الأميرة وجزيرة الـماس - أحمد القاسمي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

في يوم من الآحاد؛ ساد الحيّ هدوء كالعادة، وأشرقت شمس الربيع من غياهب فصل الشتاء؛ تُضيء الدنيا في رفق وببطء؛ كأنها أَبِلت بعد مرض طويل. كان إبني البكر ما يزال يحبو؛ هنا وهناك؛ يُمسك بفمه رضاعة الحليب؛ يُطوّح بها بحركات من رأسه؛ فيجلس على أَلْيَتِه ويتناولها مرة أخرى؛ فيدُس حلمتها الاصطناعية في فمه؛ يرضع ثُمالتها؛ وأنا على أثره كلما توغلت به أرض البيت المزلجة؛ في ركن ما؛ وقد تخفف بالي من الإلتزامات؛ وجسدي من زي البحرية الرسمي؛ لابسا عباءة خفيفة الثوب؛ واسعة التصميم، وغير بعيد هناك؛ اِفترشت والدتي رحمها الله جلد خروف مدبوغ، وكث الصوف، رفعت أكمام فَوْقِيتها عن ذراعيها بالشَّمّار؛ تُحول قطعة صوف ناصعة البياض إلى خيوط متينة؛ بمِغْزل تُسَرِّع دوارنه بثُقَّالة خشبية من أصابعها. أمَّا أُمُّ الصبي فقد ذهبت في ذلك الصباح إلى السوق؛ لتشتري الخضر وفاكهة لعصير هفت له معدة أَضناها أكل فصل الشتاء الثقيل والتّخم.
تاقت نفسي إلى حالة البيت هذه؛ التي تمضي هادئة.. بطيئة.. بسيطة، ورُمت السكينة التي عمت المكان، وحرصت عليها، ومازلت كذلك حتى آنصرف إهتمامي عن الطفل في إحدى اللحظات، وتوقفت يدا أمي عن الغزل، ونظرتْ إلي، وتعلق نظري بشيء ما هناك، وآعتلى وجه إبني شَدَه، وصوَّت بحنجرته يتساءل، وأسرع يحبو...

فقد رنَّ الهاتف بإلحاح...
رفعت السَّمَّاعة، وسألت من الهاتف؛ فجاء صوت الرئيس غليظا:
- صباح الخير.
أجبت بسرعة؛ مُنتظرا الهدف من مكالمته هاته، وفي يوم العطلة هذا.
- صباح الخير.
قال:
- الأميرة تبكي.. تكاد تُدمي خدودها المتورّدتين نَدْبا.. ساعتها من الماس اِختفت؛ لم تدع مكانا إلا وبحثت فيه؛ إلا أعماق البحر.. أسرع فإنك في مهمة غوص؛ إنها أوامر القيادة العليا.
قلت مُطيعا:
- نعم.. سأكون في القاعدة البحرية بعد نصف ساعة تقريبا.
سألتني أمي:
- أستذهب إلى العمل.. في هذا اليوم..؟ هؤلاء القوم لا يتركون لك وقتا للراحة.
أجبتها:
- إنها الأوامر كما تعلمين.
اِرتديت وبسرعة زي البحرية الأزرق؛ (التريكو) الصوفي والبذلة، وآنتعلت حذائي وأحكمت سيوره، ووضعت على رأسي القبعة المستديرة. قبض ابني معجبا بالقبعة التي آعتلت هامتي؛ بطرف سروالي بيديه المهيضتين.. رفعته من الأرض.. قبلته.. داعبت بسبّابتي أرنبة أنفه.. ابتسم، ثم أودعته حِجر أمي، وسرت إلى مدخل الدار.. أخرجت دراجتي النارية؛ كانت الأولى التي آشتريتها؛ من نوع (مُوبِيليت)؛ صفراء اللون.. أدرت محركها؛ ثم آمتطيتها وآنطلقت بسرعة؛ في مراوغات للراجلين، والراكبين، ولحاشيات الأزقة، والشوارع.
