إن المدخل لأي نهضة حقيقة بهذا الاسم لا يمكن ان يكون غير الترجمة. وليس يعيينا أن نقيم هذه الفكرة إذ نحن نظرنا الى الطريقة التي يكشف بها الفكر عن نفسه، وكيف في رحلته تتأسس الحضارة او يتم ابداعها.
ان الفكر الذي ابدع الحضارة البشرية عبر عن نفسه دائما من خلال رحلة، وبذلك فإن الذي ابدع المدينة اليونانية  هو رحلة التعاليم السرية ونزولها الى الساحة، وحاجتها الى الترجمة لكي يتم لها بلوغ مجموع العنصر اليوناني الذي يتفاعل في الساحة العامة.
كشف هذا الفكر عن نفسه عن طريق هذا النوع من الترجمة – البلوغ – التي استلزمها نزول التعاليم، من حيث الترجمة – نقل المعطى – هي التي عملت على ردم الهوة الحاصلة بين مجموع العناصر، هذا الردم انبرى لملئه كائن نسميه فيلسوفا، من حيث هو الذي يحوز القدرة على السباحة بين معطى علوي تمثله التعاليم في اصلها المساري، ومعطى الناس في الساحة العامة وفي النقاش العام، وفي تنقله بين هذين المعطيين ثم ابداع الفلسفة وثم ابداع المدينة اليونانية.

"نظرة إلى الوراء على فكر وحياة شخص رائع، بعد أن أثرى علم النفس الذي نحبه. قبل مائة عام، ولد بول ريكور. كان شخصية عظيمة في الفكر الفرنسي في القرن الماضي، وقد ساهم بمفهوم الهوية السردية في إعادة التفكير في الذات باعتبارها القصة التي يرويها الجميع لأنفسهم. كتقدير، ننشر مقابلة أجريت في عام 1997 ولم تُنشر في فرنسا، حيث قدم تلميذ الأمة هذا، بإخلاص مذهل، قصته الخاصة. اعتبر بول ريكور ، الذي كان سيبلغ من العمر 100 عام في 27 فبراير 2013 ، فرصته الرئيسية ليكون كمحاور له أعظم الشخصيات في فلسفة القرن العشرين ووجد نفسه متورطًا في جميع الأسئلة الأساسية التي أثارتها الفينومينولوجيا. التحليل النفسي، البنيوية ... كان شخصاً يعرف أن لديه "ديون" متعددة. وصلت الكلمة إلى فمه من أول لقاء هاتفي لنا، في عام 1986، عندما طلبنا منه إجراء مقابلة تركزت على ثلاثية رائعة من الزمن والسرد. نعم، قال لنا، لكن كانت هناك "ديون" أخرى عليه سدادها أولاً. عُقد اجتماعنا الثاني في عام 1997، في شاتيناي مالابري ، في منزله الكبير ، الجدران البيضاء ، الذي كان منزل إيمانويل مونييه (1905-1950 ، الفيلسوف ومؤسس مجلة فكر). كانت مخاوفه الفورية ذات شقين. أثارت قضية بلا أوراق إثارة فرنسا، فقد غادر شاب أفريقي مطرود في الشارع منزله ... علاوة على ذلك ، في غرفتين كبيرتين مشرقتين كانتا بمثابة مكتبه - الكتب والمخطوطات مكدسة على الكراسي - بدأ ، بشيء من القلق ، في تصحيح البراهين في كتابه للمقابلات مع جان بيير تشانجو ، الطبيعة والنظام. ما الذي يجعلنا نفكر. لقد استجاب بشكل إيجابي لطلب تشانجو وأوديا جاكوب لكنه أراد تجنب أي لبس: على الرغم من أنه كان قارئًا نهمًا لأعمال علم الأعصاب، كان من الضروري تمامًا التمييز بين خطاب المعرفة العلمية وخطاب التجربة الحية. كان متاحًا تمامًا، ودافئًا، ومؤثرًا، ورائعًا بشكل واضح، وقد منحنا جزءًا كبيرًا من فترة ما بعد الظهيرة، معبرًا عن نفسه عن طيب خاطر وبصدق كامل في رحلة تلميذ من الأمة أصبح سيدًا في التأويل ومؤلف عين الذات آخرا. استعادة الأسس السليمة للفلسفة الأخلاقية على أساس إعادة تعريف الموضوع: هذا هو هدف عين الذات آخرا، وهو الهدف الذي يجعله عملاً رئيسيًا للفهم الأخلاقي والايتيقي في عصرنا. هذا العمل الطموح ليس سهلاً، كما يؤكد بول ريكور من المقدمة، لأنه يجبرنا على استكشاف وجهات نظر جديدة.

