر
خلال إحدى الندوات، أشار بوبر إلى أصل تمشيه، مذكرا أنه في بداية القرن العشرين، عندما كان طالبا، رأى ظهور وفرة من "النظريات الجديدة، غير المكتملة في كثير من الأحيان" (بحث غير مكتمل، ص: 60). في ذلك الوقت، كان مهتما في نفس الوقت بنسبية أينشتاين، والتحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الأدلري، والماركسية. وكانت هذه النظريات موضع نقاش حاد بين الطلاب. شعر كارل بوبر بعد ذلك بأن المذاهب الثلاثة الأخيرة “على الرغم من ادعائها العلمية، شاركت في الأساطير القديمة أكثر من العلوم” (بحث غير مكتمل، ص: 61).
بدت نظرية ألبرت أينشتاين مختلفة بالنسبة إليه. وأشار إلى أنه، وفقا لأينشتاين نفسه، لن يكون من الممكن الدفاع عن نظريته إذا فشلت في اجتياز اختبارات معينة. أعلن أينشتاين أنه “إذا لم يكن هناك انزياح أحمر للخطوط الطيفية بسبب إمكانات الجاذبية، فلن يكون من الممكن الدفاع عن النظرية النسبية العامة” (أينشتاين ألبرت، 1917، نقلا عن بوبر وترجمته، بحث غير مكتمل، ص: 49). وفقا لبوبر، فإن موقف النقد الذاتي هذا الذي يعترف بأننا نستطيع إبطال نظرية ما يعد سمة من سمات العلم.
في هذا الصدد، قال بوبر: "هكذا توصلت إلى نتيجة في نهاية عام 1919 مفادها أن الموقف العلمي هو الموقف النقدي. لم تكن تبحث عن إثباتات، بل عن تجارب حاسمة” ( نفس المرجع، ص: 49).
يتعلق الحدس الثاني لكارل بوبر بالاستقراء. لقد توصل إلى فكرة أن الكثير من المعرفة لا يتم عن طريق الاستقراء، بل عن طريق الاستنباط. ومن هذا المنظور، تناول انتقادات ديفيد هيوم الذي أظهر أن الاستقراء يكون في بعض الأحيان باطلاً، وأنه في جميع الأحوال لا يمكن التحقق منه بطريقة كونية (لأنه سيكون من الضروري معرفة كل الوقائع حتى نهاية الزمن). قام بوبر بتوسيع المشكلة وتطبيق الاستدلال على المعرفة العلمية؛ فهو، على حد تعبيره، "أعاد صياغتها بطريقة موضوعية" (نفس المرجع، ص: 115) من خلال تطبيقها على العلاقة بين النظرية والملفوظات التي تصف الوقائع المرصودة في إطار العلوم التجريبية.
وخلص من ذلك إلى أن العلم، على عكس الأفكار المتلقاة منذ بيكون، لا يتميز بتمش استقرائي، بل استنباطي. إن تصور النظريات المجردة سابق ومستقل عن الوقائع الناتجة عن الملاحظات والتجارب. وهكذا عارض دائرة فيينا التي أكدت أن الاستقراء يجعل من الممكن إيجاد قوانين علمية. إن إعادة صياغته للعلم كعملية استنباطية وفرت أساسا منطقيا لمعيار التفنيد من خلال التجربة.
على أساس هذين المبدأين، خلص إلى أن التحقق في العلم غير كاف. إن ملاحظة عدد معين من الوقائع التي تدعم نظرية ما لا تؤكدها بشكل يقيني وكوني. وهذا يترك الباب مفتوحا للتهاون، لأننا نجد دائما عددا معينا من الوقائع التي تؤكد نظرية ما، حتى لو كانت خيالية. التحقق التجريبي المباشر لا يكفي لتأكيد صحة وعلمية المعرفة.

2- معايير العلمية
طرح كارل بوبر مشكلة التمييز بين التمشي العلمي والتمشي التأملي (شبه علم، إيديولوجيا) من حيث المنهج بالمعنى الواسع (أي الجمع بين الطريقة النظرية والعملية لإجراء البحث). بالنسبة لبوبر، يجب أن يعمل العلم بطريقة استنباطية، وينتقل من عموم النظرية إلى خصوص الواقعة التجريبية. هكذا، يجب أن تتم على ثلاث مراحل: النظرية، استنباط النتائج، التجربة التي يمكن أن تدحض النظرية.
