يحيل هذا السؤال على مفارقة إشكالياتية تمكن قراءتها على وجهين : يتمثل الأول في حروف السؤال المكونة له (هل، و ما) باعتبارها تحيل إلى البدايات الأولى للفلسفة مع سقراط على وجه الخصوص، ويتمثل الوجه الثاني في كونه ينصب على "المدخل الفلسفة"، ومعنى ذلك أن سؤال "ما الفلسفة" قــد يشكل مدخلا للفلسفة، لكن ماذا نقصد بالمدخل إلى الفلسفة؟ هل يعني ذلك الطواف حولها دون الولوج إلى عمقها؟ هل يعني تكوين تصور عام حول أفكارها، تاريخها، ومشاكلها دون امتلاك القدرة على ممارستها؟ أليس طرح السؤال وفق الصياغة التالية: "هل يمكن اعتبار سؤال "ما الفلسفة؟" مدخلا إلى التفلسف؟" أكثر تعبيرا عن روح الفلسفة، باعتبار أنه لا يمكن أن ندخل إلى عوالم الفلسفة دون ممارسة فن التفلسف؟...
إن هذه المحاولة سوف تعمل أساسا على تجاوز هذا السؤال، وذلك من منطلق أساسي يجب التصريح به منذ البداية، وهو أن سؤال "ما الفلسفة؟" لا يمكن اعتباره مدخلا إلى الفلسفة، بل إن محاولة الإجابة عنه تقذف بنا مباشرة في عالم التفلسف، باعتباره ممارسة للفلسفة، وليس مدخلا إليها، ففي الفلسفة لا توجد هناك مداخل، كل ما هنالك هو ممارسات للتفلسف، ولبناء الحجة على هذا القول سوف يتم الاستناد على طرحين أساسيين، يتعلق الأول بتصور الفارابي لحروف السؤال الفلسفي، التي تشكل الآليات الأولية لممارسة التفلسف، ويتعلق الثاني بمفارقة "مينونMénon " التي تضعنا وجها لوجه أمام أحد أهم المكونات البنيوية لتاريخ الفلسفة، والشاهد على ذلك، تلك القراءة التي قام بها ميشل مايير لتاريخ الفلسفة باعتباره تاريخا إشكالاتيا، أي تاريخا يعمل على تجاوز هذه المفارقة في شتى محطات تاريخ الفلسفة : "أن تاريخ الفلسفة منذ سقراط هو تاريخ مفارقة مينون ؟" تلك المفارقة التي تتضمن إشكالية "أيهما أسبق من الآخر : الوجود أو المعرفة؟ الأنطولوجيا أم الابستمولوجيا؟"... ربما قد يلف بعض الغموض هذه الفقرة، لكن غموض سوف ينبلج شيئا فشيئا، كلما تقدمنا خطوة نحو معالجة هذا الموضوع...
صحيح أن الفلسفة المعاصرة مع جيل دولوز تركز على اعتبار أن الفلسفة هي إبداع للمفاهيم أساسا، وبالتالي، تصبح الفلسفة ممارسة مفاهيمية، لكننا نحاول البحث عن تصور مغاير للإجابة عن سؤال "ما الفلسفة ؟" ليس فقط كمدخل للفلسفة، من خلال بناء المفهوم، ولكن كممارسة للتفلسف من خلال بناء السؤال الفلسفي.
