جاءتها برقية من عاشقها عزيز الملعون بكذبة الأمل، فتحتها متلهفة وحبها له يحرك أناملها لتمزق فوهة الظرف...، وأخيرا جاء ما تمنته منذ أول لقاء لها به.
-"عفاف حبك زكاة عَشَاء أنتظرها لتجمعني بك على مائدةٍ وجها لوجه لأتمعن وأرتوي بنظراتي من جمالك المدفون بداخلي في عمق أعماق ذاتي، حبك يلحقني كاللعنة"
ارتعش جسدها وابتسمت وحنين الشوق يدفعها، لتكتب له في برقية عاجلة، حمراء تفوح منها رائحة الورد، عاجلة جدا..
-"متى؟ وأين يا نبض الفؤاد؟؟"
واضعة له بين عارضتين -أحبك عزيزي على الدوام-...
وبعد يومين وصل الظرف إلى بيته، اخترقت رائحتها الوردية قلبه دونما استئذان، وضع الجريدة على الكرسي وقام ذاهبا ليقرأ ما قالته له، أنهد الظرف الوردي وفتحه...، ابتسم ضاحكا وانفتح قلبه لحبها الذي اكتساه...، عاد لكرسيه حمل الجريدة ورشف القهوة ببطء ثم قال:
-"أنت مكان ما بداخلي لكني أجهله، أحس بأنك تقيمين في عمق أعماق ذاتي لايستطيع أحد الوصول إليك، مكانك فيَ محصن أهرب إليه كلما شنت الحياة حربها علي ولفّتني بالضياع المضاجع"
حمل ورقة بيضاء وبدأ يشن عليها حرب الحب المهزوم بكلمات الحنين والشوق، تنهد ثم قال كاتبا لها :
-" حبيبتي رحاب أعيش ثورة نفسية دفينة، ذات فيّ تعشقك وأخرى ترغب في مغادرتك، حبيبتي، يا نبض الفؤاد أنت لي ولست لي...، سأشرح لك على مائدة الفراق في التاسعة صباحا بمقهى لاكوميدي الكائنة بشارع محمد الخامس بمدينة الرباط".
ارتاد عزيز مقهى "لاكوميدي" مبتعدا عن ضجيج الباعة في خارجها، شخص بصره في جدرانها البهية المزخرفة بالجبس المغربي التقليدي العريق، عرس تشكيلي من الألوان المتجانسة التي تفتح خاطر الناظر لها، شبه مكتظة بدء من الصباح الباكر، تأسر روادها والعابرين ببساطتها...، استنشق رائحة القهوة الإيطالية، إنها قهوة "اسبريسو" التي تقدم في كأس بشكل غريب وجذاب مع إضافة غبار الشكولاتة، مذاق لا تقاومه الذات، فهي تحتضن معها كل معاني الحياة، ولم لا؟ وهي تحمل القلوب إلى عالم العشق وتبث في الذات إيقاعها الهادئ...
سمع صوتا يناديه من الخلف، ليس كأي صوت عادي، صوت لم يقدر الابتعاد عنه، التفت فإذا بها عفاف:
- صباح الخير عزيزي.
- صباح الخـ...
أخذت بيده دونما إتمام تحية الصباح ثم جلسا في طاولة مرتفعة ومقعدين مرتفعين، مع خشب البتولا الأبيض، نادت النادل:
- صباح الخير سيدتي
- صباح الخير، هل لي بكأس قهوة شديدة السواد وقنينة ماء معدني...
- استغرب النادل كيف لسيدة في ريعان شبابها أن تشرب قهوة من هذا الصنف...، نظر إلى عزيز وقال له:
- وأنت يا سيدي...
- أحضر لي كأس قهوة، وقل للبرمان أن يزيل منها مرارة الإنتظار...
نظر إليهما النادل بغرابة وسكب قولهما في طرقات اللامبالاة من دفيتره وانصرف...
قالت عفاف بصوت خافت:
- الآن استطعت أن أراك كما يجب، لماذا لا ترد عن اتصالاتي؟؟، سيسألك الله عن دمعي المنسكب بسببك، عن روحي المثقلة بالوجع والحزن، مضيت أبحث في الزحام بين الرسائل القديمة طيلة الليل، لأرتوي من وعودك التي وعدتني بها، وسجنت بين سطور برقيتك التي رمتني بسهم من سهام إهمالك لي، أنت على يقين بأن رحيلك عني سبب في اتساع حزني...، لماذا تشن علي حربك وتصعد قطار الفراق الآن وأنت على يقين بأنني وهبتك قلبا لم أهبه لأحد من قبلك دونما أن تسألني يوما عن شدة حبي لك....
