حبّر الجُملة الأولى بتوترٍ وطوّح بقلمهِ بعيداً. "جُوليا، أيّتُها الوديعةُ اللئيمة، إنّك لا تستحقينَ ورقة، واحدة، ولو مسروقة...". كانتِ الصّورة، صُورتها الدّامغةُ تنثالُ، بصيّغٍ متعدّدة، على ذهنهِ المثلومِ. تذكّر، في هذه البُرهة المتشنّجة إلْمَاعَة الصُّوفيّ، الذي التقاهُ صُدفة في أعالي إيِفري. قالُ له، هذا الرجل الذي يشبهُ الأنبياءَ، إنّ الحقيقة مَثْوَاهَا الممالكُ العُليا. كلّ موجودٍ لا يستوطنُ هذه المرتفعاتِ الشّاهقة، منذورٌ، بحكمِ قانونِ الطّبيعة، للانتفاءِ. إنّ الوجود هو ما يهْرعُ إلينا وينامُ في الدّاخلِ، مُستكيناً لصمته الأزليّ. لم يفهم رحيم فَحْوى الإلماعة الماكرة، لكنّه أحسّ بها تَسْرِي في كيانه، مُبْهمةً كسديمٍ لا تكادُ تَبِينُ تجاعيدُ وجههِ. كانتْ إلماعة تَضَاءَل فَهْمُهُ عن دَرْكِ مجاهلها.
مأخوذاً بهذه الأفكار المكينةِ، صوّب نظرهُ نحو لوحةِ "فتيات أفنيون"، المُعلقة، بأناقةٍ واحترافيّةٍ مُرعبةٍ، على الجدارِ الأحمر. بدت له الفتاةُ، الرّابضة في أقصى يسارِ اللّوحة، وكأنها ناهضةٌ من المقابرِ الفرعونيّة، في ظلّ تواري قاعدة المَنظور، اختلّ وجهها وتداخلتْ تأليفاته. أمّا الفتاةُ، المنتصبةُ في أقصى اليمين، فكانت ترتدي قناعاً إفريقيًّا سحريًّا يبعث على الارتياب.
ما بين اليمين القصيّ واليسار البعيد، كان الوسَطُ فضاءً أبيضَ، لم يستطع رؤيتهُ. رغم أنّه كانَ حاضناً لشخوصٍ آخرين. فَرَك عينيه بيديّه المُرتجفتيّن. حينَ فَتَحَهُمَا صُعق. في الوسط، كانت صورةُ جوليا، تطلّ بعينينِ فاحشتيْ الإِبهام. في جسدها يتألّق مُوجزُ الجَمال الشماليّ المشفُوع بَوَهَجِ الشّمس وصَخب البحر. كانت جميلةً جداً، عَاتيَّة جداً، كَالموت. تلبّستهُ لَعْنةُ بِيكَاسُو، أَغْمَضَ عينيه، وتَدَحْرجَ في مُنحدراتِ روحهِ، وحين اقتربَ من الحوافِ المبهمة، تراءتْ له صورة جُوليا وهي تراقصُ فتياتِ أفنيون، في الوسط كان بيكاسو يقفُ عارياً ممسكاً بفُرشاةِ رسمٍ، كلّما حرّكها انْدَلَعَت الفرشاتُ الأرجوانيّة وحلّقت فوق شعرِ جُوليا المبللّ بدموعِ الربّ. يا للعنة...! أَبْعِدْ عنكَ هواجسَ الصّورة، حتماً، ستستوديك صَوْبَ الجُنون.
داخل هذا المدارات الضّالعة في غموضِ النّفس الإنسانيّة، أسلمَ نفسَهُ لنومٍ عميقٍ، علّه يتخلّص من هذه الصّور، التي نتأت كالوحوشِ الضّارية في دواخلهِ. عبثاً حاولَ. رأى، فيما يرى المُقبل على الموتِ، فتاة مضرّجة بحمرة الشّفق النّاعس، تُحاول الاقترابَ منه، وكلّما اقتربت ازدادت بُعداً. تملّى ملامح الفتاةِ، رغم بُعدها، أدرك أنّها سيّدة الأضَاليَا. كانت مُتردّدة، تتوجسّ خيفةً من مجهولٍ انبجس كظلّ في ليلٍ مُقمرٍ ثم امّحى. لم يفهم سببَ تردّدها. وعنّ له، ها هُنا، الاقترابُ منها. عساهُ يطمئنُها. لكنّها تَأبّتْ، وَتَمنْعَت، وركَضت نحو النّهر الأسودِ الذي كان يجري قُربها. على الضّفة الأخرى من النّهر، كانَ شابٌ وسيمٌ يناديها، بصوتٍ رخيمٍ، أن تؤوب إليهِ، فقد حضّر لها كرنفالَ حبّ يليقُ بزهور وجهها. بينما يقفُ رحيم، في الجِهة المُقابلِة، حسير الحالِ كَسِيفَهُ، يستعطِفُها أنْ تدفعهُ في جرفٍ هارٍ وتعودَ لحبيبها. كان يعرفُ أنه كلمّا توغّل في جروفِ المرتفعات العُليا اقترب من حقيقته. وقفت سيّدة الأضاليا بينهُما. همّ رحيم بالاقترابِ منها؛ فإذا هي سِربُ غربانٍ يملأ الأحياز والأفضية بشُحاجٍ مخيفٍ، مُدوٍ، مُرعبٍ. تهاوى فستانُها فارغاً على الأرض السّوداء، وتحوّلت جوُليا إلى هلامٍ عارٍ.
قَفز رحيم من مكانه مُرتعداً، صارخاً: يا ربّ الشياطينِ أيّ كابوسٍ هذا! وأيّ امرأة هاته التي تُعذبني بها...! وقف حيال مرآته ذات الإطار الفضيِّ، يتفرّس حروف وجههِ الموشوم بمحن الدّنيا. هل هذا الوجهُ المحنّط بالفجيعة وجهي! أما من راهبٍ عندي، يُقاسمني شقاءَ الحظّ في قدري! نبس بهذه التعويذة الطاعنة في القداسة. واقتعد كرسيّه ليكمل رسَالتهُ. كانت الجملُ الموالية:
...واعْلَمِي أنّ الشّقاءَ وُلِدَ يَوم ارْتَطَمْتِ، وأنت صغيرة، بِعُشِبِ الأرضِ السّوداء. كلّ صورةٍ اقترفتها مخيلتي عنكِ هي إثمٌ ضروريّ. وكلّ اقترابي منكِ كانَ ضرباً من الخرابِ اللابدّ منه...