وصلت إلى رصيف الميناء؛ وجدت قاربا مطاطيا في انتظاري؛ يهدر محركه الموَجِّه؛ يشد أحد البحارة بمقبضه.. تبادلنا التحية.. أخذت مكاني، ثم آنطلقنا في عُرض البحر؛ تهتز مقدمة المركب بالأمواج الزاحفة بصخب.. يصفع قاعُه صفحة الماء. رأيت من بعيد مركبا شراعيا من ذلك النوع الذي يفد من أوروبا؛ سيأتي وصفه فيما بعد، ولما دنونا منه؛ أُرسل لي سلم قُنَبيّ.. تسلقته.. اِجتزت حاشية المركب؛ ووطأت قدماي سطحه. وجدت جمعا متأهبا؛ يضم نظيري الرئيس، ورجالا آخرين، وسيدة شقراء في سن الثلاثين هي الأميرة.
قبض الرئيس على كتفي، ثم على عضُدي بيد مشحونة بالود؛ ناطقا باسمي، ومُتحدثا إليهم بسيرتي المهنية في مجال تخصصي كغواص بحري، وذكر لهم عدد المرات التي غُصت فيها في هذه الجهة من الشاطئ، وأنني أدرى بشعابها، وأن لي دُربة في ارتياد بيئتها المحفوفة بالمخاطر، ودراية بتياراتها البحرية التي أخرج منها سالما؛ بالرغم أنها تُحاذي الشاطئ الصخري، وعيونهم تحدق وتجول في قَوامي؛ ترى ما إذا كنت مناسبا للقيام بمهمة الغوص في أعماق البحر؛ للبحث عن ساعة الماس؛ التي كان لضياعها أثر تبينته في وجوههم جميعا، وخاصة صاحبتها الأميرة. كنت أحييهم واحدا واحدا، وروائح تفوح منهم استغربها أنفي؛ إنهم قوم لهم مرقدهم ولنا مرقدنا.
من الرجال المرافقين للأميرة الأوروبية محقق خاص وغواص بحري؛ لأن الساعة الضائعة مُؤمن عليها. أُمرت أن أغوص لأبحث عن ساعة الماس دون أن أُجادلهم، أو أُحاججهم في فرضية الغوص هذه؛ فقد أُخبرت من طرف نظيري الرئيس أنهم بحثوا عنها في كل جانب من المركب؛ إلا مياه البحر الممتدة إلى الأفق، وفي جميع الإتجاهات التي يرسو فوقها المركب؛ فهي -أي الساعة- إلى مساء يوم من الأيام الأربعة الفائتة؛ ما تزال تتحسّسها أنامل الأميرة الأوروبية؛ تحيط معصمها بسوارها، وتُدير ذراعها، وراحة يدها بانتشاء، وتمدد أصابعها التي كُسيت هي الأخرى بخواتم من زمرد.
غمزت بإحدى عيني لنظيري الرئيس؛ ففطن لشيء أريد تفهيمه إياه؛ فانتحيت به ناحية. بادر سائلا:
- كأنك تريد أن تتحدث؟
قلت:
- نعم.
واستطردت:
- كأننا لم نَمْتهن البحر يوما. أَأرمي ببدني في ماء البحر؛ دون خطة غوص محكمة للبحث عن الساعة الضائعة؟ إن استُدعيت لمعرفتي بأعماق هذه الجهة من البحر، وإن غاص معي ذلك الذي استقدموه من مِلّتهم؛ أكون قد أطلعته على طبيعة أعماق بحرنا وعلى شعابها ومسالكها، ومهدت الطريق لفعل قد يعِنّ له في يوم من الأيام؛ إنهم قوم لا يُستأمن جانبهم؛ أفسدتهم مدنيّتهم الجشعة... لا تخْنع فلنا حُضور، ولا نكشف لهم عن شيء إلا بمقدار ما يرجون العثور على ما فقدوه.
