الحداثة و القيم الجمالية ـ د. محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstraite-ABONDANCE 844الحداثة بكل بساطة و بعيدا عن التعاريف المركبة أو التعقيدات التعريفية ،تعني ،تجاوز القديم .و القديم ، نسق مركب ، أو منظومة مركبة ، يتداخل و يتواشج فيها الثقافي، و الاجتماعي ،و السياسي و الاقتصادي و السلوكي القيمي . و ينبغي التأكيد على أن هذه المكونات أو البنيات تشكل حياة الإنسان ، بل الحياة ككل ،القائمة على الفكري الثقافي ، و الاجتماعي ، و الاقتصادي و السياسي .و بما أن الحياة سيرورة يحكمها التغير و التبدل ، فمن اللازم أن يمس و يلحق و يصيب التغيير جوهر البنيات المكونة لها .و لعله المرمى أو البعد الحقيقي الذي يناضل الفكر الحداثوي المستنير على ترسيخه على المستويين النظري و العملي ، من منطلق أن جوهر الحياة، يقوم على التغيير ، و تحكمه فلسفة الدفع نحو الأمام .و طبيعي أن تستجيب هذه  المكونات لارادة الحركة ذات الطبيعة الجبرية ، و المتجددة و المتفاعلة ، عنوان الحداثة التي تعني الجدة و التفاعل و المواكبة .وهي مقومات ثلاث،تعمل على تجاوز القديم من خلال صراع متواصل، ينجز وظيفتين اثنين ، متناقضين متلازمتين :
1- وظيفة الهدم : و المقصود بالهدم ،  تكسير المكونات التي غدت طفيليات لا قيمة لها داخل النسق، و العمل على إقصائها و الدفع بها خارج دورته ما دامت تحمل وظيفة تشويشية.


2- وظيفة البناء : و المقصود بالبناء ، إنتاج مكونات جديدة، شابة ،تحمل في عروقها دما جديدا، شابا ، له القدرة على المواكبة ، و الاستجابة لبنية النسق ، و التفاعل معها بصورة تستجيب لاخلاق الانسجام و قيم الاندماج ، بغية الجود بالحركة الحرة الخصبة المولدة للطاقة القادرة على العطاء و الإنجاب.
انه منطق الحداثة ،و فلسفتها ،القائمين على صراع شرس، مولد لحياة تتحرك دوما و تتجه نحو بناء حضارة متعاقبة بسواعد أجيال متوالية ،اسست دوما على ثابتي الهدم والبناء وذلك    منذ إنسان الأمس ، الإنسان الحجري ، إلى إنسان اليوم، الإنسان الرقمي ، و الصراع يشتد و يتطور من خلال عمليتي الهدم و البناء القائم عليهما .و الفضل في ذلك يرجع إلى الفكر الإنساني المجبول على الصراع .
و الجدير بالذكر أن الحداثة ليست وليدة العصر الحالي أو عصر بعينه . ولكن لكل عصر حداثته .بمعنى أن كل عصر يصنع حداثته ، استجابة لاجتهادات الفكر ، بما ينتجه من أفكار عملية واقعية ، تتوفر على إرادة الحياة ، كما تتوفر على قابلية الاستجابة للمعطيات الموضوعية و الذاتية للإنسان.
و من هذا المنطلق، ظل الإنسان يتوق للحداثة و التحديث بما يحملانه من جديد و ما يطرحانه من بدائل جديدة في حياته .لهذه الغاية ، فقد سعد الإنسان بما تحقق في حياته من جديد ، و لازال يسعد بميلاد كل جديد .انه يسعد بالهدم كما يسعد بالبناء .فقد كانت سعادة إنسان الأمس كبيرة حينما انهدمت أنماط حياة و ظهرت أخرى بديلة منها ، طورت حياته، و جعلتها أسهل .و كما كانت سعادة إنسان اليوم، اكبر ،حينما تغير أسلوب الحياة ،و ارتقى بارتقاء و ارتفاع منسوب التطور على سلم التحديث .و ذلك بانقراض و انهدام ا نساق بكاملها ،و ظهور و ميلاد انساق أخرى بديلة ،مست البنيات الفكرية، و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و القيمية السلوكية...
هذا ، و إذا كان الفعل التحديثي قد اسعد الإنسان و أضحكه ، بما حمله من قيم جديدة، و بما منحته إياه من خدمات جليلة، دللت له متاعب الحياة ، فانه على نحو آخر، قد أحزنه، و أبكاه، و أضناه ،حينما خدش كرامة بعض القيم. و على رأسها، قيمة التواصل، التي لا يختلف اثنان على أنها قيمة جمالية إنسانية مركوزة فطريا في الإنسان. إذ بالتواصل يتحقق وجوده ، و عليه تقوم آدميته و من خلاله و عبره تزدهر الحياة و تتقدم الامم و الشعوب . فلولا فضيلة التواصل لما ازدهرت الأفكار و لما قامت الحضارات و لما نهضت الشعوب و الامم و.فبالتواصل العاطفي الوجداني، اقترب الإنسان من أخيه الإنسان. و أحس بدفء عواطفه ، فانغرزت فيه بحكم فضيلة التواصل و جماليته الفطرية ، عواطف الحب تجاه الفرد و الجماعة .لكن مشيئة الحداثة و إرادتها أبت إلا أن تصنع شريكا بديلا للإنسان عوضا عن أخيه الإنسان .فاستدارت الوجوه نحو الوليد التكنولوجي و تعلقت به الأفئدة ، و انكفأت عليه الذوات ، فانقطعت بذلك صلات الإنسان بأخيه الإنسان .و انفتحت الصلات على الأسلاك و الأضواء و الأرقام .فنشط التواصل الرقمي الخائلي المادي الجاف، بديلا عن التواصل العاطفي ،الفطري ،الجبلي ،الجمالي المفعم بمشاعر الدفء و المودة.فتعمقت القطيعة بين الفرد وذاته و بين الفرد و زميله و جاره و وسطه.و تفاقمت ظاهرة الغربة و الاغتراب، تحت وهم الانتماء الموسع، الشامل ،أي توسيع العلاقات و تقوية الخبرات .