 " إنّ كلمة " حياة"، رغم تواترها في " المحاولات" ( 624 مرة في صيغة المفرد و29 مرة في صيغة الجمع)، فهي لا تمثّل موضوعَ أيّ من المداخل الخاصة في العمل الضخم معجم ميشيل دي مونتاني ( فهي لا تظهر إلاّ ضمن العبارات " حياة ميشيل دي مونتاني " و " الحياة العامّة لدي مونتاني ").ويمكن أن يفهم هذا، من حيث أنّ مقولة الحياة لم تعالج بوصفها كذلك في كتاب " المحاولات". غير أن ما يثير الدهشة هو كونها قائمة في صلب اهتمامات مؤلفه ( " إنّ صنعتي وفنّي، هي الحياة"، 2، فصل 6 ص379) وفي كتابه. كلا النقطتين مرتبطتان: ذاك لأنّ الحياة حاضرة في كلّ موضع، من " محاولاته"، حتى يجعل لها مونتناني حظّا خاصّا. فهو لا يتكلّم إلاّ عن هذا. فما الحاجة لتخصيص فصل لها؟
أن نحيا، هي طريقتنا في المشاركة في الصيرورة الكونية. لسنا أشياء، ولا جواهر، وليس حتى كائنات، بل نحن، وهذه هي النقطة الأساسية : " حياتنا هي (...) كوننا être notre، هي كلّيتنا"" notre être ( 2 الفصل 3 ص 353). و بالفعل فالحيوانات تحيى أيضا، وكذا النباتات ؟ لأجل ذلك فنحن أقرب ما يكون من هذه و مدينون بشيء ما لتلك.

قيل في الترجمة الكثير، وفي عرفي، كما نقول في تونس، هي "صنعة اللّي ما عندو صنعة"، أي "عمل لا طائل من ورائه". لماذا أقول ذلك؟ أذكر قبل ثلاثة عقود خلت، لما تخرّجت من الجامعة الزيتونية وكنت أبحث عن شغل، اقتربت مني الوالدة وقالت ماذا تفعل؟ فقلت: أترجم من الفرنسي إلى العربي، فلم تع قولي. فأوضحت "أقلب الكلام من السوري إلى العربي"، و"السوري" في الدارجة التونسية هو مرادف الفرنسي، فردّت ساخرة "صنعة اللي ما عندو صنعة". اكتشفت لاحقا أن أجرة الترجمة في لغتي، لا سيما مع دور النشر الخاصة، لا تزال بـ "بارك الله فيك" و "شكر الله سعيكم" في معظم الأحوال. مع هذا سكنتني الترجمة منذ ذلك العهد البعيد في الجامعة الزيتونية في تونس، لما كنت طالبا في دراسات الأديان، ثم لاحقا لما التحقت بالجامعة الغريغورية في روما أثناء دراسة اللاهوت المسيحي. استبانت لي الحاجة إلى قول الآخر، من خلال إدراك النقص الحاصل لدينا في الاطلاع على المناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية. أقصد سوسيولوجيا الدين وسوسيولوجيا الأديان، والأنثروبولوجيا الدينية، وتاريخ الأديان، وعلم النفس الديني، وما شابهها من العلوم الحديثة في مقاربة المقدس والظواهر الدينية. اطلعت حينها، لما كنت طالبا في تونس، على كتاب الفرنسي ميشال مسلان "Pour une science des religions" الصادر عن دار سوي (1973)، فأغراني مقوله فقررت ترجمته لذاتي لا غير. كنت لا أفقه فنّ النشر ودهاليز الناشرين. بعد بضع سنوات لما استقر بي المقام في روما أرسلته إلى "المركز الثقافي العربي" فقبل مدير الدار حينها، حسن ياغي، بنشره في التو، اكتسبت ثقة لا توصف في شخصي وقدراتي. ولكن حلمي الجميل بتطوير المناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية والمقدس والأديان لازمني من الزيتونة إلى روما في ظل تشظّي المقدّس في عالمنا العربي.