اِنشدهت صفحة وجهه وأطرق ثم قال:
- أُجاريك فيما قلت؛ فتَصدّى.
اِنبرى الرئيس للجمع قائلا:
- لا يُعقل أن تُهدر قوة الغواص في البحث عن إبرة في كومة قش، وبدون طائل؛ لا بد أن يغوص بناء على معرفة بالممهدات.
قال المحقق:
- أساورتكم شكوك فيما توصلت إليه من نتائج في التحقيق؟
لم تنتظر الأميرة سماع ما يلي من المجادلة فقالت:
- ما يهمني أيها المحقق هو استرجاع ساعتي الثمينة.
قال نظيري الرئيس:
- قريني الغواص في غنى عمن يرافقه؛ فهو يحتاج إلى حرية البحث والتنقيب، كما لا بد من الإصغاء لرأيه، والتنحي عن طريقه ليرسم الخطة التي يراها ناجعة.
قلت مُوجها سؤالي إلى المحقق:
- على أي أساس خلُصت إلى فرضية فقدان الساعة في أعماق البحر؟ أرى قارب نجاة مطاطي مُلازما للمركب؟
قال:
- اِلتجأ به الطباخ صباح هذا اليوم إلى أسواق المدينة لجلب المؤن.
قلت:
- ألم تُهرّب على مثنه ساعة الماس؟
قال:
- ليس الطباخ شخص بهذه البلادة.
قلت:
- ألا يكون قد أبحر أحد من الشاطيء ليلا وتسلل إلى داخل السفينة؟
قالت الأميرة:
- لا أثر يُؤكّد هذا.
قلت للمحقق:
- أتسمح لي بجولة في أركان السفينة؟
اِستأذن المحقق الأميرة فيما عزمتُ عليه؛ فاستعجلتْ موافقتها.
لم أغفل، ولم يستغفلني أحد، أو يصرفني عن أي جانب من السفينة؛ فسجلت ما أثار ريبتي؛ مجسمات من الجبس يستهوي بناءها قائد السفينة، وامرأة وصيفة بدينة طالما تُبْدي إعجابها بأشكالها، وسمعتها في بعض الأوقات تستميله قائلة:
- أتمنى أن تكون جزيرة الماس ذات الرمال الذهبية ونخيل الجوز الأخضر من نصيبي؛ فقد حلقت بخيالي بعيدا إلى هناك ما وراء البحار.
وكنت أعرف أن النساء يسترجعن ثرثرة ما عاينهن، وسمعنهن من حين لآخر، ويُبدين فتنتهن بالأشياء وإعجابهن بها، وتساءلت بيني وبين نفسي: «من أطلق إسم (جزيرة الماس) على التُّحفة الفنية التي تفننت في نحتها يد قائد السفينة؟».
دققت النظر متأملا إحدى هذه المنحوتات؛ فما بدا أنها لا تستدعي موهبة النحت، أو تعكس شغفا بهذا الأخير؛ كانت الآلة تُشكّل في كثلة من الجص؛ جفت بعد صب مخلوط الماء ومدقوق الجبس في قالب؛ على نحو لا يتطلب وقتا ولا عناء. أبهدف الإستئناس، أو لإضفاء بُعدٍ آخر على مكان مقصورة قيادة السفينة؛ لرفع سأم الإبحار الطويل والممل، أو لشيء آخر في نفس مُبتكرِها؟
اِحتفظت بما لا حظت إلى حين آخر، وخففت عائدا إلى الأميرة سائلا:
- منذ متى غادرتم ميناء مملكتك؟
قالت بدون استفهام:
- منذ خمسة عشر يوما.
قلت:
- في أي بحر كنتم ستلقون في مياهه بمرساتكم؟
قالت:
- في بحر (الكارايبي).. في خلجان جزر (الأنتي).
قلت مازحا:
- إنكم تَقْفُون أثر مستكشفكم الأيبيري كريستوف كولومب؟
قالت:
- إننا نحيا ماضي السفن الشراعية المجيد.
