خطاب سفلي إلى جهة عليا ـ قصة: حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02106" سيدي رئيس الوزراء
ليس فيما أبثه بين ثنايا هذه السطور تظلم أواستعطاف ,لأني آليت على نفسي ألا تكون الشكوى لغيرالله,عملا بالحديث الشريف " أدوا ما عليكم وسلوا الله الذي لكم ",وبالمثل الشعبي البسيط "الشكوى لغير الله مذلة". لكني ارتأيت في هذه الفسحة التي تفضل علي بها اللهاث خلف لقمة العيش أن أتصرف في الأفعال والأسماء ,وأسترد حظي من التكريم الذي شرف به أبي لما أسجد الله الملائكة حوله !
سيدي الرئيس المحترم
في وطننا العامر الذي توزعت فيه الحقوق والواجبات بحسب ما يقتضيه دستورنا الوارف ,آمنت فئة من أبناء البلد أن الحق والواجب صنوان لا يفترقان,وأن شرف الانتماء يعلي من سقف التضحية أحيانا ليتحقق الواجب ولو على حساب الحق.هذه الفئة ,سيدي الرئيس,هي من منظور وزير خزينتكم مجرد أرقام استدلالية وأجور منهكة تصرف آخر كل شهر.وهي عند وزير تعليمكم صداع مزمن لا يخف إلا بالوعود المهدئة. لكنكم لو أنعمتم النظر فسيتململ حتما ضميركم الذي استتر, ويتبين لكم أن في شعف الجبال كائنات حية أرغمها العمل الوظيفي على دفن زهرة شبابها .

قيل للمرغمين على تسلق الجبال سعيا وراء زينة الحياة الدنيا أن مهمتهم نبيلة ورسالتهم لا يطيقها غير الأنبياء.هل في الدنيا ما يستحق النبل غير معرفة تنير ظلمة الجهل؟ أكاد أجزم أن شفتيكم الكريمتين انفرجتا اللحظة عن ابتسامة ذات معنى أليس كذلك؟ نعم سيدي الرئيس,هناك ظروف عصيبة يحظى فيها العلم بالركل والصفع والهراوات بينما يظفر الجهل بالمناصب.وفي المنعطف لا بأس أن تتسارع الخطى بين الرحم والزنزانة مادام الوطن أغلى من الروح.
قضى حملة النور سنوات يمضغون الشوق إلى حياة لائقة بحسب منطوق دستورنا الوارف. كانت الأيام والليالي دهورا لا تُحتمل. كونك مبعوثا من "دار المخزن" إلى أقاصي الألم يمنح انتسابك للمهنة سمة الخطوط المتعرجة.حكى لي صديق من المرغمين أعلاه أنه اكتشف سر تعلق الأجانب بزيارة مداشرنا النائية.هو الحنين المتفرد إلى ما قبل الثورة الصناعية. حنين إلى المشي بتؤدة بدل اللهاث خلف الأتوبيس,وإلى الصيغ البدائية للطهو والنوم والمسامرة. حنين إلى دفقة الشعور التي تغذي صلتك بكائن يكتفي من الدنيا بمهمة حارس للمغارة.إن راقتكم هذه الفذلكة فالمرغمون, سيدي الرئيس,استنفدوا كل متعة لاكتشاف المجهول,وإن عكرت مزاجكم فلكم واسع النظر !
سيدي الرئيس المبجل
أكره الغيبة كما أكره التزلف والاصطفاف المراوغ. ليس من الحكمة أن يبذل المرء وقته في إحصاء نبض الآخرين و اقتفاء خطى أمانيهم وهمومهم. بيد أن للظلم وطأة على النفس تصبح معها كل الخيارات ممكنة ومتاحة.كانت زميلتي التي مضى على تسلقها الجبل سنة واحدة تهزأ من حرصنا على لزوم الخط المستقيم.صحيح أنه أقصر مسافة بين نقطتين لكنه لا يغني من الأمر شيئا في مجتمع سافل.للأمانة سيدي الرئيس فقد أبديت امتعاضي من هذا الوصف لكنها طمأنتني بأن مخارج حروفها أبلغ في التهذيب مما يفرضه واقع شرس.
هيأت زميلتي ملفا طبيا به قائمة من العاهات النفسية لتلحق بذويها في العاصمة ,أمام دهشة جم غفير من المرغمين الذين لم يستوعبوا بعد أن روح القانون أرحب من كلماته المنحوتة بدهاء حتى وإن كانت روح شيطان.بلغني أن يومها في العاصمة موزع بين العناية بصغيرها وتبادل وصفات الكعك مع رفيقاتها عبر الواتساب, والفضل لابن خالها جهبذ العمل النقابي وراعي حقوق المرغمين .أما زميلي الثاني فآثر تسلق المهام في حزب عتيد والانحياز لهموم مواطنين ليس من بينهم, دون شك , ثلاثون صبيا تُركوا فريسة لانتظار موجع.
سيدي الرئيس المُـ......"
بدا له التوقف عند هذا الحد ضروريا كي لا تسبب الرسالة دوارا لمعالي الرئيس,فمرويات العبث بالقانون وآمال المرغمين لا تنقضي. تفحص المكتوب بعناية صيرفي كي لا يزيغ القلم عن حدود اللباقة ,ثم أطفأ الحاسوب واستلقى على سريره.
" سيدي الرئيس المظفر ..
أمام يقين مسبق بتجاهلكم لرسالتي , وسخف الاعتقاد بأن وقتكم الثمين سيسمح لكلماتي أن تتحرر من قيد حبرها الجاف, أجدني مضطرا لرفع الكلفة قليلا .وإبداء قدر من التذمر لا يليق طبعا بحرص حكومتكم على إنتاج وتصدير الأمل في هذه الظروف البائسة.لطالما أثرت في نقاشي مع المرغمين حول مستقبل المنظومة,أن علينا التخلص من فكرة التبجيل التي توحي بها قصيدة شوقي ذائعة الصيت.فالذي يدنينا حقا من الرسل هو الأذى والتضييق المشترك, وإلقاء تبعة المنظومة بأسرها على عاتقنا بينما تقضي البقية عمرها الوظيفي في إصدار الأوامر وحصد الامتيازات.إن بإمكان أحدهم أخذ الحصان إلى النهر لكن يستحيل إجباره على الشرب. وللأسف سيدي الوزير لازال في مفاصل إداراتنا الشامخة من يؤمن بأن العصا خرجت من الجنة,وأن العدل قيمة ثانوية وإشكالية لا تقلق غير بال الفلاسفة ! "
قفز مذعورا من سريره ليتفقد حاسوبه.دوت في الغرفة ضحكة مجلجلة حين اكتشف أن المقطع الأخير ليس سوى دفقة لا شعورية تفصح عن واقع الحال, لكنها لا تضمن بلوغ الخطاب مكتب سيادته !
حتى أحلامنا باتت تضيق بجرأتنا الكاذبة حين تستحيل لباقة في مكتوب سفلي ..لا يصل !   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