1.
مستجيباً أخيراً، في نيسان/أبريل 2002، للفضيحة التي خلقها الكشف عن عدد لا يحصى من التستر على الكهنة المفترسين جنسياً، قال البابا يوحنا بولس الثاني للكرادلة الأمريكيين المستدعين إلى الفاتيكان، "قد يكون عمل فني عظيم معاباً، ولكن جماله يبقى. وهذه هي الحقيقة التي أي ناقد نزيه فكرياً سيعترف بها ".
من الغريب جداً أن يشبه البابا الكنيسة الكاثوليكية إلى عمل فني عظيم – وهذا جميل؟ ربما لا، لأن المقارنة غير المجدية تسمح له لتحويل الآثام المقيتة إلى شيء مثل الخدوش في طبعة فيلم صامت أو شقوق تغطي سطح لوحة السيد المسنOld Master وهي عيوب نقوم بفحصها بشكل انعكاسي بالنظر الى الماضي.
يحب البابا الأفكار الجليلة. والجمال، كمصطلح يدل على امتياز لا جدال فيه (مثل الصحة)، كان مورداً دائماً في إصدارالتقييمات القطعية. ومع ذلك، فإن الديمومة ليست إحدى سمات الجمال الأكثر وضوحاً. وتأمل الجمال، عندما يكون خبيراً، قد يكون مكللاً بالرثاء، الدراما التي يشرحها شكسبير بالتفصيل في العديد من السوناتات. الاحتفالات التقليدية للجمال في اليابان، مثل الطقوس السنوية لمشاهدة أزهار الكرز، رثائية بشدة؛ الجمال الأكثر إثارة هو الأكثر زوالا ً.
لجعل الجمال بمعنى ما خالداً يتطلب الكثير من ترقيع المفاهيم ونقلها، لكن الفكرة كانت ببساطة مغرية للغاية، وقوية للغاية، بحيث لا يمكن تبديدها في مدح التجسيدات المتفوقة.
كان الهدف هو مضاعفة الفكرة، للسماح لكل أنواع الجمال، الجمال بكل صفاتها، مرتبة على مقياس من تصاعدي القيمة وعدم القابلية للفساد، مع الاستخدامات المجازية ("الجمال الفكري" و"الجمال الروحي") متخذة الأسبقية على ما تمجده اللغة العادية بهجة جميلة للحواس.
جمال الوجه والجسم الأقل " رقيا"ً لايزال هو الموقع الأكثر زيارة. ولكن بالكاد يمكن للمرء أن يتوقع من البابا أن يتذرع بذلك الشعور بالجمال أثناء بناء رواية تبرئة لعدة أجيال من التحرُّش الجنسي من قبل رجال الدين للأطفال وحمايتهم من المتحرشين.

س: لنبدأ معك بالتخصص الدقيق، عندما نريد استخراج شهادة ميلاد لعلم الأديان، لماذا يعترينا دائماً هذا الارتباك، ونواجه نفس علامات الاستفهام التاريخية حول عصر الولادة وشهادة المنشأ، ونقع في حيرة بين القرن التاسع عشر، وبين الأصول الأقدم منه بكثير وصولاً إلى الحضارات القديمة ؟
ماهي الأسباب؟ ومتى نتمكن من حسم هذا الأمر؟

علم الأديان هو علم حديث المنشأ يقع على التخوم، كما يقول الفرنسي ميشال مسلان، بين علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الدينية وعلم النفس الديني والظواهرية الدينية وعلم مقارنة الأديان وتاريخ الأديان والجغرافيا الدينية وغيرها من المداخل ليؤسس هوية مستقلة، وهذه علوم تطورت في الغرب وإسهامنا فيها ضئيل أو منعدم. فمنذ السعي لإخراج دراسة الدين من هيمنة العقل اللاهوتي، سواء مع الألماني ماكس مولر في ما أطلق عليه "Religionswissenschaft"، أو مع الفرنسي إميل لوي بيرنوف في ما أطلق عليه "La Science des religions"، بدأ علم الأديان يصوغ هوية مستقلة تهدف إلى دراسة المقدس والفعل الديني من خارج الاعتقاد. فهذا العلم يقوم أساسا على معرفة اختبارية للمقدس، وعلى رصد للكائن المتدين، من خلال تتبع الخبرات الدينية. ولو شئنا تعريفا مقتضبا لعلم الأديان، في مقابل علم اللاهوت، لقلنا إنّ الأول يهتمّ بكل ما هو معتقَد من طرف البشر بقصد بلوغ الفهم الداخلي للمقدّس المعيش، في حين يهتم الثاني بالإجابة عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ ليس هناك تصادم أو تناقض بين المقارَبتين -كما أرى- وإنما هناك تكامل في الإحاطة بالرأسمال القداسي.

