هذيان – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ما زالت كلماتك ونحن نقف أمام مدرج الطائرة تتردد في مسامعي "الواقع هو ما عشناه، والحلم ما لم نبلغه بعد".
وها أنا أذكر تلك الكلمات التي ظلت موشومة في الذاكرة رغم كل هذه السنوات التي مرت على ذلك الواداع البغيض الذي لم يخلف في النفس سوى لوعة مكتومة وعبرة ظلت معلقة في المآقي لا تروم نزولا.
الآن، وبعد أن ذبلت أوراق العمر ولم يبق من هذا العمر أكثر مما مضى منه، يعيدني رنين صوتك إلى تلك السنوات التي حلقنا فيها على أجنحة الأحلام.
الآن، وبعد أن طوحنا معا، وانتقلنا سويا من فرح إلى فرح، تقف كلماتك بين الوهم والحقيقة، تغوص بي عبر بحار عميقة، وتحلق بي عبر فضاءات رحبة، تعانق أشعة الشمس وتراقص دارة القمر.
ها نحن أخيرا نقف وجها لوجه، أمنحك شوق السنين التي خلت، وتهبينني ذكرى ساكنة في القلب وبين ثنايا الروح، حلمان أبحر كل منهما في اتجاه و التقيا أخيرا ومصادفة على شواطئ العمر الزاحف بنا نحو القبر.
يتكرر المشهد أمامي، وتعاد الأحداث، فما أسرع احتفال الذاكرة بالماضي، أراني وأنا أفتح ذراعي لاحتضانك وأنت تطئين أرضي بعد رحلة طويلة قضيتها، عبرت فيها حدود العالم، وقضمت أنا خلالها الحديد بعيدا عنك، تحاصرني ذكراك ويطربني الشوق إليك.
جاءني صوتك هذه المرة متمردا ثائرا، لحنا سيمفونيا هز المشاعر وألهب الأحاسيس وهدهد الروح. اضطربت عندما سمعتك تقولين: "آن الأوان لنخطو أولى خطواتنا نحو حلمنا". وبين ذلك الوداع وهذا الاستقبال مرت سنوات العمر وعبرتُ خلالها من حزن إلى حزن.

الآن، وبعد أن تناثرت أوراق العمر وتساقطت معلنة عن حلول الخريف الذابل ترسمينني بسمة على شفتيك، وترممين جسرا تهاوت جل أعمدته، وتسقين ورودا لا قدرة لها على الإيراق، تحاولين، لكن عبثا، أنا لن أمنعك من المحاولة والتجربة، لكن دعيني أقول لك علانية إنك تنفخين على رماد، والوهم يجعلك ترين شرر النيران يتطاير من الموقد.
رحلتِ يومها، ومكثتُ أنا وحيدا ألملم ذكراك وأجمع بعضي لبعضي، حلقت بك الطائرة من سماء إلى سماء، وغاصت قدماي في الوحل، وكلما اقتلعت إحداهما غاصت الأخرى، وكلما عبرت عذابا وجدتني في عذاب أعمق وأشد، فإذا الحيرة تقود إلى حيرة، وإذا العمر مساحات من الألم والخوف والشوق..
لم أدر يومها أكان رحيلك بداية أم نهاية؟، أقلعت الطائرة وأقلع الحلم على جناحيها، ومكثت أحدق في الفضاء الذي احتضنك، لم أبك أمامك يومها كبرياء، وعندما لم أجد أحدا إلا ذاتي وحيدة، تناثر العمر، انهمر الدمع جمرا اكتوى به القلب والروح.
كنا وحيدين يودع أحدنا الآخر، وها نحن الآن وحيدان يستقبل أحدنا الآخر، وبين لوعة الفراق وفرحة الاستقبال مضى عمر بأفراحه و أحزانه، بأيامه و لياليه، بهدوء النفس واضطرابها، بسطوع النجوم وأفولها، وبين لوعة الوداع وفرحة الاستقبال تناثرت الدموع وخفق القلب.
ها هو ذا مدرج الطائرة الذي أبعدك عني يعيدك إليّ. وهاو ذا نفس المدرج الذي فرق بيننا، يجمعنا من جديد. وها هو ذات المدرج الذي جعل الدمع ينسكب، يكفكف دمعي ويمنحني فرحا، يقدمك لي أحلى هدية.