قلت:
- أعجب كم أنتم مُتيّمون بالبحر وبأغواره، وبالخوض في لِجاج مياهه الصاخبة.
قالت:
- إنه موروث ولا بد من المحافظة عليه.
قلت:
- ولم تزل خلجان وشواطئ ما وراء البحار تُغري بالقرصنة، وبطمر الذهب والنفيس من المعادن إلى حين.
ثم استطردت قائلا:
- أكان الجميع على معرفة ببرنامج رحلتكم البحرية؟
قالت:
- نعم؛ نحن أسرة يتآلف أفرادها ولا نكتم عن بعضنا البعض شيئا.
سألتها مرة أخرى:
- منذ متى كنتم ستُتابعون رحلتكم بعد هذا التوقف المؤقت في عُرض مياه بحرنا؟
قالت:
- يومان فقط للاستراحة؛ لأننا لسنا في عجلة من أمرنا، وللتزود ببعض الأشياء نحن في أمس الحاجة إليها في سفرنا.
قلت لقائد السفينة:
- أاِعتمدت في إبحارك بالسفينة في هذه المياه على خريطة خطوط تساوي العمق؟
قال بدون تردد:
- أيُعقل أن نترك مثل هذه السفينة تنساب في بحر لا نعرف مدى عمق مياهه؟
طفقت عيناي تجولان في هيكل من خشب عالي الجودة؛ بني اللون؛ ملمّع؛ بأبهاء ذات أُبّهة كلاسيكية؛ تعكس أمجاد أقوام تعاطوا للبحر؛ فأبدعوا.
قلت:
- أهي من وضع من لا تفوته معطيات الدّقّة؟
قال:
- بكل تأكيد.
قلت بإصرار:
- أريد أن أطلع عليها.
أشار إلى مساعده بأن يَتنحّى عن المنضدة التي تُبْسط عليها الخرائط البحرية؛ فرأيت إحداها. تقدمت وألقيت نظرة خاطفة إلى سُلّمها الذي يُبيّن الأميال البحرية بالسنتيميترات على الورق، وإلى سنة وضعها؛ لم يمض عن استنساخها إلا ستة أشهر؛ فهي مُحَيّنة، وتضم تفاصيلا لافتة للنظر؛ فما استنتجت أن قائد السفينة على الأقل على دراية بمستوى عمق كل سنتيميتر مربع من هذه الناحية، ومن حيث ذلك؛ فإلقاؤه بمرساة السفينة في هذه المياه ربما له هدف، وما أبلد من يكون من أفراد الطاقم من تمتد يده إلى ساعة الأميرة، ويقذف بها في البحر ليسترجعها فيما بعد؛ وقد غفلت عنها الأميرة لبعض الوقت، أو كانت في جلبة من أمرها لا تستذكر شيئا يقينا. لأن جميع النّفر الآن يُشكّ في أمره. وفي علم جميعهم أنهم سيُتابِعون الرحلة البحرية بعد يومين من توقفهم، وأنهم يأتمرون بما يصدر من قائد السفينة الذي يُنفّذ ما رغبت فيه الأميرة؛ من استرواح في البحار والمحيطات. وفي نظرة أخيرة على الخريطة قرأت موقع السفينة بالنسبة لخطي العرض والطول الجغرافيين، ولم يكن آنذاك جهاز تحديدهما الرقمي الذي ابتكر فيما بعد في المتناول.
أتُرِكت الساعة تنحدر في ماء البحر مباشرة تحت السفينة، فيُعلم مكان اختفائها؟
فلأغوص بناء على استنتاجي؛ للتأكد من صحته ولآستنتاج آخر.
طمأنت المحقق بأن قلت له:
- ما خلُصتُ إليه يصُبّ في نفس استنتاجاتك؛ فلا أستبعد كون الساعة في أعماق البحر. أُهنّئك.
بدت عليه علامات الرضا بكلامي، ولم ينطق بأي حرف، وظل ناظرا إلي ينتظر ما سأُقدم عليه.