فبلغة الهدم و البناء ،يمكن القول أن أول لبنة تم نسفها و تدميرها في  نسق  لبنات القيم ،هي لبنة التواصل . و استبدلت بلبنة الانعزال و الانطواء على الذات .إذ أصبح الفرد يختلي بنفسه بعيدا عن وسطه ، مندمجا في الآلة ، منغمسا في بحر ضوئي ،رقمي، لاضفاف له، مشدودا باشطان تواصل وهمية ،تربطه بشخوص افتراضية ،من أجناس مختلفة ،تتسرب إليه عبر ألياف و شحنات كهربائية صانعة لهذه الشخوص الوهمية الخائلية ، التي ينسج معها علاقات يتوهم أنها تلبي لببانته و تستجيب لمقاصده شأنه في ذلك شأن قوم موسى الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو أحسن.
لكن ، و مهما قيل عن تواصل الإنسان مع الآلة و تعلقه الوجداني بها بلا حدود ، فليس هناك ما هو أروع لهذا الإنسان أن يقيم حوارا مع إنسان واقعي فعلي الوجود. و ليس افتراضيا ، على اعتبار أنه يقاسمه و يشاركه قيما معنوية تربط بينهما. فيتبادلان من خلالها و عبر الموروث المشترك الجامع بينهما ، الهموم ، و المنافع التي على أساسها ينهض الوجود .بل الأكثر من ذلك اقتسام دفء ما يحتويه المخزون الوجداني من أحاسيس، و عواطف، تتحاور عبرها القلوب، و تتعالق من خلالها الأفئدة مستجيبة لسلطة الدفء و قوة الاحتضان المغذيين لقيمة التواصل باعتبارها قيمة جمالية ترعرعت بين أحضان مدرسة الجمال، التي سهرت و برفق على تنشئة القيم الجمالية التي تتكلم لغة لا يفهمها التواصل الآلي الخائلي الذي تتعارض هويته مع الخصائص الجمالية للتواصل الإنساني .أو أن   صح   التعبير التواصل الجمالي.
و هناك أيضا قيمة جمالية أخرى، لا تقل أهمية عن القيمة التواصلية الوجدانية الاناسية ،  تم الاعتداء عليها و خدش كرامتها .ألا وهي القراءة،كفعالية فكرية ،عاطفية وجدانية ،تمكن الإنسان القارئ من الانفتاح على عوالم ذات مشارب متعددة .و ذلك من خلال السفر الفكري العقلي، الممتطي لصهوة الحرف، و الكلمة ،الفائحتين بعطر الجبر الزكي، المنبعث من أنفاس الاسفار   التي جاءت بها الأفكار و سطرتها الأيادي بالأقلام الحبرية.فشخصت نحوها الأبصار و تعلقت بها الأفئدة لتعانق مواقع الجمال المبثوثة في مواطن يكشف عنها الحس الجمالي ، و التمتع بمواكبه الاحتفالية المنسوجة من دفيء الزمان و المكان و الشخوص .السكرى بسحر المتعة الجمالية الوجدانية ،الفكرية الروحية ، التي تعد الركن الأساس، أو القيمة الأم ،التي انهدمت باسم الحداثة و استبدلت بمتعة من لون آخر ، تدعى : المتعة الرقمية.
هذا ، و إذا كان الطريق إلى المتعة الأولى يتم عبر ركوب صهوة الخيال الخلاق الثر،الممد      للعواطف بزاد المتعة المقتنص من الحياض و الرياض، العامرة إرجاؤها بعبق الجمال، المنكشفة أسراره عبر فضيلة القراءة و شرف الفهم و التأويل . فإن الطريق إلى الثانية، يتم عبر ركوب صهوة الوهم المغذى بالعقم ،و التوثر، و العنف المولدين للإحساس بالغربة و الاغتراب ،المفضيين إلى بناء ذات واهمة، مشوشة الذهن مضطربة الكيان ، و ذلك بفضل قراءة واهمة ،تقرأ عالما وهما، خائليا افتراضيا اعتدت قيمة بجبروتها على الذوق الجمالي، و عبثت بالقيم الجمالية التي عملت القراءة ،كقيمة جمالية، على ترسيخ القيم الجمالية الذوقية لدى القارئ، عبر فعالية القراءة . و لعل ذلك ما نافح عنه رواد الفكر و اللغة و الأدب و النقد، لما جعلوا من القراءة بحق، مدرسة ، و صناعة ،لأنها تصنع عوالم المعاني المصنوعة من قبل أفكار الرجال الذين تشبعوا بالقيم الجمالية ،المنغرسة في افئدتهم عبر آلية القراءة ، المبثوتة في خلايا و ذرات المعاني الساحرة التي لا ينكشف سحرها إلا من خلال القراءة العميقة الاحتكاكية التفاعلية المحكومة بالضوابط المتواضع عليها فكريا ، باعتبارها القراءة الشرعية المؤدية الى تحقيق اللذة الجمالية.
و من هذا الاعتبار، يمكن أن نستنبط أن القيم الجمالية قد ارتدت لباس الغربة و الاغتراب في زمن الحداثة و التحديث، و ذلك لان التحديث قد اقتضى شروطا جديدة لخلق قراءة جديدة من ابرز مقوماتها خرق المعيارية و التمرد على القيم الجمالية.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