(...) نحتفظ بالخصوص من بين هذه السمات العامّة للخطاب، بالعلاقة بين فعل الخطاب ومحتواه، بقدر ما تحتوي هذه العلاقة الجدلية الأكثر بساطة لتخارج و موضعة  الخطاب. تَتْبَعُ هذه الجدلية استقلاليةُ مختلف أشكال الخطاب المعروفة تحت مسمّى " الأجناس الأدبية ". وباختصار: مهما قيل، فإنّ ذلك يقف بعدُ في مسافة معينة إزاء فعل الخطاب أو حدث الكلام. تتّسع مسافة مماثلة بين الخطاب والمتحدّث، بين البنية الداخلية والمرجعية الخارج - لسانية، وبين الخطاب ووضعيته الأصلية وفي النهاية بين المتحدّث والإنصات الأوليّ. هنا يبدأ مشكل التأويل.  ولا ينحصر هذا المشكل في النصوص المكتوبة، بل يبدأ بالجدلية الدقيقة الحاضرة بعدُ في اللغة الشفهية، والتي بفضلها تتخارج هذه الجدلية، وتتمفصل وتُثُبّتُ في أشكال مختلفة من الخطاب.  والأهمّ من هذا الاستنتاج الأول أيضا، هو اعتبار هذه الأشكال ذاتها، أي الأشكال التي، تسمّى في النقد الأدبي" أجناسا". غير أنّني أفضل الحديث عن أشكال من الخطاب للتأكيد على الدور الذي تلعبه هذه الأنماط الألسنية في إنتاج الخطابات. وبالفعل، يتضمن النقد الأدبي تحت عنوان " الأجناس" ، مقولات تساعد النقد على تبيّن السبيل داخل التنوّع اللامحدود للنصوص. بيد أن أشكال الخطاب هي أكثر من أدوات تصنيف؛ هي أدوات إنتاج. من هنا أفهم بأن أشكال الخطاب هي مصفوفات matrices بواسطتها يُنْتَج الخطاب بوصفه عملا. إلاّ أن هذه السمة للخطاب لم يلاحظها الفلاسفة إلاّ قليلا، لأنّها  تستخدم مقولات لا تتعلق أوّلا بمجال اللغة، بل بمجال البراكسيس، بمجال الإنتاج والخلق. لكن، هذا هو الحال بالضبط: الخطاب عمل، منظّم وفق وحدات أو كليات totalités من الدرجة الثانية، مقارنة بالجملة بما هي وحدة  دنيا للخطاب وبالتالي بما هي وحدة من درجة أولى. يسمّي أرسطو في الخطابة هذه المقولة الأساسية " الوضع"- تاكسيس taxis ؛ ويضعها بين " الاكتشاف" « découverte » ( الحجج) - – heurèsis وبين " الإلقاء" « diction » - lexis. وبفضل هذا " التاكسيس" ( الوضع) ، يوفّر النص المنطوق أو المكتوب نسيجا يجب على بنيته أن تُؤَوّل. إنّ تأويل نصّ يعني دائما أكثر من ضمّ معاني جمل معزولة.  يجب أن نمسك بالنص بما هو كليّة من وجهة نظر تراتبيّة "الطوباي" topoï أي الخطابات التي تكوّنه. يجب أن تردّ وظيفة الأجناس الأدبية إلى هذا المفهوم للنص بوصفه كليّة ، وحدة كلية totalité  - أو ، مثلما سنقول من هنا فصاعدا، وظيفة مختلف أشكال الخطاب : سرد ومثل سائر أو حكمة ، الخ. ومثلما تمارس القوانين النحوية وظيفة توليديّة وتنتج الخطاب بوصفه جملة، فإنّ للرموز الأدبية codes littéraires أيضا في مستواها، وظيفة توليديّة. فهي تولّد الخطاب بوصفه سردا أو بوصفه هذا الخطاب أو ذلك. وبهذا المعنى فهي في حاجة إلى شعريّة توليديّة ستتوافق، على مستوى "التاكسيس" ("الوضع") الأرسطي ، مع " النحو التوليدي " لتشومسكي .