تربكني البدايات، فأيها ترسم الدرب؟ ولست أدري أاحتضان الوداع كان البداية أم احتضان الاستقبال؟ في الأولى احتوتني وحدتي، وفي الثاني احتويتني أنت، وبين الاحتواءين اشتد وجيب القلب خوفا واطمئنانا، حزنا وفرحا، وحشة وشوقا...
يا أيتها الساكنة بين ثنايا العمر، دعيني أهديك بقية العمر.
آسرة لمسة يديك وهما تنامان بين يدي ونحن نقف كطفلين تحدق عيون كل منا في عيني الآخر دون كلام وبلا همس، لم تكن تبلغ مسامعنا سوى دقات قلبينا، مآقينا باحت بما في نفسينا، تكلمت أهدابنا ونابت الدموع المنهرة على الخدين في صمت ألسنتنا، ظللنا أبكمين لحظات. فللصمت هيبته في مثل هذه المواقف، وللعيون حديثها. غاب العالم من حولنا أو غبنا عنه. عيناك تحدقان في عيني ووراء الأهداب تنام ألف حكاية، والحكاية لا بداية لها في ذينك القلبين اللذين يواجه أحدهما الآخر في صمت رهيب.
أراك الآن قادمة نحوي كما رأيتك منذ عشرين عاما أو يزيد، كنت يومها بالكاد تخْطِين نحوي ويداك تلوحان في الفضاء كأنهما تستغيثان خوفا من السقوط، لم تتجاوزي يومها سنتك الثانية وكنت أنا أنشب أظافري في سنتي العاشرة. لم تكوني يومها نازلة من الطائرة، بل كنت قادمة على مهل، كنت تمشين على حلم، كنتُ ووالدتي في استقبال أسرتك العائدة بعد غربة لا أعلم متى بدأت، ولكني لن أنسى نهايتها.
"ما اسمك؟" سألتك يومها حين حملتك بين يدي وضممتك إلى صدري وأنا أدس أنفي في عنقك مستمتعا برائحة الطفولة العذبة.
"ريتا" قلتِ اسمي ريتا، وأنت تشيرين بسبابتك ووسطاك لتفصحي عن عمرك. وكم كان حرف الراء حين انقلب "لاما" عذبا منسابا، وجريت بك وأنا أعدو خلف والدتي ووالديك، وأمك تحذرني من السقوط خوفا عليك لا عليّ، لكنها لم تحذرني من باب قلبي المشرع الذي أسكنتك فيه منذ تلك اللحظة.
عشرون سنة مضت وأنت قابعة في الذاكرة وفي القلب، لا زلت أستمتع برغم مرور كل تلك السنوات بلون عينيك الصافيتين الطافحتين ذكاء وحبا.
ريتا أيها البدر الذي ما كاد يتوسط العمر حتى أفل، وبأفوله أظلم الكون وتاه العمر بين شوق وحزن. فما أتعس العمر حين يمضي بين انتظار وانتظار.
خمس عشرة سنة تلت عودة والديك قضيناها كحلم، بين يدي ترعرعت، وبينهما استقبلتك الحياة، طفلان كبرنا معا، مربعنا واحد ومنامنا واحد.
ما أروع اسمك حين ينتصب أمامي شامخا رغم مرور كل تلك السنوات. رهيب في حضوره وفي غيابه، مؤنس في كليهما، متوحش، أحكم قبضته على ثنايا العمر.