يتضمن التحقق من صحة المنهج الذي يدعي أنه علمي أربع مراحل:
أ - تقييم تماسك النسق النظري؛
ب - توضيح الشكل المنطقي للنظرية؛
ج - المقارنة بالنظريات الأخرى؛
د - الاختبارات التجريبية.
هذه النقطة الأخيرة هي التي سوف نقف عندها، لأنها المساهمة المحددة لكارل بوبر.
يقترح بوبر معيارا يعتبره أكثر أهمية من التحقق للحكم على صحة النظرية، وهو "التفنيد" (الذي يُترجم غالبا بالمصطلح الإنجليزي "falsification" المناسب قليلا). ووفقاً لهذا المعيار فإن ملاحظة واقعة تجريبية واحدة غير مؤيدة للنظرية تدحضها. لاحظ أن هذا يعني 1/ الطابع الاستنباطي للعلم و 2/ اكتمال وكونية النظرية المعنية. فإذا سلمنا بهذين الجانبين، وإذا كانت هناك واقعة واحدة تخالف النظرية، فهي بالضرورة خاطئة. والمعرفة التي تعطي إمكانية الدحض هذه يمكن اعتبارها علمية، لأنها تعطي إمكانية التحقق القوي من صحتها.
بالنسبة إلى كارل بوبر:
"إذا كانت هناك تأكيدات نبحث عنها، فليس من الصعب العثور، بالنسبة إلى لغالبية العظمى من النظريات، على تأكيدات أو عمليات إثبات" وبالتالي "إن النظرية غير القابلة لأن تدحض بأي حدث يمكن تصوره تكون مجردة من الطابع العلمي". إن اختبار النظرية هو “محاولة إثبات خطإها ( زيفها ) أو دحضها”. يجب أن نلاحظ أن "بعض النظريات قابلة للاختبار بشكل أكبر، وأكثر عرضة للتفنيد من غيرها، وتتحمل، بطريقة ما، مخاطر أكبر". وفي المجمل، فإن معيار علمية النظرية "يكمن في إمكانية إبطالها أو تفنيدها أو حتى اختبارها" (الحدوث الافتراضية والتفنيدات: نمو المعرفة العلمية، ص: 64-65).
تعتبر إمكانية الدحض بالنسبة إلى بوبر معيارا أساسيا للعلمية: يجب أن توفر النظرية إمكانية إجراء “تجارب حاسمة
تسمح بدحضها حتى تصبح مؤهلة كعلمية. وهذا يعني أن النظرية صارمة وتسمح بالتنبؤات الدقيقة. أما إذا كانت غامضة وتقدم تنبؤات غامضة أو قابلة لتفسيرات فضفاضة أو قابلة للتأويل، فهي غير قابلة للدحض ولا يمكن اعتبارها علمية. إن تصور بوبر منطقي، لأن المعرفة التي تدعي الحقيقة (بمعنىىأنها ملائمة للواقع) دون أن القدرة على اختبارها من قبل المجتمع العلمي هي معرفة مشبوهة ولا يمكن أن تكون جزءا من متن علمي مقبول.
وطالما أن نظرية قابلة للدحض لك يتم دحضها، يقال إنها "مؤيدة". بالنسبة إلى بوبر، يحل التأييد محل التحقق. الهدف هو الاقتراب من المعرفة الحقيقية قدر الإمكان. هذه المقاربة للصحيح أو "رجحان الصدق" يحل محل الحقيقة المطلقة. إنه تقريب للحقيقة (بحث غير مكتمل، ص: 110)، وهو افتراض محتمل قدر الإمكان، بسبب الحالة الراهنة للمعرفة. في الواقع، يُظهر تاريخ العلم أنه بمرور الوقت، تظهر نظريات أفضل، وأنها تشمل النظريات السابقة أو تطيح بها. يتقدم العلم من خلال استبدال المعرفة الموجودة بمعرفة أكثر صدقًا قليلًا، أي أكثر اكتمالًا قليلًا وأكثر عالمية قليلًا. لكن نظرية علمية مؤيدة ليست نهائية أبدا، حيث قد يحدث دحض لها في يوم من الأيام.
