حبات المطر في الخارج تتناثر بتمهل على زجاج النافذة ، فتحدث صوتاً ناعماً يشبه النقر البطيء على صفيحة فارغة . وضوء الشمس لم يعد يرسل جدائله.... يتسلل عبر خروم الستارة العتيقـة المتدلية على النافذة بوساطة مسمارين مثبتين على الحائط . كانت العاصفة الثلجية قد انجابت، وهدأت قبل قليل... وثقل المكان بالسكون، والقلق والترقب ، باستثناء نقر حبات المطر الخفيفة المتباعدة ، وصوت خرير مياه الأمطار تسيل باتجاه القنوات والحفر في الشارع الموحش الخالي من المارة .
في الداخل ، كان الزوجان جالسين حول وابور الجاز يطلق فحيحه باتصال قبيح ، يمـدان ذراعيهما فوق رأس الوابور المغطى بقطعة معدنية صدئـة ، يبسطان بطون أكفهما الباردة لحظة ، ثم يخطفانهما، ويشرعان بفرك البطن بالآخر، والأكف ، ينفخان، ويتوحوحان مثل طفلين بريئيـن يحاولان طرد البرد من أصابعهما البضة المتورمة . بالقرب منهما كيس بلاستيكي شفاف يطفح بالكستناء ، يأخذان منه الحبة يضعانها على الوابور يشويانها ، وفور أن تحترق القشور يدفعانها فتسقط على الأرض ، ثم يندفعان يقشرانها ، يلتهمانها بشراهة ، وهكذا دواليك الحبة تلو الأخرى .
قبالة الزوجيـن يرقد تلفاز لا يند عنه صوت ، هيئتـه تزيد من حدة القلق والقرف في نفسيهما ، بسبب صوت الأنيـن المنبعث من الغرفة الأخرى ، ينصتان إليه دون اكتراث أو وجل . كانت أم الزوج وحماة الزوجة : العجوز طريحة الفراش منذ مدة ، تصرخ وتتألم كأن ناراً نهمة تزدرد أحشاءها، تتـاخم حدود الموت : وتتأوه تأوهات جشاء . أنينها يقطع القلب ، ويكاد يهزّ الجدران ، ويصفق الأبواب والشبابيك ، وكأنه يريد فتحها يشرعها نحو الفضاء شاكيا علّ أحدا من العالم الخارجي تتحرك لواعجه .
صرخ الابن – على حين غرّة – يقطع هذا السكون المرعب :
- " عيب ، يجب أن نذهب إليها ".
جحظتـه زوجة بقحـة ، وتململت وكأنها تريـد ضربه ، صرخت :
- "اسكت ! اجلس في مكانك ولا تثرثـر ، دعها تموت "
- " عيب ، أرجوك ، طيب إذهبي أنت إليها "
صرخت الزوجة متضايقة غاضبة :
- " ما نفع الذهاب إليها ؟ دعها تموت . الموت راحة لها أكثر "
ردّ الزوج ، وقد اعترته طرحة حزن عميقة ، وبخاصة أنه ضعيف جدا أمام زوجته :
- " ما أقس قلبك ، وما أشدّ خيانتك للود ؟! "
- "أنـا؟! " صرخت الزوجة ، وهي تلوى فمها وترمش بأطراف عينيها مستهزئة ساخرة :
- " أنـا ( زعقت هذه المرة !! ) أتحسب أنني أستطيع رؤيتها على هذه الصورة ؟! "
ظل الزوج قابعاً في مكانه لا يتحرك ، وهو يلملم حزنه ، وقلـة حيلتـه .
لو كان هناك من ساعة معلقة على أحد الحيطان لكانت تشير إلى الخامسة بداية تسلل خيوط الليل الرمادية . أما فيما يتعلق بزوج هذه العجوز المسكينة فقد مات قبل أن يدرك مثل هذه اللحظات التعسة .
تنحنح الزوج وهمس بأسى :
- " أعتقد أنها تنازع الموت ، دقائق وترحل..." ثم توقف عن الكلام كأنه تذكر شيئاً ذا قيمة :
- " أرجوك ، إذهبي إليها . قد تحتاج إلى شيء ، هذه لحظاتها الأخيرة ؟ "
- " قلت لك أسكت ، ألا تعرف أنني مشغولة أفكر؟! "
- " تفكرين ؟! بماذا " سأل الزوج .