لاحتضان يديك طعم الكون، وبثوبك الوردي الذي ألهب مشاعري تعلق نظري، ما أروعك وأنت تتقدمين نحوي ميممة وجهك أين كنت أقف. غاب العالم من حولك ولم أر سواك. ولم أسمع كل الضجة التي ترافق مراسم الاستقبال والتوديع. جاءني صوتك عذبا مزلزلا: "أنتَ كما أنتَ لم تتغير". لم أستطع التعليق، لم أسألك عنك، هزني عطرك، عقدت لساني عذوبة صوتك، استفزتني أنوثتك الطاغية، صافيا كان وجهك بلا مساحيق، شعرك المنساب، أهداب عينيك النائمة في وداعة، شفتيك، جيدك... يسكن الكون وتخرس كل الكائنات لتستمع لصمتك وصمتي اللذين يواجه كل منهماالآخر. وحولنا ألف لحن يعزف فرحا بك وسعادة بلقياك بعد كل هذه السنوات من الحرمان والضنى، هذه السنوات التي لم تكن من العمر، سنوات تخلخلت فيها قوانين الكون، فلا الأهلّة صارت أقمارا، ولا الأقمار استحالت بدورا، ولا البدور أضاءت الأكوان. سنوات غاص فيها القلب في الأحزان حتى بلغ نهاياتها. سنوات كان للفرح قلوب أخرى يدندن لها لحن الحياة، لكنه أخطأ خلالها الطريق إلى قلبي. سلواي خلال كل ذلك العذاب كان رسائلك التي كانت تصلني، والتي حفظتها في شغاف القلب، وعطرتها بعطر الحياة لتنوب عنك، وحادثتها ليالي الوجد والشوق، وساءلتها عنك حتى ملت السؤال، وبثثتها لوعتي وأحزاني حتى تحول مدادها إلى دمع امتزج بدمعي فخططت به إليك ما كنت تقرئين من كلمات تصلك بين الفينة والأخرى. كنت تنغصين عليّ عيشي برسائلك، كنت أحدثك عن شوقي إليك وحلمي بلقياك، وكنت تحدثينني عن جمال باريس وصفاء جوها. كنت أحدثك عن وطن سليب شُرِّد أبناؤه وقتِّلوا ونُكِّل بهم، وكنت تحدثينني عن حقوق الإنسان واحترام الناس للحيوانات هناك. ذكرت لك أن أبناءنا بلا مدارس. فقلت لي إن لقططهم رياضا يلتقون فيها. قلت لك إن أطفالنا يموتون جراء الملاريا والجوع والحروب. وقلت لي إن كلابهم تموت من التخمة...
كنت يا ريتا أسكر بالرسائل حين أكتبها وحين أقرؤها.
الآن، وبعد أن وخط الشيب فوديّ، يتقاطع دربك مع دربي في لحظة مجنونة أتيناها ونحن في كامل مداركنا العقلية. وها نحن نتوسل للزمن أن يتمهل، فكم من الأيام قد مضت وكم يلزمنا من العمر كي نعانق فيه أشرعة الفرح.
أيام العمر تمر مسرعة ونحن كسيزيف، يتواصل صراعنا العبثي مع الحياة، وكلما اعتقدنا أننا ظفرنا بها تتفلت من بين الأصابع كالماء فلا يبقى في أكفنا سوى الوهم. ونظل نعيد الكرة مرات محاولين عبثا، فتتدحرج الأيام مخلفة أثر فرح وحزن متعانقين عناقا عجيبا، ونلملم بقايا العمر مستسلمين رافعين رايات الهزيمة في انتظار وصول النعش الذي سنُحمل عليه بعد أن يلتهمنا الموت المتربص بنا لنُطمَر في جوف الأرض وتتلذذ الديدان بالتهام أجسادنا.
الآن يا ريتا أسْلَمَتْكِ الأقدار إلى قدري لأرى كبة الشوق والحب ترنو إليّ باستهزاء فأخجل من عجزي ومن ضعفي ومن عمري...
أنار صوتك بهو المطار، وتمازجت اللغات في كلماتك، وحدقت في عينيك فإذا فيهما فرح طفولي ألمح فيه ريتا التي تتزين لدخول المدرسة في اليوم الأول بميدعتها الحمراء وحذائها الأزرق وبنطلونها الوردي، بمحفظتها الملتصقة بظهرها، بفطنتها وبمشاكساتها. أراها وهي تسير بجانب والدها فتسبقه حينا فينهرها فتتراجع متمتمة ببعض الكلمات المبهمة. أراها وظفيرتيها الملقاتين على كتفيها تنطان محدثتين إيقاعا تحاول أن ترسم على نغماته وقع خطواتها.
أضاء حضورك الكون، وصدحت وردة الجزائرية مرددة "عدّى ربيع العمر"، وتبعثرت نواميس الكون. هزني عطرك الباريسي المنعش، واستنشقتُ عطر حضارة أبدعت حتى في تركيب العطور وأثارة الشهوات الدفينة وإيقاظ الحواس النائمة وإلهاب النفوس المكلومة، وتضوع صوتك مسكا وأنت تهمسين في أذني "لأجلكَ عدتُ".

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