حنين، حنيني إليك، أين المفر منه ومنك؟ فأنا أهرب منك إليك، أهرب بعيدا، وما تهرب إلا مخيلتي وراء الذكريات، فأين المفر؟ أهرب لأجد نفسي في حضن الذكريات، ذكريات قال عنها إنها زادي وملاذي في ساعات الوحدة، لأعثر عليها تتلصص على ألمي وتتفق مع الشيطان في طرح جسدي لخبايا الشر، تقدم دموعي ونزيف قلبي قرابين ليظل سيّد الشر، وتظل هي عالقة في مخيلتي، إفرازات الهوى تشدني بخيط ناظم يفصل بينه وبين ذكرياته، يمكن أن نقول عنه فن الوخز بالإبر؛ وخز يجعلك تحس بالألم في البداية؛ ثم يتلاشى شيئا فشيئا من مخيلتك الصغيرة، لكن الوخز الحقيقي الذي يوجعنا أكثر و يظل يرافقنا، هو وجع ذكرياتنا.
هذه أول خاطرة لندى مع أفكارها، عنونتها ب: "لماذا أكتب"، وكان هذا أول تساؤل انتاب مخيلتها، و أول كلمات أثقلتها ليلة كاملة منذ أن التقت بأحمد زميل دراستها القديم، أعادت رفع القلم مرة ثانية بعد أن انتهت من مناوشاتها مع ذكرياتها، لكنها عجزت عن الكتابة، شملت جسدها رعشة رقيقة؛ رعشة الموت و الحياة، لم تجد سلواها إلا في تسليم أمرها للدموع، والمشي بخطوات مبعثرة من اليمين إلى اليسار؛ ومن اليسار إلى اليمين، تحاول شغل أفكارها عن التفكير في أحمد، ظلت ليلة كاملة ما بين جبروت الصحوة و ميلان النوم، منتظرة بكل لهفة بزوغ شمس يوم جديد.
في الصباح الباكر خرجت ندى تهرول بين الأزقة والشوارع هائمة على وجهها مثل شخص نسي اتجاهاته، أو كأنها هاربة من شبح يطاردها، أحست فجأة بالتعب والجوع يدغدغ أمعاءها الصغيرة، فقررت العودة إلى بيتها و تناول وجبة دسمة نكاية في طيفها المجهول، ومواجهة مخاوفها، واتخاذ القرار البعيد القريب؛ القرار الذي ظل مؤجلا لسنون من الزمن؛ بسبب خوفها وانفعالاتها التي تقف حجر عثرة في حياتها.
دخلت منزلها أخيرا، وبدأت بإعداد وجبة الفطور، وحملت كالعادة إبريقها النحاسي وبدأت في صنع قهوتها المعتادة، رغم وجود آلة كهربائية لصنع القهوة، لكن ندى تحب طعم القهوة في الإبريق؛ فرائحة القهوة تساعدها على تصفية ذاكرتها، وعند الانتهاء من وجبة الإفطار الإجباري- فالجوع سيد المواقف- حملت فنجانها و ذهبت إلى غرفتها و بدأت بخط أول كلماتها لأحمد منذ ودعتها رغبة الكتابة، اليوم تكتب بارتجاف يدها و كأنها أمام جلسة الغفران.