في 7 أكتوبر 2023  شنت حركة حماس وفصائل المقاومة بقطاع غزة، عمليات عسكرية أطلق عليها اسم: الطوفان الأقصى، هذا الموقف العسكري الذي أقدمت عليه حماس، جاء ردا على سلسلة اعتداءات إسرائيلية وممارستها الوحشية، وسط تأييد صهيوني عالمي وسكوت عربي إقليمي.

تحت نيران مكثفة استهدفت سكان مدنيين، ظهر بيان تنديدي من قبل ثلة من الفلاسفة الغربيين، في البداية ساد الاعتقاد أن هذا البيان جاء في سياق فعل تضامني وواجب أخلاقي، غرضه التنديد بجرائم يرتكبها مُحتل غاصب، لكن البيان كان له رأي آخر، حيث هاجم المقاومة الفلسطينية ونعتها بأبشع النعوت، وأسقط عنها حق الدفاع عن نفسها، وفي المقابل انتصر بيان الفلاسفة إلى مشاعر الاستقواء الإسرائيلي، ودعم حقه في الاعتداء ضدا على المواثيق الدولية وأشكال التضامن العالمي.

يحمل البيان، الذي نتحدث عنه، توقيع كل من يورغن هابرماس، و راينر فورست، وكلاوس غونتر، ونيكول ديتلهوف، حيث جاء فيه: "إن المجزرة التي ارتكبتها حماس والمصحوبة بنيتها المعلنة لإبادة الحياة اليهودية بشكل عام، كانت سببا في دفع إسرائيل إلى الانتقام بهجوم مضاد". وقد اعتبر البيان أن الهجمات الإسرائيلية مبررة من حيث المبدأ الأخلاقي.

في نفس السياق، بادرت الفيلسوفة سيلا بن حبيب بالرد على رسالة مفتوحة وقعها مئات الفلاسفة من أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا، من بينهم  جوديث بتلر (جامعة كاليفورنيا، بيركلي)، إتيان باليبار (جامعة كينغستون)، دوناتيلا ديلا بورتا (سكولا نورمال سوبيريور)، نانسي فريزر (المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية)، إدواردو مينديتا (جامعة ولاية بنسلفانيا)، ألبرتو توسكانو ( غولدسميث، جامعة لندن) جاء في مضمون رسالتها، أن حركة حماس تمارس "إباحية العنف " ضد إسرائيل، وترتكب جرائم الإبادة ضد شعب لا يجب أن يُنظر إليه كمستعمر استيطاني.

حينما يقرر الكاتب العربي التوجه إلى بلدان الغرب للاستقرار وخوض تجربة الكتابة بلغة البلد المضيف، يجد نفسه تلقائيا أمام تحديات كبيرة تؤثر على إنتاجه الأدبي. فتجربة الكتابة في ثقافة ومجتمع جديدين، يجعل الكاتب يتأرجح بين ضفاف الظروف الاجتماعية والثقافية واللغوية المختلفة وفرص محدودة للغاية للتعبير الأدبي. فلا يمكن بأي شكل من الأشكال تفادي هذه التأثيرات التي تلقي بظلالها السلبية على إنتاجه وتجعل من عملية الكتابة تحدًيا صعبًا ومعاناة حقيقية.

بلا أدنى شك، أبرز التحديات التي يواجهها القلم العربي في بلدان الغرب  في بادئ الأمر هي مشكلة اللغة التي تعتبر لغزًا حين يحاول الكاتب التعبير عن تجاربه وأفكاره بلغة ليست لغته الأم. هذا يؤدي إلى فقدان القوة والعمق الذي يحمله في لغته العربية مع بعض الجوانب التي قد تكون حاسمة في تشكيل هوية واضحة لمؤلفاته سواء السردية، النثرية أو الشعرية.

لا ننكر هنا أن اللغة الأجنبية يمكن أن تكون أداة قوية للتعبير عن تجارب متنوعة، بدليل أن بعض الكتاب يتمكنون من عبور حدود اللغة والثقافة، وفي نفس الوقت يعتنون بجذورهم اللغوية ويحتضنون تراثهم الأدبي بلا عقبات. إلا أنها تشكل تحديًا كبيرا لفئة لا بأس بها من المبدعين الذين يحتاجون إلى التغلب عليه لتحقيق إبداع فعّال ومقبول في الوسط الثقافي الذين يحاولون التسلل إليه.