قلت لنظيري الرئيس:
- سأغوص لأُعاين غاطس السفينة، وقاع البحر الذي يوجد مباشرة تحتها.
قال نظيري الرئيس للأميرة:
- هذه غطْسة معاينة في المياه القابعة عليها سفينتك.
ما علمته فيما بعد؛ أن المحقق اختلى بكل واحد من أفراد الطاقم قبل مجيئي، وطرح الأسئلة التي يراها استدلالية دون أن ينال منهم جميعا قيْد ظُفر، ومنهم من نَمّ إليه خبَل الأميرة، وأنها غالبا ما شوهدت وهي تحتسي الخمور. وهي تُراقص نسيم البحر في الليل بقدها الأهيف، وترفع ساقها البضة العملاقة في تدلل على دَرَابِزين السفينة؛ فقد يكون سوار الساعة المعدني قد انفتح على حين غرة منها، وانفلتت الساعة إلى أعماق البحر.
نزلت إلى القارب المطاطي الذي أقلّني من برّ القارة، وسمعت نظيري الرئيس يأمر البحار الممسك بعنان القارب بأن يُجهّز عدة الغوص: قنينتا الأكسجين، واللباس العازل لحرارة الجسم؟، وأنبوب التنفس، وساعة قياس ضغط العمق، والزعنفتان والمنظار الزجاجي، وخنجر قاطع للطاريء؛ فقد تمسك بقايا خيوط شباك غارقة بأحد أطراف جذعي، فتُشلّ حركتي، أو أصدّ به هجوم أخطبوط يروم خنقي بأذرعه ذات الممصات القوية.
في غطستي لم أجد على غاطس السفينة ما يمكن أن تُثبّت به الساعة، ولا أثرا في رمال القّعر وصخوره، أو بين النباتات البحرية؛ فغادرت الأعماق، وما إن انبثقت برأسي من الماء، ولاح لي نظيري الرئيس؛ حتى خاطبته بإشارة الجراب الفارغ؛ أي لا شيء يستحق عناء الغوص.
عندئذ أدرك نظيري الرئيس أن وراء غوصي هذا مراوغة، وصرف الأنظار عن خطة لم يحن بعد الوقت لتنفيذها. تخلصت من قنينتي الأكسجين، ومن الزعنفتين، وصعدت إلى السفينة باللباس العازل؛ إذن في أية نقطة في امتداد شعاع دائرة رسو السفينة أُلقيت الساعة؟ هذا هو السؤال الذي ربما كان يدور بأخلاد الجميع؛ حتى نظيري الرئيس والمحقق نفسيهما، وأنا الرامي لم أستنفد كل شيء؛ فما يزال في جُعْبتي سهم احتفظت به للمرحلة التالية.
قلت لنظيري الرئيس:
- آذان الجميع الآن صاغية، والعيون تنهبنا نهبا؛ تقرأ ما وراء نظراتنا، والتفاتاتنا، وحركاتنا.
فخطا، وكنت في أثره قائلا:
- أرض بلادنا مسرح تجري فيه الآن حوادث رواية؛ لأكبر عملية سرقة في تاريخ السطو لساعة ماس تساوي الملايين.
ففغر فمه.
استطردت:
- في الخطة أمر لا بد من تنفيذه.
سألني:
- ما هو؟
قلت بثقة:
- يجب أن تُتابع السفينة رحلتها لتخلو هذه الناحية من البحر لفرد أو لنفر؛ لا أعلم؛ موعود بما هو قابع في القاع.
قال وقد استغرب ما قلت:
- تريد أن تقول أن هناك من يتحين فرصة إقلاع السفينة.
قلت:
- نعم؛ إننا نبدو أقرب إلى عيني من يمسك بالمنظار المكبر؛ تعكس الآن عدستاه أشعة شمس الظهيرة؛ إنه باسط عضديه على حافة يتابع.