الترجمة:
"ولدت جوليا كريستيفا الكاتبة واللغوية والمحللة النفسية الفرنسية في بلغاريا. هاجرت إلى باريس للحصول على الدكتوراه ، وانضمت إلى مجموعة دون تغيير Tel Quel التي يديرها فيليب سوليرس ، وحضرت ندوة جاك لاكان. درّست اللسانيات والأدب في جامعة باريس 7 - دينيس ديدرو ، وجامعة كولومبيا في نيويورك بصفتها منظّرة لغة. في الوقت نفسه ، بدأت حياتها المهنية كمحللة نفسية وكاتبة. ألفت حوالي ثلاثين كتابًا ترجمت إلى حوالي ثلاثين لغة، بما في ذلك السيميائية Séméiotikè. بحث عن تحليل سلالات (1969) ، قوى الرعب. مقال عن الحقد (1980) ، قصص حب (1983) ، في البداية كان الحب. التحليل النفسي والإيمان (1985) ، بلاك صن. الاكتئاب والحزن (1987) ، الغرباء على أنفسنا (1988) ، الساموراي (1990) ، أمراض الروح الجديدة (1993) ، المؤنث والمقدس (1998 ، مع كاثرين كليمان) ، الوقت المحسوس. بروست والخبرة الأدبية (1994)، (1996)، الحميمية والعاطفة ولامعنى الثورة تمرد (1997)، رؤى رأس المال (1998) ، عبقرية أنثوية (3 مجلدات: حنة أرندت ، 1999 ؛ ميلاني كلاين ، 2000 ؛ كوليت 2002) ، جريمة قتل في بيزنطة (2004) ، لا هاين ولو باردون (2005).تعمل جوليا كريستيفا حاليًا كأستاذة في المعهد الجامعي الفرنسي وحصلت على جائزة هولبرغ (تعادل جائزة نوبل في العلوم الإنسانية) في عام 2004).

يقـــول W.Lloyd warner واصفاً مختلف المراحل الحاسمة التي تطبـــع حيــاة الإنســـان الأبوريجيـني الأسترالي:
"يكــون الكــائن قبل ولادته روحــا خــالصا. وفي المرحلة الأولى من حيــاته، أي عندمـــا يصبح في المكـــانة الإجتمـــاعية التي تحتلهــا النســاء، يصيـــر منتميــا كليا إلى العــالم الدنيوي، أي منزوعا من الصفة الروحــانية، ثم كلما تقدم في الســن واقترب من نهـــايته، يصيـــر الفرد أكثر فأكثر موضــوع ممــارســات طقوسية وقــداسية ليجــد نفسه ســاعة الموت قد استعــاد روحــانيته وقـــداسته من جديـــد".[i]
إن كثيـــرا من معــاصرينـا -مهمــا كــان تصورهم للموت- لا يستسيغـــون أن يكــون الموت شكــلا وجــوديا كله روحــانية وقــداســة. فالمـوت لدى أغلبية الــذين لا يـؤمنــون قد أفرغ من كل محتوى ديــني قبل أن تكـــون الحيــاة ذاتــها قد فقــدت معنــاها، فالكشف عن تفـــاهة الموت قد سبق لدى البعض اكتشــــاف عبثية الحيــاة ولا معنــاها. وكمــا قــال محلل نفســـاني بريطــاني مجهــول: "نولــد حمقى، ثم نمنح أنفسنا أخــلاقاً فنصبح أغبيــاء وتعســاء، ثم [في النهاية] نمــوت".
إن هــذا الجزء الأخيـــر من الجملة: "ثم نمــوت"، يعــبر ببــلاغة عن نوع الإدراك الذي يحملــه الإنســان الغربي عن مصيـره. إلا أن هــذا الإدراك يختلــف عن ذاك الذي نلاحظه في كثيــر من الثقــافـات حيث نجد الإنســـان يعمل جــاهدا لاختــراق سـر المـــوت، ومحـــاولة معرفة دلالتهــا. إننــا لا نعــرف ثقـــافة لا تكــون فيــها هاتــان الكلمتــان "ثم نمـــوت" عــاديـــتيـن. لكن يبقــى أن هــذا الإثبــات الجــازم لموت الإنســـان الحتـــمي دون قيــمة إذا نُــظر إليه معـــزولا عن إطــاره الميثـــولوجي. فعـوض "ثم نمــوت " كــان على الجملة -لكي تكــون متنــاسقة ومعقـــولة - أن تنتهــي كالآتي: "ولهـــذا فإننا نموت ". بالفعـــل نجــد في أغلب الثقــافــات أن حـدوث الموت [ في هذا العــالم] يُعرَض كحــادث سيــئ طـرأ في البدايــات، حيث يعد نتيـــجة لواقعــة ما طــرأت في الأزمنة الأولـى[2]، فالموت لم يكن معــروفا لدى الأوائل أي لدى الأجـــداد. وبمعرفة الكيفية التي حــدث بها الموت لأول مــرة في العــالم يدرك الإنســان في ذات الوقت سبــب موتــه هو نفســـه. إننــا نمــوت لأن هـذا الشيء أو ذاك حــدث في البدايــات. فمهمــا تعددت تفــاصيل الأسطورة عن أصل الموت [أول موت حدث في الزمــان]، فإن هــذه الأسطــورة تمنــح الإنســـان التفسيــر لموته الخــاص.