3 - بعض جوانب عمل كارل بوبر
النسبية والواقعية
كان اهتمام كارل بوبر ثلاثيا في ما يخص التمايز وتأهيل المعرفة العلمية في مقابل العقائد الإيديولوجية. سلط الضوء على مسألة ترسيم الحدود التي لا تزال أكثر راهنية من أي وقت مضى! وأشار إلى أن الطريقة وليس النتيجة هي التي تسمح لنا بالحكم على العلمية. وأظهر أن التحقق غير كاف كمعيار لترسيم الحدود، وبالتالي زاد من متطلبات إعلان المعرفة علمية. وعلى هذا النحو، فهو يتعارض مع النسبية من خلال إظهار أن جميع المعارف ليست متساوية ولا يمكن استيعابها أو الخلط بينها.
ومن ناحية أخرى، من خلال التأكيد على الطبيعة التخمينية للمعرفة التي توفرها العلوم، جلب الماء إلى مطحنة النسبية.
تحدث بوبر بانتظام عن التخمينات أو الفرضيات لتأهيل النظريات العلمية. خلال إحدى المحاضرات (1936)، ذهب إلى حد التأكيد على أنه "كان من المفترض، خطأً، أن المعرفة العلمية هي شكل من أشكال المعرفة" (بحث غير مكتمل، ص: 151)، في حين أن هذا مجرد افتراض. وهذا ما جعل الجمهور يضحك. وأشار (بوبر) إلى التطور المستمر للمعرفة العلمية.
يقدم العلم المعرفة التي تكون لها، في لحظة معينة، قيمة حقيقة معينة، واحتمالية. إذا كانت المعرفة العلمية مجرد فرضيات وتخمينات غير مؤكدة، أي أنها ليست معلومات محتملة عن العالم، فلا يمكن تمييزها عن الرأي أو العقيدة الدينية البعيدة الاحتمال. وفي هذه الحالة، سيكون كل شيء متساوياً، وسيكون من غير المجدي التأكيد على معايير ترسيم الحدود. لكن، على وجه التحديد، يوضح بوبر أن هناك فرقا وأن العلم يمنح نفسه الوسائل اللازمة لمواجهة العالم الذي يعطي شرعية لنتائجه. ويقول أيضاً في "تخمينات وتفنيدات" (ص: 362):
"هدفنا كعلماء هو اكتشاف الحقيقة" وتهدف النظريات إلى تقديم "افتراضات حقيقية حول بنية العالم".
طرح كارل بوبر مفهوم "الاحتمالية" (vérisimilitude) لشرح التفاعل بين الطابع الافتراضي للمعرفة المكتسبة علميا والبحث عن الحقيقة. ومع استبعاد (دحض) النظريات الأقل جودة، تتعزز احتمالية تلك التي قاومت: وتزداد درجة قابليتها للواقع. يؤدي التفنيد غير الحاسم للنظرية إلى زيادة إمكانية التحقق منها وتوسيع نطاق تطبيقها. إذا لم تكن النظرية العلمية صحيحة تماما، فإن موضوعيتها ، أي ملاءمتها للواقع، تزداد قوة. لم يؤيد بوبر الشكوكية النسبية، فهو يعتقد أنه من الممكن الاقتراب من الحقيقة في شكل موضوعية.
الاستباط مقابل الاستقراء
للاستقراء معان مختلفة. وكما انتقده ديفيد هيوم، فإن الاستقراء هو ببساطة تفكير خاطئ يستخلص نتيجة معينة حول المستقبل من انتظامات الماضي. وقد وسع بوبر نطاقه نحو تشكيل العلم:
"يمكننا بالتالي أن نؤكد أن النظريات لا يمكن أبدا استنتاجها من قضايا الملاحظة، ولا يمكن الحصول منها على مبرر عقلاني" (تخمينات وتفنيدات، ص: 73).