" لا وجود لشكل هيمنة مطلقة، فمن الممكن دوما أن تتحطّم السلطة في مكان ما. لقد بات من الواضح من هنا فصاعدا بأنّ التحطيم لا يحصل من الخارج. يجب أن يحدث من الداخل. هذا هو المهمّ حقّا. " ( أ. نيغنري)
"يوجد إذن مبرر للأمل: نفذت الحرية إلى رؤوس الكثرة!"
"لقد كنت أقول دائما بأنّ هناك صراعا سياسيا وحيدا جديرا بأن نخوضه : هو صراع الحبّ مع الأنانية".( أ. نغري)

***
 أنطونيو نقري( 1933- 2023 )، شخصية فكرية من اليسار الإيطالي لسنوات العنف، يعتبر فيلسوفا ذا مرجعية مناهضة للعولمة . يقترح، استنادا لمفاهيم الإمبراطورية والكثرة، شبكة لقراءة الصراعات السياسيّة لعصرنا الراهن.

****

   - مجلة الفلسفة:

كان العديد من الفلاسفة، ومنذ القديم، في نزاع مع السلطة. حكم الأثينيون على سقراط بالإعدام. وُأقصِيَ سبينوزا، وحكم على جيوردانو برينو بالحرق من محكمة التفتيش، وهدّد روسو بالسجن ...وقد اتّهمتم آنتم بالذات من المحكمة الإيطالية بالمشاركة في اغتيال النائب ألدو مورو، دون تقديم أيّ دليل عن تورّطكم. ومن 1979 إلى 1983، سجنتم في منطقة تخضع لرقابة شديدة. كيف تنزّل نفسك بالنسبة إلى تقليد الفلاسفة المعارضين؟

 أ. نغري:

- ماذا يعني تقليد؟ لا أحد يتنزل ضمن تقليد. نحن نحيا ونصير، هذا كل ّ شيء. إنّ تاريخ الفلسفة هو عبارة عن لاهوت، عن بناء مجرّد. أنا لا أعتبر نفسي بطل التاريخ المجرّد.  إنّ ما يحدث لك من أشياء، طيلة حياتك، ليست أمور طارئة، ومن الصعب بناء علاقات بينها. وفيما يتعلّق بي، فقد قمت بلقاءات، وناضلت ونشرت بعض الكتب: هذا المسار هو جدّ عينيّ.

- مجلة الفلسفة :

  كيف يتقاطع لديكم النضال والتفكير الفلسفي؟

- أ. نغري:

  لقد جابهت الاثنين، بشكل مواز. لقد استعملت، طويلا، مُعَرّفين مختلفين. استخدمت اسمي كاملا، انطونيو نغري، لمسارِيَ الجامعيّ، لإمضاء ترجماتي لهيجل إلى الإيطالية. وطيلة هذا الوقت كان انطونيو نغري يكتب  وينشر مؤلفات صغيرة ملتزمة، حول " التخريب في المصانع" مثلا. 

- م. الفلسفة:

 بنوع من الفضول الفلسفي، المصحوب بدهشة الاكتشاف، قادني البحث عن ما قيل وما كتب في هذا الموضوع إلى هذه الدراسة الرائعة المنشورة على النت بقلم بينوا غوتييه. وبما أن الكتابة ثمرة للقراءة، كانت هذه الترجمة:
عندما نقارن حالة تخصص مثل الفلسفة بحالة تخصص علمي مثل الفيزياء، فمن الصعب عدم التوصل إلى الملاحظة التالية.
من ناحية، نلاحظ اتفاقاً واسعاً، عملياً وصريحاً، على هوية الوقائع التي ينبغي الإبلاغ عنها، أو على النظريات أو القوانين التي تسمح بتحقيق ذلك، أو حتى على الأساليب والأدوات والتقنيات التي تستخدم لاكتشاف وتحليل الحقائق التي يتم تسليط الضوء عليها باستمرار. بالتناسب، حتى لو كان موضوعا لإجماع واسع، فإن تاريخ التخصص لا يعتبر شيئا من المهم الاتفاق عليه؛ بل يعتبر غير ضروري لمتابعة البحث لأن حالة التخصص في لحظة معينة يبدو أنها تحتوي على كل ما، ولا شيء غير ما، تم إنتاجه في لحظة سابقة من البحث ولم يتم دحضه أو تجاوزه في هذه الأثناء. باختصار، ينظر إلى هذا التخصص، على الأقل في الممارسة العملية، على أنه تراكمي ــ وهي طريقة كلاسيكية تماما وممكن تماما، كما ذكرنا ألكسندر بيرد مؤخرا بذلك، اعتبارها تقدمية.
على الجانب الآخر، وهو بالطبع الجانب الفلسفي، لا شيء تقريبا من هذا صحيح. كما كتب مايكل ديفيت، إذا "كان العلماء لا يتعلمون أكثر فأكثر عن العالم فحسب، بل يتعلمون أيضا كيفية اكتشاف الأشياء المتعلقة به"، فمن الملاحظ أيضا أن الفلاسفة، حتى بعد ألفي عام، لم يتمكنوا من إثبات (أو الاتفاق على) أي شيء يتعلق بأي موضوع للتفكير استطاعوا التعاطي له، ولا من تحديد (أو الاتفاق على) كيف استطاعوا أن يأملوا في تحقيق ذلك.
أحد الأسباب التي يتم تقديمها أحيانا لمحاولة تفسير عدم الإجماع الذي نلاحظه بين الفلاسفة هو فكرة أنه ليس من الممكن حقا في الفلسفة تأسيس حقائق يمكن الاتفاق عليها، لأنه لا شيء يجعل القضايا الفلسفية صحيحة. ولكن حتى لو افترضنا أن هذه الفكرة صحيحة، فإن المشكلة هي أنها لا تفسر بشكل كامل الخلاف العام الذي يسود في الفلسفة: حتى لو لم تكن هناك حقائق فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، أو حتى لو لم يكن من الممكن تصور أننا سوف نجدها في يوم من الأيام، لدينا دليل يسمح لنا بمعرفة أننا قد حققنا هذه الأهداف، ولا يترتب على ذلك بأي حال من الأحوال أنه لا يمكن أن تكون هناك مواقف فلسفية أكثر عقلانية وأكثر تبريرا وأكثر تماسكا أو تأييدا من غيرها يمكن، بالنسبة لهذه الأنواع من الأسباب، الاتفاق عليها.

الفَصلُ الخَامِسُ: الدَّورُ الجَوهَرِيُّ لِلفَنِّ

 ما المقصودُ، إذاً، بالفنّ؟ لو تغاضينا عن مفهوم الجمال الذي لا يُفضي إلا إلى تعقيدِ الــمشكلِ، فإنَّ التعريفات الدقيقة للفنّ، والتي تشهدُ بالمجهودِ الهادفِ إلى تجريدِ مفهوم الجمال، يمكنُ تحديدها كالتالي: حَسَبَ "شيللر" و"داروين" و"سبسير" فإنَّ الفنّ نشاطٌ تنتجهُ الحيوانات أيضاً؛ إنَّهُ نتاجُ الغريزة الجنسيّة وغريزة اللّعب. ويضيفُ "آلان كارنت" أنَّ الفن نشاطٌ يُولِّده فورانٍ عصبيّ لذيذ. أما حسبَ تعريفِ "فيرون"، فإنَّ الفن هو التجليّ الخارجي لانطباعاتٍ جوانيّة تنتجُ عن تموُّجاتٍ وألوانٍ وأصواتٍ وحركاتٍ وكلماتٍ.  

ووفق تعريف سيلي، فإنَّ الفنَّ إنتاجٌ لفعلٍ مستمرٍ أو حَتى أفعال عرضيّة بوسعها تزويدُ منتجيها بمتعةٍ حيويّة ومن ثمة خلق شعورٍ مُبهرٍ عند عدد كبيرٍ من المشاهدينَ بصرفِ النظرِ عن أيِّ اعتبارٍ للمنفعةِ (المُمارسة).

والحاصل، فإنَّ هذه التعريفات ناقصةٌ وغير تامّةٍ؛ لأنَّها، بكلّ بساطة، تستمدّ نُسغَهَا من المُعطى الميتافزيقيِّ الذي يُقرنِ الفنّ بالجمالِ.