- " وماذا يهمـك أنت ؟ تأكل ، وتشرب ، وتنـام ، ولا تصنـع شيئـاً ! أتعرف بماذا أفكر " ( تابعت )
- " لا ، طبعا "
- " أفكـر بالتركـة طبعاً "
امتعض الزوج ، وتمنى لو يقول الكلمات الواقفة في حلقة، لكنه عجز :
- " لا تقلقي ، أنا بنفسي سأنبش كل أغراضها ".
وأبور الجاز ما يزال يرسل أزيزه ودفئـه ، يختلط بأنّات العجوز المتوجعة ، وصراخات نقاش الزوجين ، وفرقعات حبات الكستناء المستمر ، من فترة لأخرى توضع على رأس الوابور، ثم يلتهمانها .
احترقت ألسنتهم ، ودمعت عيونهم من سرعة تناوب أكل لب الكستناء الساخن . بعد مدة ، توقف الزوج فجأة ثم نظر باتجاه الغرفة التي كفت عن الصراخ وهدأت – يستطلع الأمر. مسح دموعه وهم بالوقوف . لكن زوجـته لكزته وأمرته بالجلوس ، ثم نهضت من مكانها واتجهت نحو الغرفة . لطت قرب الباب تصيخ السمع ، ثم دفعت خصاص الباب ونظرت : كانت الجثـة هامـدة ، ممـدة ساكنـة بلا حركة . تراجعت إلى الوراء شاحبة مذعورة .
- " الله يرحمها . أخيراً ارتاحت ، وأراحت، شكراً لك يا رب "
لحق الزوج بهـا ، تسلل مع زوجته ، ودخلا الغرفة ببطء على رؤوس الأصابع . لفحتهم الروائح العطنة ، وبدت أرجاؤها أكثر رعباً من أي وقت مضى ، فقد تفشى الظلام أكثر، وصبغ جثة الأم المسكينة بهالـة مرعبة من السواد الرهيب والتوجس .
تقـدمت الزوجـة بحذر وضغطت على زر النور، ثم أمرت زوجها بالبحث عن التركة فوراً .
شرعا يجوسان المكان ، تحركا بهلـع وهما ينبشان مثل القطط الجائعة ، حتى أدركهما الإعياء وكدهما التعب ، ولما لم يجدا شيئا أخذ كل منهما يضرب كفا بكف ، يندب حظه ، يتأفف ويلعن .
- "الجثـــة ؟ " صرخت الزوجة.
إتقدت عيناهما بالشرر، فزع الزوج وهو يتمتم :
" ربما في ملابسها ، فلنجرب الجثة ؟! "
إقتربا – معا- ً من الجثة ، قلباها على بطنها بعنف ، قلباها جهة الشمال ، ثم جهة اليمين، قلباها ثانية ، وثالثة . لم تعد الجثة تخيفهم . صارت مثل كيس قمامة يعبثـان بمحتوياته بحرية .
بعد لأي ، توقفا منهوكين يلهثان ... نظرا إلى بعضهما بغرابة لحظة ، ثم انفجرا بالضحك كمجنونين ذهب عقلهما .
يضيف الراوي : أن الزوجين ظلا يضحكان حتى جفت الدموع في مآقيهما وتحجرت ، بعد أن غارت محاجرهما...
ولما توقفــا عن الضحك ، وقفـا قبالة بعض يجحظان بعضهما بغضب شديد ، وهما يتبادلان السباب والشتائم كل منهما يلوم الآخر.
- " عيب ، يجب أن نذهب إليها ".
جحظتـه زوجة بقحـة ، وتململت وكأنها تريـد ضربه ، صرخت :
- "اسكت ! اجلس في مكانك ولا تثرثـر ، دعها تموت "
- " عيب ، أرجوك ، طيب إذهبي أنت إليها "
صرخت الزوجة متضايقة غاضبة :
- " ما نفع الذهاب إليها ؟ دعها تموت . الموت راحة لها أكثر "
ردّ الزوج ، وقد اعترته طرحة حزن عميقة ، وبخاصة أنه ضعيف جدا أمام زوجته :
- " ما أقس قلبك ، وما أشدّ خيانتك للود ؟! "
- "أنـا؟! " صرخت الزوجة ، وهي تلوى فمها وترمش بأطراف عينيها مستهزئة ساخرة :
- " أنـا ( زعقت هذه المرة !! ) أتحسب أنني أستطيع رؤيتها على هذه الصورة ؟! "
ظل الزوج قابعاً في مكانه لا يتحرك ، وهو يلملم حزنه ، وقلـة حيلتـه .