يتمثل الاستنباط في العلم في التنبؤ، انطلاقا من حالة معروفة من الواقع، بما سيحدث بناءً على نظرية ما. نحن "نستنبط" من النظرية أن حقيقة أو حدثا معينا سيحدث. جميع العلوم تستخدم الاستنباط. لكن بوبر يعطيه مكانة مركزية، لأنه يشير إلى الفيزياء النظرية وعلم الكونيات حيث يكون استقلال النظري قويا، وبالتالي يكون الجانب الاستنباطي هو الغالب. تم تأكيد أطروحة بوبر من قبل ألبرت أينشتاين الذي كتب:
"لقد تعلمت شيئا آخر من نظرية الجاذبية: لا يمكن لمجموعة من الحقائق التجريبية، مهما كانت واسعة النطاق، أن تنشئ معادلات معقدة [مثل تلك الخاصة بالجاذبية]. يمكن اختبار النظرية عن طريق التجربة، ولكن لا يوجد مسار محدد يؤدي من التجربة إلى إنشاء نظرية" (أينشتاين أ.، ملاحظات السيرة الذاتية، استشهد به باتي ميشيل، ص: 364) .
إن تأكيد أب للنسبية أطروحة بوبر يجعلها مقنعة. ومع ذلك، هذا لا يعني أنها قابلة للتعميم.
في البيولوجيا، تعتبر الملاحظة والتجريب ضروريتين لظهور المفاهيم المجردة والعامة. ومن ثم، فإن فكرة أن العضويات الحية تتكون من خلايا محدودة بغشاء يشتمل على عضيات وكروموسومات (في النواة عموما) لم تتم صياغتها بشكل قبلي واستنباطي. ومع ذلك فهي معرفة علمية. وقد تم إنتاجها «من قضايا الملاحظة»، حسب صيغة كارل بوبر، من خلال تجريدها وتعميمها. هذه النظرية الخلوية ليست تفسيرية، بل هي منمذجة (بتكسير الذال)، ولا تدعي الكونية (قد توجد أنواع أخرى من الحياة). وهذا لا يمنع من إجراء استنباطات في البيولجيا، ولكن الشكل العام للمعرفة لا يمكن أن يسمى "استنباطيا".
ليست كل العلوم مبنية على نفس النموذج. هناك تعدد على التوالي في الاستقراء والاستنباط وفق المجال العلمي (وحتى داخل مجال معين). بعض العلوم مجردة للغاية، ولها غرض تفسيري كوني مثل الفيزياء النظرية. فهي بشكل عام "استنباطية". والبعض الآخر، مثل البولوجيا، يعتمد أكثر على النمذجة؛ وتتشكل نظرياتها من خلال تركيبات مجردة ناتجة عن الملاحظات. فهي بشكل عام "استقرائية".
إن التمشي من النوع الافتراضي الاستنباطي موجود دائما، ولكن بدرجات متفاوتة ولا يتدخل في نفس الوقت في هذين النوعين من العلوم. ويفترض وجود نظرية مشكلة انطلاقا منها نخرج بفرضيات نخضعها لاختبار الوقائع (عن طريق تجارب أو ملاحظات). إلا أن تشكيل هذه النظرية وشكلها يختلف من علم إلى آخر. ولذلك لا يمكن أن نجعل من الاستنباط معيارا لتحديد العلم، لأنه من شأنه أن يستبعد جزء كبيرا من المعرفة التي، علاوة على ذلك، نحن على يقين من أنها تستحق الوصف العلمي.
التفنيد التجريبي مقابل التحقق
إن الفائدة الكبيرة لعمل بوبر تكمن في لفت الانتباه إلى هشاشة التحقق التجريبي كلما اريد التحقق من صحة النظرية. ومن الناحية المنطقية، فإن التدقيق لا يثبت الحقيقة بشكل عام. ويمكننا أن نختار ما يؤيد النظرية ونترك جانبا ما يخالفها. ولذلك فإن التحقق قد يحتوي على عنصر الخداع. فكرة تسليط الضوء على الإنكار مثيرة للاهتمام في هذا الصدد. ومن الواضح أن معيار التفنيد (falsification) أكثر موثوقية.
وبما أن العلم استنباطي، فإن النظرية العلمية تجعل من الممكن التنبؤ بشكل مؤكد بحقيقة معينة في ظروف معينة. يتضمن الاختبار التجريبي للنظرية إعداد تجربة تختبر الفرضية النظرية. فإذا لوحظت الواقعة المتوقعة فإنها تؤكد النظرية دون التصديق عليها. وإذا غابت الواقعة، فإنها تبطل النظرية. إذا أخطأت التجربة في النظرية، أي إذا لم تحدث الملاحظات المتوقعة، فيمكننا أن نستنتج بدقة أن النظرية خاطئة.