يضم السؤال – قيد المساءلة- حرفين أساسيين : "هل" و "ما"، وربما قد يحق لنا أن نسائل هذين الحرفين، في مدى أهليتهما المنطقية بأسبقية الحرف الأول عن الثاني، لاسيما أنه بين الحرفين فعل من أهم الأفعال الفلسفية، يتعلق الأمر بالفعل المضارع "يمكن" الذي يحيل على الإمكان في مقابل الاستحالة، وهما متقابلان شكلا معا أخطر مجالات القول الفلسفي، ويمكن تعميق الصياغة الفلسفية لهذا السؤال من خلال إعادة صياغته وفق ما يلي : "هل يمكن اعتبار سؤال "ما الفلسفة؟" مدخلا إلى الفلسفة، أم يستحيل القول بهذا الاعتبار؟" وتتخذ هذه الصياغة أولويتها من خلال ما يحدده الفارابي في أوجه طرح السؤال بحرف "هل" حين يقول : "وحرف هل إنما يقرن بمتقابلتين عُلم أن إحداهما لا على التحصيل صادقة أو معروف بها عند المجيب، ويطلب به أن تُعلم تلك الواحدة بالتحصيل، فإنه يطلب أيها على التحصيل هي الصادقة"، وبيان ذلك أن السؤال بحرف هل يستلزم وجود قضيتين متقابلتين، والتقابل هنا قائم بين "الإمكان" المصرح به، و"الاستحالة" الضمنية...ربما لا يتسع المجال لتعريف الإمكان، وتعريف الاستحالة، لكن يكفي القول بأن الممكن يحتمل الوجود، في حين أن المستحيل هو ما لا يمكن بالإطلاق أن يوجد. إلا أن بداية هذا السؤال بحرف "هل" تضعنا أمام منزلق خطير، ذلك أن هذا الحرف يقتضي أن نتساءل حول إمكانية وجود الشيء من استحالته: هل يوجد مدخل للفلسفة من خلال سؤال "ما الفلسفة؟" ؟ لكننا لا نعلم ماهية الفلسفة بعد، فكيف يمكننا أن نبحث عن تصور ذات الشيء قبل أن نتأكد من تحصيل وجود الشيء، بمعنى كيف يمكن لنا أن نطرح سؤال "ما الفلسفة؟" قبل أن نجيب عن سؤال "هل ثمة فلسفة؟"...لعلنا نلاحظ هذا المأزق الإشكالي الذي يضعنا أمامه سؤال الاختبار، كيف السبيل إذن للخروج من هذه المفارقة ؟ أيهما أسبق: ماهية الفلسفة، أم وجود الفلسفة ؟ لنلاحظ أن سؤال "المدخل" أصبح سؤالا ثانويا، بالقياس مع سؤال الفلسفة ذاتها. كيف السبيل إذن نحو الخروج من هذه الإشكالية؟
"السبــيل" أو "الطريق"، كيف يجب أن نسلك حتى نجد الطريق؟ ربما يجب علينا أن نكون هايدغريين كي نسلك الطريق، يقول هايدغر في مقاله "ما هي الفلسفة؟" : "السؤال الذي يبحث في معنى شيء ما، هو دائما سؤال متعدد المعاني" ويقول أيضا : "إن ما يكون موضع سؤال، متخذا له "ما هي" كمنطلق، يكون دائما رهن التعريف من جديد"، ويستفاد من ذلك أن تعريف الفلسفة يتخذ لدى كل فيلسوف معنى جديدا، فبأي معنى يمكن لنا أن نقدم تعريفا جامعا مانعا للفلسفة، في حين أن كل فيلسوف يقدم لها تعريفا وفق تصوراته؟ تعلمنا الرياضيات أن العنصر الذي ينتمي إلى كل المجموعات ليس عنصرا، والفلسفة ذاتها تنتمي إلى كل فيلسوف، ما يعني أنه ليست هناك فلسفة، ربما هناك فقط "تفلسف"... هكذا نلاحظ أنه ليس ثمة جواب واحد لسؤال "ما هي الفلسفة؟" علما أن السؤال بحرف ما يفيد معرفة تصورِ ذات الشيء من حيث جوهره، أي تحديد نوعه، وفصله، وجنسه، إلا أن المشكلة الأخطر تكمن في أنه لا يمكن تعريف الشيء إلا بعد إثبات وجوده، ذلك أن الفارابي في كتاب الحروف يقر بعدم إمكانية تصور ذات الشيء إلا بعد تصور وجوده، اللهم في حالة واحدة، تلك التي يهدف إليها السؤال تحديد معنى كلمة بعينها، فهل يمكن اختزال الفلسفة في دلالة كلمتها، التي تعني "محبة الحكمة"؟ تبدو المسألة غير مقنعة.