رفع رأسه وبدأ يتقصى تجاعيد النادل التي ترسم على وجهه تقويصة ثغر لطيفة، وهو يحمل الصينية ممتلئة بالكؤوس الملونة...، ومازاد من إعجابه به أنه يحملها بيد واحدة وكأنه لا يزال شابا قويا. اقتربت خطاه تجاههما، وضع القهوتين على الطاولة ثم انصرف بعجالة إلى طاولة أخرى، نظرت عفاف إلى القهوتين وقد حل الصمت والسكون بينها وبين عزيز، حوطتهما رائحة النسكافيه الإيطالية بدخان وغمام يحمل معه جوا سافر بهما إلى أفق العشق وعوالمه، ابتسم عزيز وعيناه لا تفارق الكأسين ثم قال:
رب سوداء في الكؤُوس تبدّت ... تهب الروح نفحة في الحياة
فإذا ذقتها تحققت منها ... إن ماَء الحياة في الظلمات
أغمض عينيه ثم رشف الكأس رشفة سريعة دون أن يضع السكر، وضع الكأس على المائدة ومسح جفنتيه ثم تنهد، أمسك بيديها وقبلهما ثم قال منكسرا بصوت هامس:
- حبيبتي الغالية أراني تائها أتسكع بين دروب الحيرة والشك، بات العالم مخيفا بالنسبة لي، فهو يكتسيني بملابسه الحزينة، لا أمل لي على أرضه، أسير وفق ما يريد، وليس وفق ما أردت أنا، لايمكنني أن أكذب عليك، كيف لي أن أعاهدك بالزواج وأتبادل معك حقن الحب، وأن أكون مسؤولا عنك؟؟. كيف لي أن أجسد لك معنى العطاء، وأن أرسم على نوافذك المتعبة صورا بهية وأجبر كسرك بضمادة كلامي لأخبرك أن خلف كل زجاجة متسخة ربيع فاتن؟؟، كيف لي أن أحمل في صدري أكاليل فرح وبهجة وأغرسها في قلبك؟؟، وأنا لم أحرر ذاتي من شبح هذا الوطن الكئيب الذي حطم آمال أبناء الشعب.
في هذا الوطن بالذات إذا سألتني عن مهنتي أقول لك "طالب جامعي" تصفعني الحياة بتجاربها لأقع ضحية بين جدرانها التي تحد من حرية الفكر وتخضعني لقانونها الكافر بمنطق العدل، وتجعلني أستنشق من جوها العليل الذي لا يعترف إلا بذلك "الهو" الذي يسطو على أحلام أبناء هذا الوطن بغية أن أعيش جاثيا على أناملي لا فكرة لدي بما قد يحمله الغد من أخبار...
كيف لي أن أحررك من قيد "العنوسة" وأسعدك بتغاريد بهية، وذاتي لا زالت نكرة بالنسبة لي، غريبة عني ولا شيء يوحي بالأمل؟؟، كيف لي أن أجعل أحلامك حقيقة، أن أطمئنك بأنني قادر على أن أهب لك ما تريدين وأنا ما زلت ذلك "الطالب الجامعي" الذي ينتظر من مسؤولي التعليم وضع حل لمسيرته المهزلية التي تحمل معها طغيان الشواهد والتجارب والكفاءات، أولئك الذين جمدوا آمال أبناء الشعب؟؟
لا أريد أن أكذب على أبنائي كما كذبت على نفسي، وأزرع فيهم رمز الهوية ودستور القيم...، ليسألوني بعد أن يمر الزمن أهذا هو الوطن الذي حدثنا عنه يـــــــــــا أبي....
لا زلت ذلك المسافر، واقفا في منعطف تارة يجذبني نحو الأمل، وتارة يصفعني بصفعات الألم، متُّ في طرقات اللامبالاة ومحطات الإنتظار، حتى اسمي ما طابق معناه، عزيز عليك لكنني أكره ذاتي....
نظرت إليه ببهجة وقالت له:
أيها الكئيب ثمة شموس أخرى تتوارى خلف الأفق .. مازالت تنتظر أن نكشف عنها، ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، كنت أقرأ بالأمس في أدب نجيب محفوظ فأعجبتني مقولة قالها :
بعض الأشياء تأتي وترحل ولا نهـتم، وبعضهـا ترحل معهـا قلوبنا ولا تعوُد
لا أريد أن نقع ضحايا بعضنا البعض، إن فقدت الأمل فأنا مازالت في قلبي بقايا أمنية، لا تعتقد بأننا لن نكون.
إلى متى خلق الأعذار؟؟، إلى متى سنلقي اللوم على من هم بحولنا؟؟
آن الأوان لقهر الخوف حبيبي، آن الأوان لتحمل المسؤولية، آن الآن ليغدو الحلم حقيقة، معا سنصل إلى القمة.
سأطرح عليك سؤالا عزيزي:
- هل تحبني على أمل البقاء معا حتى نبني عش الزوجية؟؟
أمسك بيديها بشدة وقبل رأسها ثم قال:
- نعم وألف نعم...، سأحملك بين ضلوعي وأجعلك كالسر المدفون بنبض قلبي، لا تراك سوى عيني، ولا يعلم سرك سوى روحي...، أنت حب وثورة بالنسبة لي، أنا حي بعدما دفنت في مقابر الغموض وحبك روح مزقت كفن اليأس وأعادتني إلى سطح الأرض بعدما كسا قلبي الظلام....
ثم نادى على النادل وأعطاه عشرين درهما ثم قال له احتفظ بالباقي، ثم مد يده لمحبوبته عفاف قائلا لها:
- ابتداء من اليوم ، إنك مسؤوليتي.....، فهيا لنغادر المكان.
ابتسمت لفكرته ورأيها الذي أصبح رأيه ثم خرجا من المقهى معا تجاه تكوين عش الزوجية بعيدا عن اللاأمل الذي حطم أحلامهما على جسر الماضي. وهي مؤمنة بأن حبيبها قادر على فعل المستحيل لإرضاءها وبناء عش الزوجية بينهما.