منطق الاستدلال هو كما يلي: إذا كانت النظرية الاستنباطية تشير دائما وبالضرورة إلى الواقعة F، وإذا كانت F غائبة، فإن النظرية خاطئة. ولكن العكس ليس صحيحا. إن وجود الواقعة F لا يؤكد صحة النظرية بالتأكيد، لأن F لا تتضمن النظرية بشكل استقرائي. التمشي التجريبي يجعل من الممكن استبعاد النظريات غير الكافية. النظريات العلمية هي تخمينات (فرضيات حول العالم) يمكن للتمشي التجريبي دحضها في النهاية. النظرية الصحيحة هي نظرية قابلة للتفنيد قاومت محاولات دحضها.
في ما يلي مقتطف من كتاب "تخمينات وتفنيدات، نمو المعرفة العلمية، باريس، بايو، 1985، ص: 64-65) الذي يصر فيه كارل بوبر على الفرق بين التحقق والتفنيد كمعيارين لاختبار صحة النظرية. النظرية التي تكون قلبلة لان تدحض بسهولة، ولكن لا يمكن دحضها، هي نظرية علمية مرجحة.
"1) إذا كنا نبحث عن تأكيدات، فليس من الصعب العثور عليها، بالنسبة إلى لغالبية العظمى من النظريات أو التأكيدات أو عمليات التحقق.
2) لا ينبغي أن تؤخذ هذه التأكيدات في الاعتبار إلا إذا كانت نتيجة تنبؤات تنطوي على مخاطر معينة؛ بمعنى آخر، إذا كان علينا، في غياب النظرية المعنية، أن نتوقع حدثا لم يكن ليتوافق معها، حدثا كان من شأنه أن يدحضها.
3) أي نظرية علمية "جيدة" تتمثل في الحظر: منع حدوث بعض الحقائق. وتتناسب قيمتها مع نطاق الحظر.
4) النظرية التي لا يمكن دحضها بأي حدث يمكن تصوره هي نظرية خالية من الصفة العلمية. بالنسبة للنظريات، لا تعتبر عدم القابلية للدحض (كما يُتصور غالبا) مزية، بل عيبًا.
5) إن أي اختبار حقيقي للنظرية بالاختبار يشكل محاولة لإثبات زيفها أو تفنيدها. القدرة على الاختبار هي القدرة على الدحض؛ لكن هذه الخاصية لها درجات: بعض النظريات قابلة للاختبار بشكل أكبر، وأكثر عرضة للتفنيد من غيرها، وتتحمل، بطريقة ما، مخاطر أكبر.
6) لا ينبغي النظر في الأدلة التأكيدية إلا عندما تأتي من اختبارات حقيقية للنظرية المعنية؛ لذلك يمكننا تعريفها على أنها محاولات جادة، وإن كانت غير ناجحة، لإبطال نظرية معينة [...].
7) بعض النظريات، التي تكون قابلة حقا للاختبار، تستمر، بعد إثبات كذبها، في الحصول على دعم من مؤيديها - فهم يضيفون إليها فرضية مساعدة، ذات طبيعة مخصوصة، أو يعطونها تأويلا مخصوصا يسمح بحماية النظرية من التفنيد. يظل مثل هذا التمشي ممكنا دائما، لكن عملية الإنقاذ هذه لها نظير تقويض أو، في أفضل الأحوال، طمس الجانب العلمي للنظرية جزئيا [...].
يمكن تلخيص هذه الاعتبارات فيما يلي: إن معيار علمية النظرية يكمن في إمكانية إبطالها أو تفنيدها أو حتى اختبارها".
يعتمد المعيار البوبري على مفهوم للعلم لا يتوافق مع بناء جميع العلوم. دعونا نرى هذا في الفئتين الرئيسيتين للعلوم التجريبية الموجودة.