قال غاضبا:
- ماذا يجري حقيقة في الحكاية؟
قلت دون أن أستيقن بعد:
- لأفراد نفر هم الآن في البر منتدب في السفينة؛ وهو من اختلس الساعة وأودعها مكانا مُحدّدة مسبقا إحداثياتُه.
قال نظيري الرئيس أخيرا:
- فهمت الآن؛ فمستودعات الأميرة من حليها الذهبية، وغيرها من الأحجار الثمينة؛ مُترصّد لها منذ أول يوم من أيام رحلتها.
قلت:
- أمر رحيل السفينة مصيدة لهم.
لم يستوضح نظيري الرئيس شيئا آخر؛ فقد بلغته صحة استنتاجاتي؛ فولى وجهه جهة مجتمع الأميرة، ونظر في عيني هذه الأخيرة، وقال:
- أريدك أيتها الأميرة في مكان لا ثالث لنا إذ نحن فيه.
قالت بدون تردد:
- نعم؛ كما ترى.
ومشت إلى مقصورتها، ونظيري الرئيس يحذو خطواتها؛ بعد خمس دقائق عادا؛ كنت وقتئذ قد أدليت بنفسي في القارب المطاطي، ولم يقم نظيري الرئيس بأي فعل آخر غير مغادرة ظهر السفينة، فهدر المحرك ودار القارِب حول نفسه، ويمم مقدمته شطر الرصيف الذي تُشدّ إليه أرسنة البوارج الحربية، وفرقاطات المؤسسة البحرية العامة، وفي الوقت الذي وطأت فيه أقدامنا أرض الميناء؛ كانت السفينة قد نشرت أشرعتها البيضاء، وأبحرت في اتجاه الأفق، ولاتزال كذلك حتى اختفت؛ ولعل الأميرة لم يرُق لها قرص الشمس الغارب الذي كان يتوارى بضوئه الأصفر.
أرخى نظيري الرئيس جسده على كرسي مكتبه الوثير، ومكثت أنا واقفا مُتأهبا. قال:
- ما أنت فاعل؟
قلت:
- سأغوص في عتمة هذا المساء حاملا مشعلي اليدوي لأسترجع جزيرة الماس.
قال وقد لفتت انتباهه:
- ما زلت تنطق دائما بما أستفهمه.
ثم أردف:
- أسرع فقد يسبقك إلى المكان ذلك الذي رصدته.
قلت:
- إن المروحة القاطرة التي عززت عُدّتنا من آلات الغطس مؤخرا؛ تجعلني أستغني عن القارب المطاطي؛ فما عليك أيها الرئيس الآن؛ إلا أن تستدعي رجال مصلحة الأمن المختصة؛ لدراسة أبعاد الساحل؛ للانقضاض على الذي ينتظر الآن حلول الظلام؛ لا ليغوص من الشاطئ الرملي وإنما ليفد من البحر.
في ساعة معصمي ما يُؤهّلني لتحديد مكان ساعة الماس؛ فقد سبق وأن ضبطت المدة الزمنية التي استغرقتها عودتنا من المياه؛ التي كانت ترسو عليها السفينة. تجهزت بأدوات الغطس، وتناولت المروحة القاطرة؛ وقد شُحنت بطاريتها بالكهرباء، وسِرت على الرصيف أتوارى بجوانب الفرقاطات، ثم أسلمت قدمي إلى درجات سلم إسمنتي؛ أفضت بي إلى مياه البحر؛ التي يأتي بها المد إلى أرصفة الميناء وتجزر عنها؛ تفوح منها روائح بنزين محركات السفن والمراكب. ضغطت على زر التشغيل؛ فدارت المروحة؛ قاطرة إياي في أعماق البحر.