    وبالعودة، مرةً أُخرى، إلى هذه التعريفات، نلفي أن التّعريفَ الأوّل ناقصٌ لأنّه بَدَلَ أنْ يهتم بالنشاطِ الفنيّ في حدِّ ذاته، يبحثُ فِي جُذُورِ وأُصُولِ الفَنِّ. أمّا تعريفُ "آلان كارنت" فينطوي على ابتسار ظاهرٍ، يتبدّى في أنَّ التّحفيزَ العَصَبيَّ، الذي أومأ إليه، يُمْكِنُ أنْ يرافقَ أشكالَ مُتعدّدة للنشاطِ الإنساني عامةً، الأمرُ الذي نتجتْ عنهُ أخطاءٌ في النّظريات الفنيّة الجديدة التي جعلت من تَصْمِيمِ المَلابسِ الجميلةِ والرّوائحِ الزكيّة وكذلك الوجباتِ فنونًا.

    أمَّا تعريفُ "فيرون" الذي يؤكد على التّجربة، مُفترضاً أنَّ الفنّ يرتبطُ بالانفعالاتِ، فإنَّهُ تعريفٌ يَنْأَى عن الدّقة؛ لأن بمقدورِ الإنسانِ الكَشْف عن انفعالاتِه من خلالِ الخطوطِ والألواِن والأصواتِ والكلماتِ ولا يؤثر بهذه الانفعالات على الآخرين، وحِينَهَا لَنْ يَكُونَ ما يخطّه فنًّا. وفي النّهاية، فإنّ تعريف "سيلي" نَاقِصٌ أيضًا لأنه لا يَعْدُو أن يكون مجرد ترّهاتٍ وتمارين بهلوانيّة بدل أن يكونَ فنًّا، بينمَا هُنَاكَ إنتاجات بإمكانها أنْ تكونَ فنًّا بِدُونِ أنْ تُحْدِثَ إِحْسَاسًا رَائِعاً مثل مَشَاهِد مُؤلِمَة ومُحزنة في قصيدة شعريّة أو في عملٍ مسرحيٍّ.

    إنَّ قُصُورَ هذه التّعاريف ومثيلاتِها من التّعاريف الميتافيزيقيّة ناتجٌ عن كونها تربطُ الفنّ بالمُتعة التي يَخْلقُهَا في نُفوس مُتَلَقِّيهِ ولا تهتم بالدّور المَنُوطِ بالفنِّ في حياة الإنسانِ.

(...) لقد أفرغ سياسيونا وأصحاب "الأنفس الطّاهرة" مفهوم " التضامن" من كلّ معنى بالحديث عنه في كل وقت وحين، مع ربطه بالتسامح، هذه الفضيلة السياسية بامتياز. ذلك لا يدينه، لكنّه يجعل استخدامه كمفهوم مزعجا. فليس هو مفهوما بل شعارا. وليس فكرة بل مثلا أعلى. ولا أداة بل تعويذة. نريد أن نتركه للاجتماعات العامة أو للصحف. وسنكون على خطأ. إنّ الخلط اللغوي، حتى لو استقام سياسيّا، فهو دائما خطير سياسيّا. من الأجدر الرجوع إلى الدلالة المحدّدة للكلمة، كما يقترحها الاشتقاق. يعود أصل كلمة متضامن ( في الفرنسية ) إلى اللاتينية solidus ( سوليديس). ففي الجسم الصلب solide تكون الأجزاء متضامنة، في معنى كونها لا يمكن أن تُؤَثّر على جزء دون التأثير على غيره من الأجزاء. فكُرَة البيبيليارد مثلا: صدمة بإحدى نقاطها تجعل الكرة كلّها تسير. أو داخل محرّك: تكون القطعتان متضامنتين، حتى لو كانتا منفصلتين، إذا ما لم يقدرا على الحركة إلاّ معا. فليس التضامن أولا شعورا، ولا حتى فضيلة. إنّما هو اتساق داخلي أو اعتماد متبادل، كلاهما موضوعي ومنزوع، على الأقلّ في هذا المعنى الأوّلي، من كلّ غرض معياري. فَستكون كُرَة البيبيليارد بيضاوية بلا شكّ أقلّ ملائمة، لكنّها لن تكون مع ذلك أقلّ صلابة. وما يضفي عليه، أي التضامن، معنى، في اللغة اللاتينية الحقوقية، في عبارة " in solido » "، التي تعني في الجملة أو كُليّة. فالمدينون متضامنون حينما يحمّل أحدهم مسؤولية ( في حال يثبت فيها الآخرون إفلاسهم) مجمل مبلغ الدين. هو بالطبع ضمان، للدائن، وخطر بالنسبة إلى كل من المدينين. وعلى سبيل المثال، يمكن في حالة زوجين حديثي العهد بالزواج، وتحت نظام الاشتراك في الملكية، أن يجد أحد الزوجين نفسه مفلسا، دون إرادته، بموجب ديون الآخر، حتى لو حصلت هذه الديون دون علمه أو ضدّ إرادته. الزوجان إذن متضامنان ماليا: مسؤولان، معًا وفي كلّ شيء، عمّا يمكن أن يحدث لهما، حتى لو كانا منفصلين، أو عمّا يمكن أن يفعله أحدهما.