من هنا يمكن أن نضع أول خطوة على طريق تعريف الفلسفة، إنها محبة للحكمة، فهل يكفي أن نقول إن الفلسفة من حيث كونها محبة للحكمة تشكل مدخلا إلى الفلسفة؟ يجيب هايدغر : "متى يكون الجواب عن السؤال "ما هي الفلسفة؟" جوابا متفلسفا؟ متى نتفلسف؟ إن هذا لا يتحقق إلا لحظة دخولنا في حوار مع الفلاسفة (...) إن ملاحظة ووصف آراء الفلاسفة هو أمر مختلف تماما عن النقاش معهم بصدد ما يقولونه، أي انطلاقا مما يتكلمون عنه"، معنى ذلك أن تعريف الفلسفة لا يعني سرد أفكار ومواقف الفلسفة (ماذا قال أرسطو، وماذا قال ديكارت، وماذا قال كانط؟) إنما يعني أساسا مناقشتهم، محاورتهم، مشاغبتهم ومشاكستهم، هكذا، وهكذا فقط يمكن أن نقول إن تعريف الفلسفة يشكل مدخلا إلى الفلسفة، ليس إلى الفلسفة بمطلق اللفظ، بل إلى التفلسف، نحن نصبح في حضرة الفلسفة، عندما نتملك الجرأة على التفكير، والجرأة على التعبير... في حالة غير هذه تصبح الفلسفة، عبارة عن أصنام، وعلى العقل المتفلسف أن يحطم الأصنام، حتى إذا كان هذا الصنم بعظمة أفلاطون أو كانط.
نخلص إذن إلى أن سؤال "ما الفلسفة؟" يشكل مدخلا إلى التفلسف كممارسة للفلسفة، وليس فقط كسرد لتاريخ الأفكار الفلسفية؛ لكن ألا يمنحنا تاريخ الفلسفة نفسه الأرضية الخصبة لممارسة التفلسف ؟
قلنا في بداية هذا المقال، إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ مفارقة مينون، فماذا نعني بهذا القول؟ وجَّه مينون إلى سقراط السؤال التالي : "على أي نحو ستبحث يا سقراط على شيء لا تعرف مطلقا ما هو ؟ فأي شيء مما لا تعرف تضعه موضوعا لبحثك؟ وحتى إذا حدث على أحسن الفروض أن وقعت عليه، فكيف ستعرف أنه هو ذلك الذي لم تكن تعرف؟"
يضعنا تساؤل مينون أمام منزلق خطير : كيف يمكن لنا أن نبحث عما لا نعرفه ؟ نحن لا نعرف ماهية الفلسفة؟ كيف سنعرف ماهيتها؟ أيهما أسبق وجود الفلسفة، أم ماهية الفلسفة؟ إذا كانت الفلسفة موجودة فما الغاية من البحث في ماهيتها، طالما أنها موجودة؟ هنا سوف يصبح البحث مجرد تحصيل لحاصل، لكننا لا نعرف أصلا ما إذا كانت موجودة أم لا؟ فكيف يمكن تحديد خصائص ما ليس موجودا؟ هكذا سوف يصبح سؤال ما الفلسفة ضربا من المتاهات لا سبيل إلى الخروج منها. نحن نبحث عن مدخل للفلسفة، فإذا بنا أمام متاهة من التفلسف.. نلاحظ من جديد أننا بمجرد ما نطرح سؤال "ما الفلسفة ؟" نجد أنفسنا في لجــة من التفلسف...في هذا التساؤل الذي طرحه مينون، تنتفي كل إمكانية للمعرفة، ويصبح كل سعي إليها مغامرة سيزيفية عبثية لا معنى لها، فهل يجدر أن نتوقف في هذه اللحظة، ونقول : "لقد عجزت الفلسفة عن تعريف نفسها، وفشلت في أول مهمة لها، وبالتالي فليس ثمة شيء ندخل إليه"؟
يقول سقراط : "أيها الإنسان ! إعرف نفسك بنفسك !" وهو قول يمكن أن نستشف منه مسألة أساسية ومهمة، إن كل مدخل للفلسفة، كلَّ ممارسة تفلسفية، ليس ثمة هدف منها سوى أن تتحصل لدى الفيلسوف أو المتفلسف أو الباحث أو القارئ للفلسفة، قدرة على معرفة الإنسان لذاته. إن هذه المعرفة هي وحدها التي تسمح للإنسان ب"الخروج من قصوره العقلي، وتملكه القدرة والجرأة على استعمال عقله الخاص، استعمالا حرا"، هذا هو المدخل الحقيقي لكل فلسفة : أن يخرج المرء من قصوره العقلي، بمعنى أن يتخلص من وصاية رجل الدين ورجل السياسة ورجل المال ورجل السلطة، على حياته ومصيره، وقبل كل شيء أن يتخلص من الوصاية على تفكيره، فالفلسفة تعلمنا شيئا أساسيا، ألا وهو تملك الجرأة، الجرأة على التفكير، ثم الجرأة على التعبير...
محمــــد غمري
باحث في الفلسفة – المغرب