في ما يسمى بالعلوم الصلبة ، مثل الفيزياء أو الكيمياء، يكون معيار الدحض أكثر أهمية. ومع ذلك، فإنه يطرح صعوبات في التطبيق لسببين. فمن ناحية، يتم بناء جوانب معينة من هذه التخصصات انطلاقا من التجربة بطريقة استقرائية. مثلا، تم بناء قانون هابل بشكل استقرائي انطلاقا من ملاحظات دقيقة (من عام 1924 إلى عام 1929). من ناحية أخرى، في النظرية الاستنباطية البحتة، كل شيء يكون متماسكا. ينبغي لتجربة التفنيد الحاسمة أن توسع نطاق التفنيد ليشمل النظرية بأكملها. ومع ذلك، فإن التفنيد لا يؤدي إلى التخلي عن النظرية المقابلة بأكملها".
العديد من التجارب غير موثوقة، حتى في الفيزياء. وهكذا، لم تتجاوز العديد من التجارب المعاكسة نظرية نيوتن، بل حدث العكس: اعتبرت استنتاجات التجارب خاطئة.
في البيولوجيا والعلوم الاجتماعية والإنسانية، هناك أسباب مختلفة تجعل من الصعب تطبيق معايير بوبر. هذه التخصصات مبنية جزئيا على التجربة، بطريقة استقرائية. في ما يتعلق بالتجربة، ليس لدينا تنبؤات دقيقة بالمطلق وقابلة للقياس الكمي تماما. الممارسة في هذه المجالات صعبة والعديد من التجارب لا يمكن السيطرة عليها بشكل كامل. هناك عدد من التجارب غير الحاسمة التي لا يمكن أن تدعي أنها تدحض النظرية. إنها سلسلة من التجارب التي تدحض أو تؤيد المفهوم تدريجيًا.
إن الحكم على زيف النظرية بعد تجربة غير حاسمة هو أمر متسرع وليس مناسبا دائما. إن التجربة غير الحاسمة تشكل سبباً خطيراً للانزعاج، ولكنها ليست سبباً لإبطال النظرية. وقد أدرك كارل بوبر نفسه هذا في ما يتعلق بتطبيق الميكانيكا النيوتونية على النظام الشمسي. كان ينبغي أن تكون ملاحظة دوران أورانوس معيارا للدحض. للحفاظ على النظرية، كان من الضروري افتراض وجود كوكب خارجي لم يتم رصده من قبل. بل هي بالأحرى مجموعة متناغمة من التجارب غير الحاسمة التي تعمل على التشكيك في النظرية.
أخيرا، هناك حدود لقابلية الدحض البوبرية بسبب وجود فرضيات إضافية ضمنية ومتعددة، يصعب حصرها بدقة. إن تأثيراتها تقوض عصمة التفكير المنطقي المبني على ملاحظات موثوقة تماما. ويترتب على ذلك أن مكان المراقبة يجب أن يكون أكثر أهمية، والمعطيات متضاعفة. لا يمكن أن يكون هناك زمن حاسم ومحدود، كما تقول النظرية الاستنباطية الاسمية أو قابلية الدحض. يُعرف هذا الاعتراض باسم "أطروحة كواين-دوهيم".
إهمال الاجتماعي
مشكلة أخرى في العلم تأتي من إدراج المعرفة في السياق الاجتماعي والثقافي. يهمل بوبر دور المجتمع، بالمعنى الواسع للكلمة، في تقييم الماعرف العلمية وبشكل أعم في السياق السوسيوتاريخي. ولنأخذ على سبيل المثال المذهبين اللذين استحودا على اهتمام بوبر عندما كان طالبا: الماركسية والتحليل النفسي.
من المتفق عليه عموما أن أعمال ماركس تحتوي على ملاحظات واستدلالات دقيقة، لكن الامر يتعلق بمزيج من الجوانب السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والأيديولوجية التي يجعل تعقيدها تقييمها صعبا. ومع ذلك، في أكتابات كارل ماركس، يمكن قياس نظرية القيمة باعتبارها كمية من العمل الاجتماعي أو نظرية ميل معدل الربح إلى الانخفاض وإخضاعها لاختبارات تجريبية وبالتالي دحضها أو تأييدها. والمشكلة التي تطرح نفسها هي: لماذا لا يقوم مجتمع علماء الاقتصاد بإجراء هذا الاختبار؟ الجواب سوسيولوجي . إن النظرية الاقتصادية الماركسية عالقة في جدل أيديولوجي وسياسي يحول دون تقييمها من وجهة نظر علمية.