إن الذي غادر السفينة، وسبح بساعة الماس؛ بعيدا ما استطاع من مسافة قد تصل إلى مائة متر ذهابا، وأخرى إيابا. كنت أعُبّ هواء التنفس بالأنبوب المنتصب أعلى ماء البحر، ثم غصت في مياه المكان المحدد؛ دائرا من المركز، وزاحفا في آن واحد إلى ما يلي من المياه؛ فما التقطته عيناي كان هو طوافة مُعبأة بالهواء تَسحب إلى الأعلى خيط صنارة سميك مشدود إلى القاع؛ غطست بموازاته لأجد مجسم جزيرة الماس؛ ببركان نُحتت حِممُه بإتْقان، وبشاطئ رملي طُلي بذرات مذهبة، وبنخيل أخضر، ومياه ساحل صافية، انتشلته من بين نباتات أجمة بحرية، ووضعته في جرابي، ثم همزت المروحة القاطرة التي دفعتني إلى الأعلى لأطفو؛ في وقت كنت قد رأيت أضواء لثلاثة مشاعل تحتمائية تدنو؛ كانت تمسك بها أيدي أفراد ذلك النفر؛ الذي فكر، وبتواطؤ مع أحد عناصر طاقم السفينة؛ في طريقة ذكية لسرقة ساعة الماس.
وأنا في طريق العودة؛ أُحرّك بكل ما أوتيت من قوة ومن خبرة الزعنفتين؛ لإضافة قوة دافعة إلى المروحة القاطرة؛ إذ كان قاربان مطاطيان يُدرِّيان ماء البحر درّا؛ فتحلق مُقدّمتاهما فوق الأمواج؛ في اندفاع إلى الأمام؛ بسرعة فائقة ليُلقي ممتطوها من رجال يرتدون حلات الغوص؛ القبض على الأشخاص الثلاثة الذين لا يزالون ماضين في البحث عن رمية هي في حوزتي.
إذن لم أخطء، ولم يكن ما تصورته مجرد تهيؤات، قد يكون استبد بي بعض الخوف؛ من أن ما خططت له كان بُهتانا؛ فمجرد ما برحت مياه البحر؛ حتى شعرت بفرحة نجاح في المهمة التي أُنيطت بي، وأسرعت إلى نظيري الرئيس الذي وجدته في جمع ضم بعض المحققين وحراس الأمن؛ فأشار إليهم بيده إلى الاجتماع في غرفة مكتبه، وعلى مرأى منهم جميعا، وعلى المنضدة وضعت منحوتة جزيرة الماس، ولم تزل عينا نظيري الرئيس تتساءلان عن سر ما حملت. جلبت مطرقة، نزلت بها على قطعة الجبس المشكلة؛ فتجزأت إلى قطع؛ كاشفة عن ساعة؛ تتلألأ حبات ماسها بنور المصباح؛ فكانت لحظات صمت وتعجُّب شملت الحاضرين.
نطق نظيري الرئيس:
- إذن فسارق الساعة هو من كان ينحت أشكالا في الجبس؛ إنه قائد السفينة.
قلت بصوت الظافر:
- نعم.
تقدم أحد رجال الأمن شاهرا جهاز اتصاله، ونطق في ناقل الصوت:
- لتُحلّق حوامتان في عملية تعقب سفينة الأميرة، وتحديد موقعها.
أكد الصوت الذي يوجد في الطرف الآخر تلقيه الرسالة الصوتية؛ فسُمع بعد دقيقتين صوت مراوح حوامتين تجلد رياح الجو، وهديرها ينأى في ذلك البعد الذي غيّب السفينة. بعد خمسة عشرة دقيقة نقل جهاز الاتصال التقرير التالي: «تم العثور على السفينة، وهي راسية على بعد ثلاثة أميال بحرية، إلى الجنوب الغربي من القاعدة البحرية. أُلقي بغطاسين من متن الحوامتين؛ مسلحين لآحتمال هجوم؛ صعدا على ظهر السفينة ليجدا خمسة أفراد محتجزين في إحدى حجرات باطن السفينة؛ فيتم تحريرهم؛ وليُعلم من الأميرة أن قائد السفينة هو من احتجزهم، وركب قارب النجاة وتوغل به في البحر؛ ليسمعوا بعد ذلك هدير طائرة، وهذه الأخيرة تنزل بدعامتين انسيابيتين على مياه البحر. لا يُستبعد أنها تلقفت قائد السفينة وحلقت به إلى وجهة مجهولة».