الترجمة:
لماذا فلسفة الإستراتيجية؟
لسبب تاريخي أولا. أدت الحرب العالمية الثانية إلى ظاهرتين رئيسيتين ، المواجهة بين الشرق والغرب وحروب إنهاء الاستعمار ، مما أدى إلى ظهور مذهبين استراتيجيين أربك السياسيين والجنود: الردع النووي والحرب الثورية. والنتيجة هي تكاثر معاهد البحوث في الاستراتيجية والصراع ، والعلاقات الدولية ، وأبحاث السلام ، وحركات الاحتجاج غير العنيفة والبيئية والإنسانية. ثم تأتي نهاية الألفية ، عندما ندرك أنه من بين هؤلاء "المتخصصين" ، قلة هم أولئك الذين توقعوا ظواهر رأس المال المتمثلة في انهيار الاتحاد السوفيتي الداخلي ونهاية الاحتكار الثنائي المتوازن ، وصعود الحماسة الدينية كقوة. الجدل السياسي ، وعودة مجازر الإبادة الجماعية. ومن هنا تأتي الحاجة إلى منظور نقدي حول هذه الإخفاقات. لسبب مفاهيمي إذن. الفلسفات السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية ؛ فلسفات القانون والفن والعلوم والرياضة والتاريخ ... هذه التخصصات الرئيسية لها مؤلفوها الكلاسيكيون وأبحاثهم المعاصرة. لقد أدت فلسفات الحرب والسلام إلى تأملات طويلة ، ولكن ليس فلسفة إستراتيجية. يخضع مفهوم الإستراتيجية للتمديد والانكماش. امتداد ، لأنه يتم استدعاؤه فيما يتعلق بالأنشطة الأكثر تنوعًا. الانكماش بسبب هذا التشتت. غالبًا ما تقتصر الدراسات "الإستراتيجية" ، بعيدًا عن التجمع في كل متماسك ، على مجالات محدودة ومنفصلة: عرض نظام مفاهيمي (كلاوزفيتز ، صن زي ، نظرية الألعاب ، إلخ) ، جزء مقطوع من خلال الواقع الكلي (سياسات الدفاع الخارجية ، الاستراتيجية العسكرية ، الثورية أو النووية ، التطوير ، تخطيط المدن واستراتيجيات الأعمال ، الممارسة الإدارية ، إلخ). إنهم لا يتجنبون الخلط بين وصف عمليات الفعل والتكتيكات من ناحية ، والنهاية السياسية من ناحية أخرى ، من خلال إخلاء ظاهرة "الصراع" وعن طريق وصف "استراتيجية" أي سلوك اجتماعي أكثر أو أقل توجهاً. منذ ذلك الحين ، أصبحت تعريفات الإستراتيجية الكلاسيكية (فن مناورة الجيوش قبل وبعد المعركة) ، والمعاصرة (التنظيم والسلوك العام للحرب والدفاع) ، والنفسية (الإرادة المزدوجة) أو الاجتماعية (البرمجة) قديمة.

ما هي الاستراتيجية؟
دعونا أولاً نرى ما هي الإستراتيجية التي لم تعد. لم يعد مجرد فن الحرب الكبرى أو النضال الثوري ، الردع أو اللاعنف ، عمل الجنود والسياسيين. لم يعد مجرد الجغرافيا السياسية التجريبية للعلاقات الدولية ، والسيطرة على الاقتصاد أو الأمن ، والتكتيكات. من الأحزاب والنقابات والطبقات وجماعات الضغط.