يدرك بوبر أن التحليل النفسي يحتوي على مؤشرات نفسية مثيرة للاهتمام “من المرجح أن تجد مكانا لها لاحقا في علم النفس العلمي” (تخمينات وتفنيدات، ص: 67). ومن الصعب إعطاؤها شكلاً قابلاً للدحض، لأنها تتعامل مع وقائع فردية، تاريخية ومرتبطة بالسياق دائما. لكن المشكل الذي يطرح هو في المقام الأول سوسيولوجي. ولم يتحمل المجتمع العلمي، في أمور الطب النفسي وعلم النفس، مسؤولية تطويرهما نحو العلمية. لقد أحدث التحليل النفسي منذ ظهوره صراعاً إيديولوجياً عنيفاً، ثم تأثر بالموضات الفكرية (الرمزية، البنيوية). ولم يحظ بدعم مؤسسة تضمن دقته وتطويره. والحا أن المعرفة تتطلب دعما جماعيا يوفر تدريجيًا ضمانات الصلاحية العلمية.
تم تسليط الضوء على أهمية الإطار السوسيوتاريخي في تطبيق العلم لاحقا في أعمال بوبر، ولا سيما من قبل توماس كون . لقد تطور المعيار البوبري الخاص بقابلية الدحض مع مرور الوقت تحت تأثير انتقادات توماس كون وإمر لاكاتوس ، ولكن أيضا بسبب تغير المشهد الثقافي. أما في ما يتعلق بالعلوم الإنسانية، فقد تغيرت المرجعية الأولي مع تطور معارف أخرى ومشكلات أخرى طرحها فيلهلم دلثي، وماكس فيبر، ثم أعمال مدرسة فرانكفورت.
الخلاصة: دعوة إلى اليقظة
في التبلور التدريجي والجماعي، على مر الأجيال، لما يميز العلم، يقدم كارل بوبر مساهمة مثيرة للاهتمام من خلال إظهار أن المعرفة الناتجة عن العلم التجريبي يجب أن تكون قابلة للدحض، وهذا يعني أنه لا يجب أن تكون قابلة للتحقق فحسب، بل يجب أن تكون أيضا قابلة للدحض. كما يتم إبطالها بالتجربة، وهو أمر تمييزي حقا!
إن الاعتماد على القابلية للدحض بدلاً من التحقق هو أمر منطقي. يمكن دائما التحقق من تنبؤات النظرية الخيالية مثل علم التنجيم من خلال بعض الوقائع. في المقابل، فإن النظرية التي تراهن على صحتها في ما يتعلق بالتنبؤ الدقيق الذي يمكن التحكم فيه تقدم ضمانات أفضل بكثير لملاءمتها للواقع. وبالتالي، فإن النظرية العلمية ستعتبر صحيحة طالما أن عددا معينا من التجارب لم يبطلها. وهذه حجة علمية قوية جدا.
ومع ذلك، يجب وضع معايير الدحض والإبطال التجريبي في منظورها الصحيح لأسباب مختلفة:
* ليست كل العلوم مبنية على النموذج الاستقرائي. *يستخدم عدد منها الاستقراء والاستنباط.
* لا يمكن لبعضها أن يؤدي إلى تنبؤ دقيق ومضبوط أو تقديم تجارب قابلة للتكرار في ظل نفس الظروف.
من الممكن، وفق المعيار البوبري، دحض نظرية يتم التعبير عنها في شكل قانون قابل للتطبيق في ظروف تجريبية محددة. إنه نموذج للتفسير أطلق عليه كارل همبل في ما بعد اسم الاستنباط الاسمي. ولكن ماذا عن المعارف التي لا تستطيع أن تسير وفق هذا النهج؟ هل يجب أن تتخلى عن صفة العلم؟
لفت كارل بوبر الانتباه إلى ضرورة توخي اليقظة بشأن الطريقة التي تكون بها المعرفة علمية. لقد سلط الضوء على التماسك العقلاني، وبطريقة أصلية، على المعيار التجريبي: قابلية دحض النظرية. إن التمييز (تحديد الحدود) بين العلم والمعرفة التي لا يمكن أن تدعي ذلك هو أمر مهم، لأن المصداقية التي ينبغي منحها للأول أو للثانية ليست هي نفسها بالتأكيد.
المصدر:
https://philosciences.com/karl-popper-et-les-criteres-de-la-scientificite

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