بعد شروق الشمس؛ سطع ضوء هذه الأخيرة، وأنار صباحا؛ زاد من سعادة الأميرة؛ فقد عُثر على ساعتها ذات حبات الماس؛ يقال أنها صُقلت من عينة؛ كانت هي أول ما دل المنقبين على المعادن النفيسة؛ في بداية القرن التاسع عشر على منجم لا يزال مِعْطاء؛ كأنه لن ينضب في يوم من الأيام؛ فهي إلى جانب قيمتها المالية؛ تحفة فنية وتاريخية؛ فهي تركة يتوارثها الأمراء والأميرات، وما إن أُبرق لها خبر العثور عليها؛ حتى أصدرت أمرا لمساعد القبطان بأن يقود السفينة سالكا خط الإبحار الذي يتجه إلى القاعدة البحرية؛ التي لم يتوان أحد رجالها المختص في الغوص؛ فأثنت وشكرت، واستعظمت ما قمت به واستكبرتني؛ ثم أمرت مساعد القبطان بالابحار؛ ليس مع تيارات بحار الجنوب؛ وإنما العودة إلى إمارتها؛ ليكشف تحقيق عن فساد بعض العاملين في بلاطها.
فما هي بداية الحكاية؟
لم يكن في خلف صاحب إحدى الإمارات الأوروبية؛ الموروثة عن زمن الإمبراطوريات والملكيات المطلقة؛ غير ابنة؛ كانت هي وريثة عرش والدها بعد وفاته. كانت سنها آنذاك خمسة عشر عاما؛ فلم تكن تدرك جميع ما كان يجري من وقائع وأحداث في مملكتها، وما كان يخطط له من فعل، ولم تكن تعي خبايا الأمور، وما الهدف مما ينقل إليها نميمة بأحد، ودسائس ومكائد وحيل أفراد حاشيتها ومعاونيها، ولم يكن لها علم مما يُنهب من أرصدتها المالية؛ كانت غِرّا؛ تقضي أوقاتها في اللهو، والاستسلام لكلمات الإعجاب والمجاملة التي يُبديها ضيوفها؛ من أبناء الملوك والأثرياء، فكان آخر ما خُطّط له هو سرقة ساعتها الماسية؛ فقد واطأ قبطان سفينتها الشراعية أفراد عصابة متخصصة في سرقة الحلي والمجوهرات الثمينة؛ فأغراها في إحدى الأمسيات؛ في خضم إحدى حفلات الإمارة الصاخبة؛ بالإبحار في البحار والمحيطات الدافئة؛ إلى الجنوب من خط الاستواء؛ حيث لا تزال الأراضي هنالك تزخر بعجائب الطبيعة العذراء، وببقايا قبائل وشعوب ما تزال تحافظ على عاداتها القديمة وتُحييها؛ والتي هي في طور الانقراض؛ وقد استسلمت لهذا؛ والذي كان حلم يقظة طالما رجت تحقيقه وهي في سن مبكر؛ فكان أن نادم قبطان السفينة أميرته إلى حد الهذيان، والسفينة تجري بهما في عُرض البحر؛ فغافلها ثم عمد إلى صندوق مجوهراتها ففتحه، وامتدت يده إلى ساعة الماس؛ طمرها في إحدى منحوتاته الجبسية؛ أسماها (جزيرة الماس)، وأغرقها مُحددا الإحداثيات بدقة، وطبقا للخطة التي رسمها بالاتفاق مع عناصر العصابة الثلاثة؛ الذين وفدوا برا؛ ليقوموا بتنفيذ المرحلة الأخيرة منها؛ وهي انتشال المنحوتة من عمق البحر؛ لكن الأحداث جرت عكس ما خطَّطوا له.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