لو كان هناك من ساعة معلقة على أحد الحيطان لكانت تشير إلى الخامسة بداية تسلل خيوط الليل الرمادية . أما فيما يتعلق بزوج هذه العجوز المسكينة فقد مات قبل أن يدرك مثل هذه اللحظات التعسة .
تنحنح الزوج وهمس بأسى :
- " أعتقد أنها تنازع الموت ، دقائق وترحل..." ثم توقف عن الكلام كأنه تذكر شيئاً ذا قيمة :
- " أرجوك ، إذهبي إليها . قد تحتاج إلى شيء ، هذه لحظاتها الأخيرة ؟ "
- " قلت لك أسكت ، ألا تعرف أنني مشغولة أفكر؟! "
- " تفكرين ؟! بماذا " سأل الزوج .
- " وماذا يهمـك أنت ؟ تأكل ، وتشرب ، وتنـام ، ولا تصنـع شيئـاً ! أتعرف بماذا أفكر " ( تابعت )
- " لا ، طبعا "
- " أفكـر بالتركـة طبعاً "
امتعض الزوج ، وتمنى لو يقول الكلمات الواقفة في حلقة، لكنه عجز :
- " لا تقلقي ، أنا بنفسي سأنبش كل أغراضها ".
وأبور الجاز ما يزال يرسل أزيزه ودفئـه ، يختلط بأنّات العجوز المتوجعة ، وصراخات نقاش الزوجين ، وفرقعات حبات الكستناء المستمر ، من فترة لأخرى توضع على رأس الوابور، ثم يلتهمانها .
احترقت ألسنتهم ، ودمعت عيونهم من سرعة تناوب أكل لب الكستناء الساخن . بعد مدة ، توقف الزوج فجأة ثم نظر باتجاه الغرفة التي كفت عن الصراخ وهدأت – يستطلع الأمر. مسح دموعه وهم بالوقوف . لكن زوجـته لكزته وأمرته بالجلوس ، ثم نهضت من مكانها واتجهت نحو الغرفة . لطت قرب الباب تصيخ السمع ، ثم دفعت خصاص الباب ونظرت : كانت الجثـة هامـدة ، ممـدة ساكنـة بلا حركة . تراجعت إلى الوراء شاحبة مذعورة .
- " الله يرحمها . أخيراً ارتاحت ، وأراحت، شكراً لك يا رب "
لحق الزوج بهـا ، تسلل مع زوجته ، ودخلا الغرفة ببطء على رؤوس الأصابع . لفحتهم الروائح العطنة ، وبدت أرجاؤها أكثر رعباً من أي وقت مضى ، فقد تفشى الظلام أكثر، وصبغ جثة الأم المسكينة بهالـة مرعبة من السواد الرهيب والتوجس .
تقـدمت الزوجـة بحذر وضغطت على زر النور، ثم أمرت زوجها بالبحث عن التركة فوراً .
شرعا يجوسان المكان ، تحركا بهلـع وهما ينبشان مثل القطط الجائعة ، حتى أدركهما الإعياء وكدهما التعب ، ولما لم يجدا شيئا أخذ كل منهما يضرب كفا بكف ، يندب حظه ، يتأفف ويلعن .
- "الجثـــة ؟ " صرخت الزوجة.
إتقدت عيناهما بالشرر، فزع الزوج وهو يتمتم :
" ربما في ملابسها ، فلنجرب الجثة ؟! "
إقتربا – معا- ً من الجثة ، قلباها على بطنها بعنف ، قلباها جهة الشمال ، ثم جهة اليمين، قلباها ثانية ، وثالثة . لم تعد الجثة تخيفهم . صارت مثل كيس قمامة يعبثـان بمحتوياته بحرية .
بعد لأي ، توقفا منهوكين يلهثان ... نظرا إلى بعضهما بغرابة لحظة ، ثم انفجرا بالضحك كمجنونين ذهب عقلهما .
يضيف الراوي : أن الزوجين ظلا يضحكان حتى جفت الدموع في مآقيهما وتحجرت ، بعد أن غارت محاجرهما...
ولما توقفــا عن الضحك ، وقفـا قبالة بعض يجحظان بعضهما بغضب شديد ، وهما يتبادلان السباب والشتائم كل منهما يلوم الآخر.